لم تكتمل فرحة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بجائزة نوبل للسلام. أيامٌ قلائل بعد حصوله عليها وأتته الضربة. لم تكن من متربصين في الخارج ولا من مسلحين في الداخل، بل شباب إثيوبيا. آلاف في الشوراع لا يحتفلون بحصوله على الجائزة العالمية، بل يطالبون بإسقاطه. يحملون كتابه «التوافق» لا ترويجًا له بل لحرقه.

النار المشتعلة في إثيوبيا حتى اليوم أشعلها تصريحٌ لآبي أحمد. دعاه البرلمان الإثيوبي ليجيب على استفسارات بعض النواب. من جُملة ما قال في تلك الجلسة تنديد بسياسات الإعلام الخاص. وخَصَّ اسمًا مُحددًا بالتنديد «جوهر محمد». وصفه آبي أحمد بمزدوج الانتماء والمُوالي لوطنيين. وطالبه بالتوقف الفوري عن سياسات إشعال الأزمة. وإذا لم يفعل فقد توعده آبي أحمد بوضع حد لنشاطاته واتخاذ إجراءات رادعة تجاهه إذا استمر. ثم عاد آبي أحمد ليؤكد أنَّ كل من يحملون جنسيةً مزدوجةً هدفهم هو العبث بأمن واستقرار البلاد.

إذن، فحامل نوبل قد انقلب على صديقه ورفيقه جوهر محمد. فالرجل هو من مهد طريق وصول آبي أحمد للحُكم. وتبعًا للفروق القبلية والطائفية المتأصلة في إثيوبيا، فإن آبي أحمد لم يهاجم جوهر محمد كفرد بل هاجم كل من يؤمن بسياسته ويتبع ثقافته ويشاركه دم القُربى ولقب القبيلة. وعلى منصات التواصل نجد 1.7 مليون يتابعون جوهر على موقع فيس بوك، و125 ألف متابع على تويتر.

أولئك الذين يملكون وسائل إعلام وليست لديهم جوازات سفر إثيوبية ويلعبون ألعابًا ملتويةً، تجدهم في فترات السلم ويغيبون في فترات الاضطرابات
رئيس الوزراء الإثيوبي: آبي أحمد

آبي أحمد: ابن الدولة العميقة

For English Speakers here is whats unfolding so far- Around midnight two cars pulled up and told my security details…

Gepostet von Jawar Mohammed am Dienstag, 22. Oktober 2019

التظاهرات الراهنة لم يكن دافعها مجرد مهاجمة آبي أحمد لفرد، لكن لأن الهجوم أكد لجموع الأورومو شكوكهم في أن آبي أحمد لم يعد مختلفًا عن سابقيه، وعلى الرغم من أنَّ هذا الفرد يُعتبر الأب الروحي لقومية الأورمو أكبر القوميات الإثيوبية، وأن الاستطلاعات الحالية تُظهر أن شعبية جوهر محمد تتفوق على شعبية آبي أحمد، فاسم جوهر محمد قد لا يبدو محل إجماعٍ كي تثور من أجله دولة، لكن المؤكد أنه عامل رئيس في ذلك الحراك. خريج جامعتي ستانفورد وكولومبيا الأمريكيتين، والمدير التنفيذي ومؤسس شبكة «أورميا» الإخبارية التي تبث صوت المعارضة الإثيوبية للخارج.

الحملات الإعلامية والسياسية الضخمة تُبشر المجتمع الإثيوبي بأنٌّه يُحكم حاليًّا من قبل سلطة مختلفة عن سابقاتها، لكن لم تشهد قومية الأورمو تحديدًا ما يؤكد ذلك على أرض الواقع، بل على النقيض فهم يرون ما ينفي ذلك تمامًا. يرونه في توزيع وحدات سكنية في مجمع سكني يقع بأطراف العاصمة. هذا المجمع هو ما أشعل مظاهرات عام 2015 بقيادة جوهر محمد التي تطورت لتطالب بإسقاط النظام. تظاهر الفلاحون اعتراضًا على توسيع المدينة على حساب أراضيهم الزراعية.

اقرأ أيضًا: تفاصيل انقلاب إثيوبيا الفاشل

لكن نفذ رئيس الوزراء الأسبق «هيلي مريام دسالين» المُجمع السكني على أي حال. وفي عهد آبي أحمد قرر عمدة العاصمة، تكلى أويما، توزيع الوحدات على الأفراد الذين تقدموا لها في العهد الماضي. حين طالب الناشطون بتوزيع الوحدات على أصحاب الأرض الزراعية وأهالي الأقليم، تجاهل آبي أحمد هذا الطلب. تعليله أنه مجرد خلاف بين ناشطين وعمدة العاصمة. الصمت لم يشفع لآبي أحمد. تدخلت السلطة الفيدرالية لإقليم الأورمو لتُعلن دعمها للناشطين ولحِقهم في تلك الوحدات.

تلك الحادثة تكشف بوضوح الاختلاف بين ما عليه آبي أحمد وبين ما أراده الإثيوبيون منه. فآبي أحمد جزء من الائتلاف الذي ظل يحكم البلاد طيلة 27 عامًا. وقد بات في نظر الإثيوبيين جزءًا من الدولة العميقة وموظفًا يؤمن بالبيروقراطية المملة. وهو ما لم يرده الإثيوبيون، ويظهر ذلك في دعمهم لنموذج جوهر محمد. النموذج الثوري المعارض، الذي يزلزل أركان الدولة العتيقة لينشئ دولةً جديدةً.

تصفية المعارضين؟

وحين قبل جوهر محمد بوصول آبي أحمد للحكم فلم يكن حبًّا لكن تنازلًا. تنازل جوهر محمد لما قدَّمه آبي أحمد من وعود بالإصلاح وتبني وجهة نظر الثورة. أيضًا أن وصول أحد أبناء قبيلة الأورمو للقصر الرئاسي كان أهم من اسم الشخص الذي يصل.

لكن أكثر من 80 قتيلًا، وما يُقارب 500 معتقل، يقولون إن الأمور عادت إلى سابق عهدها. شباب ثائر يطالب بالمحافظة على حقوق الأقليات والقوميات. ويدعو لتوزيع عادلٍ للسلطة والثروة. وآبي أحمد في دور الزعيم الذي لا يشغله سوى تثبيت أركان حكمه. حتى لو كان ذلك التثبيت بآليات الحكومات السابقة مثل التهديد بالإجراءات الرادعة، واتهامات التخوين.

بل جاوزها آبي أحمد بإرسال وحدة أمنية خاصة إلى منزل جوهر محمد لتطالب الأفراد المُكلفين بحماية جوهر محمد بالانسحاب. لكن رفضت القوات الحامية لجوهر الامتثال للأمر. وسارع هو لإعلان الأمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي ونشر تسجليًّا هاتفيًّا لضابط يبلغ قوات جوهر أن القرار يأتي من جهات عليا وينبغي الامتثال له.

وأعلن جوهر كذلك أن خطوة سحب القوات ليست إلا مقدمةً للمساس بأمنه الشخصي. لذا فجَّر دعوته للشباب الثوري لحماية مكتسباتهم التي لم تتحقق إلا بالدماء.

قصر الأباطرة

النظرة الراهنة لسياسات آبي أحمد تغيَّرت، فبعد أن كانت خطوةً للتكامل باتت خطوةً للاستحواذ. يؤمن آبي أحمد، ويسعى جاهدًا، لدمج الأحزاب القومية في جبهة وطنية واحدة. الجبهة في رأي آبي أحمد ستعزز الشعور بالوطنية والتكامل. إذ إنَّ النعرات الإثنية المنتشرة والشعور الوطني المتراجع في رأيه نابع من انتشار الأحزاب القائمة على أساس قومي وعرقي.

في حين يرى جوهر ورفاقه أن تلك السياسة تهدف إلى سلب حقوق القوميات. وإن إلغاء الفيدرالية الإثنية القائمة سيعود بإثيوبيا إلى النظام المركزي الواحد. لتصبح الدولة تحت قيادة شمولية تُطيل عمر بقاء آبي أحمد في السلطة. الأمر الذي يبدو فيه اتهامٌ كبير غير مُدعم بالأدلة لآبي أحمد. لكن بعض القرائن قد ترجح تلك الكفة. منها أحداث افتتاح القصر الجمهوري. في تلك الحفلة دعا آبي أحمد عددًا كبيرًا من رؤساء الدول الأفريقية، وفي حديثه بينهم مجد كل الحكام الذين سبقوه. منذ عصر الملك «منيليك» ثم الإمبراطور «سلاسي»، القيادات التي قمعت بالحديد والنار إثيوبيا لعدة عقود.

ثم زاد آبي أحمد على مجرد الحديث بإقامة تماثيل لهؤلاء الملوك. دون مراعاة للغضب المتوقع من الشعب الذي اكتوى بنيران تلك الأنظمة. تلى تلك الحفلة صدور كتابه «التوافق» الذي وُزِّع بالأوامر المباشرة وحظي بالدعم الإعلامي الرسمي. الأمر الذي يشبه أفعال الأنظمة الشمولية، خاصةً أن محتوى الكتاب جاء متركزًا على ضرورة إلغاء الأحزاب القومية وإنشاء ما سمَّاه آبي أحمد «وحدة الأحزاب السياسية».

اقرأ أيضًا: آبي أحمد: هل نشهد ميلاد قائد أفريقي طال انتظاره؟

بسبب تلك الأحداث التي تستفز قطاعًا عريضًا ومتنوعًا من الشعب الإثيوبي، لم يعد من الممكن حصر الاحتجاجات في قوميةٍ معينة. كما أن جوهر محمد صار بطلًا وطنيًّا يتحدث بصوت غالبية الشعب، لا بصوت قومية الأورومو فحسب. وهو ما يعد مؤشرًا على النقيضين، تراجع شعبية آبي أحمد وسطوع شمس جوهر محمد. خاصةً بعد إصرار آبي أحمد على حضور القمة الروسية الأفريقية في سوتشي بينما نار الاحتجاجات تأكل بلاده. ما زاد من حنق الغاضبين، ونمَّى شعورهم أن آبي أحمد أضحى غريبًا عنهم.

وتورطه الآن في إزهاق ما يزيد على 80 روحًا يأخذ الأمر لمستوى آخر. مستوى يتجاوز استطلاعات الرأي حول درجة الشعبية والتأييد، إلى المساءلة القانونية والأخلاقية عن تلك الأرواح.

انتخابات 2020

مهما كانت نتائج الأحداث الراهنة فالانتخابات التشريعية المُقررة في مايو/ آيار 2020 هى محط أنظار الرجلين. فكلاهما يريد تقييم الآخر ومعرفة قدرته على الحشد. كما أنَّه لا أحد منهما يريد أن يرتكب خطأ إلا أن كليهما يريد دفع الآخر لهذا الخطأ. وهو ما لم يستبعده جوهر محمد حين أعلن أنَّه ربما يترشح أمام آبي أحمد في الانتخابات القادمة. لكن لا نعرف ما إذا كانت جنسيته المزدوجة سوف تسمح له بذلك أم لا.

لكن تلك اللعبة السياسية التي يخوضها الرجلان تبدو شديدة الخطر. فإثيوبيا على بُعد خطوات قليلة من الانزلاق في اقتتال داخلي. خاصةً أن جوهر محمد يُلمِّح باستغلال غضب أقلية «الكيرو» التي لم تحصل على استقلال ثقافي أو سياسي حتى الآن.

ما يضع آبي أمام معضلة شديدة الحساسية بين الاستجابة للمطالبات بمزيد من الحريات السياسية وبين حاجته لكبح جماح جهات فاعلة تقوم بالتعبئة السياسية بناءً على العرق أو الدين لتحصل على مزيد من الأراضي والسلطات. المأزق الذي يجب على آبي أحمد أن يجد مخرجًا منه بأقل الخسائر، وبالتأكيد قبل الوصول لانتخابات 2020.