بعد غياب طويل لم تقطعه سوى بعض المناوشات والهجمات المحدودة، عاد تنظيم داعش الإرهابي مجددًا ليصبح محور اهتمام العالم وتتصدر أخباره الشاشات بعدما نجح في شن هجمات متزامنة في دولتين مختلفتين.

ففي العشرين من يناير/كانون الثاني قرب الفجر شهد أحد معسكرات الجيش العراقي هجوماً لمجموعة من الدواعش أسفر عن مقتل عشرة جنود وضابط خلال نومهم وتمكنوا من الفرار سريعًا، وفي نفس الوقت هاجم زملاؤهم في سوريا أحد أشد المواقع تحصيناً في مناطق سيطرة الميليشيات الكردية وهو سجن الصناعة في حي غويران داخل مدينة الحسكة شمال شرقي البلاد بهدف تحرير عدة آلاف من الدواعش المعتقلين الذين كانوا على علم مسبق بالهجوم وشاركوا فيه في نفس الوقت.

في البداية ادعت وحدات الإدارة الذاتية التي يهيمن عليها الأكراد، وتتبع لها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أنها أحبطت الهجوم بنجاح نافية هرب المعتقلين، وفي اليوم التالي أعلن مظلوم عبدي، قائد القوات الكردية نفس الكلام ثم توالت البيانات والتصريحات مرارًا التي تكرر إعادة السيطرة على السجن مجددًا وإنهاء التمرد على مدار أسبوع تقريبًا، ليتبين بعدها عدم صحة كل تلك الادعاءات.

أعلن داعش أنه أرسل 12 مقاتلاً فقط لشن الهجوم بينما أعلنت قسد حشد عشرة آلاف جندي للتصدي للعملية، إلا أن المرصد السوري لحقوق الإنسان كشف عن أن العشرات من مقاتلي التنظيم ظلوا يتحصنون داخل مواقع في السجن يصعب اقتحامها أو استهدافها من الجو نحو 10 أيام إلى أن انتهت المعارك في الثلاثين من يناير/كانون الأول.

وأعلنت «وكالة أعماق» التابعة للتنظيم الإرهابي هرب 800 معتقل ونشرت صورًا تظهر خروج بعضهم من السجن، وأخرى تظهر أسر مجموعة من قوات قسد، مما دعا الأخيرة للإعلان أنهم مجرد عمال في مطبخ السجن وليسوا مقاتلين، وأن مئات القتلى سقطوا معظمهم من داعش.

لكن المثير في الأمر أن العملية لم تكن مفاجئة بل إن المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية نشر منذ أقل من شهر اعترافات لمعتقل داعشي تضمنت فضح خطة اقتحام السجن المذكور، ومع ذلك نجح الهجوم المـُعلن عنه مسبقًا!

وسربت مصادر كردية أنباء عن عقد صفقة سرية بين قسد وداعش وذلك بهدف تحرير رهائن للميليشيا تمكّنَ التنظيم من أسرهم خلال المواجهات وتمكن نظير ذلك من إطلاق سراح بعض معتقليه وتهريبهم إلى جهات مجهولة.

جدير بالذكر أن الآلاف من مقاتلي التنظيم يقبعون في سبعة سجون في مناطق السيطرة الكردية، من بينها سجن غويران، إضافة إلى أكثر من ستين ألفًا من نسائهم وأطفالهم في مخيمي الهول وروج، رفضت دولهم استقبالهم ويسعى التنظيم الآن لاستعادتهم جميعًا.

من المستفيد؟

تحكم ميليشيات الأكراد مناطق شرق الفرات شمال غربي سوريا وتطلق عليها اسم «روج آفا» وتعني بالكردية «الغرب» لأنهم يعتبرونها الجزء الغربي من دولة كردستان الكبرى التي يحلمون بتأسيسها، واستمدت الميليشيات شرعيتها أمام العالم من محاربتها إرهاب داعش وحصلت على مساعدات دولية لهذا الغرض، وأسهمت في القضاء على آخر معاقل التنظيم بعد معركة الباغوز في آذار/مارس 2019، وظلت القوات الأمريكية التي تقود التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب ترابط في قواعد بالمنطقة حتى الآن بحجة منع عودة داعش لكن وجودها كان بمثابة حماية لحلفائها الأكراد.

سعت جميع الأطراف لاستغلال الحادث لمصلحتها؛ فنظام الأسد كثف من دعايته بعدم قدرة قوات سوريا الديمقراطية على ضبط الأمن في مناطقها وضرورة عودة هذه المنطقة إلى سيطرته.

وقد بدأت قسد في التفاهم مع نظام الأسد وروسيا خلال العملية العسكرية التركية التي استهدفت الأكراد عام 2019، وسمح الأكراد بنشر قوات النظام والروس في عدة نقاط، ومؤخرًا أجرت موسكو محادثات مع قسد حاولت إقناعها بتسليم الجزء الشمالي من محافظتي الحسكة وحلب بحجة حمايتها من عملية عسكرية تركية وشيكة، كما تزايدت المخاوف مؤخرًا من احتمال سماح واشنطن لأنقرة باستكمال السيطرة على الشريط الحدودي والتقارب بينهما على خلفية الأزمة الأوكرانية.

وتعيش ميليشيات قسد حالة استنفار دائمة بسبب خوفها من عملية تركية جديدة ضد مواقعها، وقد استغلت أنقرة انشغال الأكراد في حادثة سجن غويران وشنت هجومًا على قواتهم في ريف عين عيسى.

وفي العراق استغلت الميليشيات الولائية في الحشد الشعبي عودة هجمات داعش في سوريا والعراق في استعادة زمام المبادرة في وقت تواجه فيه أزمة شرعية بعد خسارتها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وازدياد النقمة الشعبية ضدها في الشارع الشيعي وتأزم علاقاتها مع التيار الصدري الذي يريد استبعادها من الحكومة لأول مرة، فصعدت من حملاتها الأمنية في مناطق العرب السنة في شرق البلاد وغربها تحت لافتة مكافحة الإرهاب وهي اللافتة التي تعد مسوغ وجودها من الأساس ومن دونها لا يصبح هناك مبرر لوجودها.

وشددت الميليشيات العراقية الولائية المقربة من إيران قبضتها على منطقة الحدود العراقية مع محافظة الحسكة السورية لا سيما وأن كثيرًا ممن اشتركوا في هجوم غويران من الدواعش العراقيين وفقًا لما تم إعلانه.

وشهدت الفترة الأخيرة بعد الانتخابات العراقية تكثيفًا للهجمات التي طالت أهدافًا عديدة منها منزل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وجهات سياسية سنية وكردية، ونسبت هذه الهجمات إلى الحشد الشعبي الذي يخشى قادته من استبعادهم من تشكيل الحكومة لأول مرة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، وهو السيناريو الذي قد ينتج عنه رفع الغطاء الحكومي عن تلك الميليشيات.

كما أن حادثة مقتل الجنود العراقيين على يد داعش تم توظيفها إعلاميًا بشكل مقصود من جانب الميليشيات الولائية للإساءة للجيش والترويج لأن الحشد الشعبي هو البديل القادر على دحر الإرهاب كما وقع في 2014 حين فشل الجيش في هذه المهمة وعجز عن حماية البلد لأنه تأسس على أيدي قوات الاحتلال ولا يمتلك عقيدة قتالية تُمكّنه من التصدّي بفاعلية للتهديدات الأمنية لتظلّ الحاجة إلى الأمريكيين قائمة، وروجت الميليشيات كذلك لوجود مؤامرة على الحشد الشعبي تهدف لخلخلة المعادلة الأمنية التي تم ترسيخها منذ إعلان القضاء على داعش في العراق عام 2017، وهي الصيغة التي تحمي أمن البلد واستقراره!

الخاسر الأكبر

خلال الهجوم على سجن غويران استغلت قوات سوريا الديمقراطية الحدث- الذي كانت على علم به مسبقًا- وأقدمت على تهجير نحو 45 ألف شخص من سكان حي الصناعة الذي يوجد فيه السجن والذي يمثل مركز الثقل العربي في الحسكة، وألجأتهم إلى افتراش المساجد وصالات الأفراح في ظل ظروف طقس غاية في السوء، وكثرت البلاغات من العشائر العربية عن اختفاء ذويهم خلال المواجهات، كما تم قصف محيط السجن وتعرضت المناطقة السكنية والمباني الجامعية القريبة للدمار خلال المواجهات.

وتـُتهم الميليشيات الكردية منذ سنوات بتهجير العرب السنة من مناطقهم في شمال سوريا والتجنيد القسري لأبنائهم وزجهم في مواجهات عسكرية لا شأن لهم بها مما أفقدها الحاضنة الشعبية وصارت مكروهة وسط السكان، ومؤخرًا وجه مضر حماد الأسعد، المتحدث باسم القبائل و العشائر السورية، اتهامات للميليشيات الكردية بالوقوف وراء اغتيال وجهاء العشائر العربية.

وعلى خلفية هجوم غويران، شنّت قسد حملات مداهمة للمنازل واعتقالات جماعية في أحياء المدينة خصوصًا «غويران» و«الزهور» تحت مبرر مطاردة فلول داعش أو خرق حظر التجوال الذي فرضته في المدينة، فيما تظاهر عدد من الأهالي في ريف الحسكة مطالبين الميليشيات بإطلاق سراح أبنائهم الذين وقعوا أسرى لدى داعش والذين ظهروا في تسجيلات مصورة وهم في قبضة التنظيم مع التهديد بإعدامهم.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن هذا الهجوم وما ترتب عليه يصب في النهاية في صالح المخطط الإيراني المعلن الذي يتضمن تنفيذ مشروع لربط المنطقة ما بين دجلة والفرات في شمال سوريا والعراق بمسار للسياحة الدينية يـُدعى «طريق السبايا» تقع محافظة الحسكة في قلب هذا الطريق، ويشتمل هذا المخطط على عملية تغيير ديموغرافي تم تنفيذ جانب كبير منها بالفعل في البلدين، عبر تهجير العرب السنة من محافظاتهم كما وقع في البلدين خلال الحرب على تنظيم داعش خلال السنوات الفائتة، وتبدو واقعة غويران كحلقة جديدة ضمن هذا المسلسل.