نبكي،
لأنك كل مافينا:
من الحُبّ المقدس،
من عذابات الكلام،
من السقوط بنارِ صدك،
من مواعيد الرياء،
من الخضوع لزائر تحت الظلام..
دخيل خليفة، قصيدة صهيل مؤجل

على الرغم مما يبدو عليه عالم الصحراء من ثراء واتساع، وما يحويه عالم البادية طوال الوقت من صراعات حادة وحاسمة ومختلفة، إلا أن اقتراب الرواية العربية منه طوال الوقت كان نادرًا. ربما يعود السبب في ذلك كون الرواية ابنة المدينة في المقام الأول كما يذكر النقاد ومؤرخو الأدب، على عكس الصحراء والبادية التي كانت، ولا تزال، تربة خصبة للشعر والمواويل التي يرددها رعاة الماشية في رحلاتهم بحثًا عن الزاد.

بين الشعر والرواية، ينسج الروائي سعود السنعوسي خيوط روايته الجديدة «ناقة صالحة» التي تدور في عالمٍ جديد كليًا عمّا اعتاده القارئ من السنعوسي، حيث يعود إلى بدايات القرن العشرين، وقبل نشأة الدولة الحديثة، في عالم البادية الكويتي القديم بتفاصيل شديدة المحلية والواقعية، حيث تدور الرواية  بين عالم الحيوان وعلاقته بالإنسان وبين المشاعر التي يمكن أن تنمو وتظهر بين بنتٍ من هذه البيئة وقريبها في هذه الأجواء شديدة الصعوبة والوعورة.

لم يغب التجريب عن السنعوسي في هذه الرواية التي  أراد لها منذ البداية أن تكون «نوفيلّا» صغيرة الحجم (170 صفحة) من قطعٍ صغير، حيث يكون بإمكانه أن يشحذ طاقته الكتابية في عدد أقل من الصفحات، وأن يجذب انتباه القارئ وتركيزه في الوقت نفسه لئلا تفلت الحكاية من بين يديه، خاصة وأن مفردات عالم الصحراء والبادية التي امتلأت بها الرواية وتفاصيل تربية الجمال وعلاقة صالحة بها كانت واحدة من عوامل إبطاء إيقاع السرد في الرواية مما جعل موازنة ذلك ضرورية.

الكويت مرة أخرى

قسَم السنعوسي روايته إلى خمسة أقسام تبدأ بإمارة الكويت عام 1941 حيث «الشيخ محمد» يحكي الحكاية لصبيه تلك الحكاية التي تأخذ الثلاثة أقسام التالية ويعود فيها الكاتب إلى عام 1901 (قبل العلم والعِلم وبعد العلم) التي تأتي بصوت دخيل مرة وبصوت صالحة مرة أخرى، حتى تنتهي الرواية مع «الشيخ محمد» مرة أخرى في بادية الكويت عام 1941 ونهاية تلك الحكاية، ولكن الأمر لا ينتهي عند ذلك الحد بل يكسر السنعوسي إيهام القارئ بالرواية بملحقٍ يضعه في نهاية الرواية يوهم فيه القارئ أن كل تلك الحكايات موثقة ومسجلة في كتب ومؤلفات تاريخية تتحدث عن ديار صالحة.

لا شك أن كل هذا الولع بالبناء وبمحاولة كسر رتابة الحكاية كان عاملاً هامًا في إضافة المزيد من الحيوية للسرد، وجعل القارئ متشوقًا لمواصلة التعرف على المزيد من التفاصيل، وشغل باله حتى النهاية في مساحات التأويل المحتملة التي يمكن أن تقبلها الرواية.  

هذا الربيع يشبه حربًا بين الشتاء والصيف لا يستقر على حال. الشمس تطبخ رؤوسنا ولا ماء في قربتي والعرق لا يروي الظمأ. ليس لي وللصغير إلا الصبر على سياط الشمس، وحليب ضرع زاحمنا به الحُوار، ونبوءةٌ بشرتني بها سحابةٌ لا تعود. أتكون الكويت سحابة تبشّر بما لا يجيء؟ أم سرابًا لا يُضنيه نأيٌ أبدي؟ أم نجمة ترشدنا إلى كل الدروب إلا دربًا يؤدي إليها؟ يبدو أني أموت أدركها ميتة على ظهر ناقتي، وقت تدلف الحاضرة مع ابنها يلتقيان ساري، ويلتقي ولدي من؟
ناقةُ صالحة، سعود السنعوسي

ليست مجرد قصة حب

تبدو حكاية الحب المستحيل واضحة للعيان منذ بدايات الرواية، وتتصاعد مع القارئ حتى يلتقي الحبيبان «صالحة» و«دخيل» على الرغم من زواجها، ثم يرحلان فتتخفف الرواية تدريجيًا من تلك القصة التي تبدو مغرية ومغوية للمزيد من التفاصيل.

ينتقل بنا الكاتب إلى ما يود أن يحكيه، وما التقطه من أغنية ينسبها إلى الشاعر «دخيل بن أحمر» وافتتح بها روايته من قصيدة «الخلوج»، وبين قصيدة صادَف أن صاحبها اسمه دخيل الخليفة أيضًا ولكنه شاعر معاصر (من مواليد الكويت 1964) وهي قصيدة «صهيل مؤجل» التي اقتطع منها السنعوسي عددًا من الأبيات قدم بها فصول روايته، وهي قصيدة تتحدث عن الوطن وعلاقة الشاعر به، وعن تلك الأحلام التي نجدّ في طلبها ولا نجدها، عن ما بذله الناس ويبذلونه طوال الوقت في سبيل الحصول على موطئ قدم، عن ذلك الوطن الذي يغيب ويتوه من بين عيوننا بينما ندور جادين في البحث عنه!

ربما لم يأت الحديث عن الوطن ومشكلات المجتمع فيه هذه المرة مباشرًا كما سبق أن تناوله سعود في رواياته السابقة، ولكننا في نهاية الرواية لا نلبث أن نجد أثر ذلك الهم الأكبر حاضرًا بقوة، وهو ما يسعى السنعوسي إلى تأكيده على الدوام، وما يحاول دائمًا أن يجد له صيغًا مختلفة ويجذب القارئ من خلاله بشكلٍ مختلف في حوارٍ له في الجريدة الكويتية يتحدث سعود السنعوسي عن هذه الرواية وعن الكتابة بشكل عام فيقول:

كل ما يشغلني هو الكتابة عن فضاء جديد يمنح جديدًا للقارئ، ويا حبذا لو جاء الجديد بهمٍّ يلامس الإنسان، يمنحني فضاءً أشاكس فيه بعض القضايا، وإن بالرمز بشكل غير مباشر. هناك فئة من البشر تحلم بإدراك الوطن، رغم عيشها فيه، وهذا ما صور لي الرحلة الصحراوية في «ناقة صالحة»، حيث تعبر صالحة الصحراء، وتتبع الشمس، وجهة الكويت، تربط رضيعها إلى ظهرها وهي تمتطي ناقتها، تقطع الصحراء من بادية الكويت إلى قلب الإمارة في الحاضرة البحرية للقاء حبيبها.
سعود السنعوسي ـ، جريدة الجريدة الكويتية

هكذا استطاع السنعوسي أن يخوض مع القارئ تجربة أدبية مختلفة، وأن يجعله يدور معه حول صالحة وناقتها التي تبدو في النهاية انعكاسًا لأحلام هذه الفتاة التي عاشت في ديار القبيلة حتى سمت نفسها باسمها، حتى يقتبس السنعوسي قصيدة «الخلوج» للشاعر محمد عبد الله العوني وينسبها إلى بطله وحبيبها دخيل بن الأحمر، وهذا هو الجزء الواقعي الحقيقي الوحيد الذي قامت عليه الرواية التي سعى السنعوسي إلى إيهام القارئ بأنها قصة حقيقية من خلال الملحق المخترع هو الآخر الذي يذكر فيه «ديار صالحة» وكأنها مكان حقيقي في الكويت!

كانت شخصيات الرواية حاضرةً بشكلٍ شديد التكثيف والإيجاز، ربما باستثناء صالحة التي حازت الجزء الأكبر من الحكاية بصوتها وعلاقتها، فيما ظهرت شخصيات أخرى شديدة التأثير وإن كان بشكلٍ عابر، وجاء رسمها من خلال الإشارة والمواقف الدالة شديد التعبير، فلا ينسى القارئ شخصية مثل «فالح» أو «أم دحام» أو «حَسنى» وغيرهم، بالإضافة إلى طريقة عرضه لأحوال الناقة وتماهي البطلة «صالحة» معها الذي يجعل القارئ يتشكك في النهاية في وجودها من عدمه.

اقرأ أيضًا: «حمام الدار» التشكيل الجمالي بين الرمزيّة والتجريب

تنتهي الرواية والحكاية، ولا تنتهي بالتأكيد التساؤلات التي تطرحها، لا سيما ما يتعلق منها بالمسافة بين الخيال والحقيقة، وهي تلك اللعبة التي جربها الكاتب من قبل بطريقة مختلفة في روايته السابقة «حمام الدار»، ولكن الفرق هذه المرة هو الغوص في عالم الصحراء ومفرداتها، التي يُذكر للسنعوسي أيضًا هنا أنه استطاع أن يتمثلها تمامًا، وأن يجعل كل قارئٍ حريصًا على محاولة البحث أثناء قراءة الرواية وربما بعدها عن معاني بعض المفردات والكلمات الخاصة بتلك البيئة الصحراوية (مثل دحل، حُوار، مزودة، خلوج) وغيرها.. التي صبغت الرواية كلها بصبغة صحراوية واقعية شديدة التأثير.  

سعود السنعوسي روائي كويتي شاب حاز على جائزة البوكر العربية عن روايته ساق البامبو عام 2012، وترجمت إلى عدد من اللغات العالمية.  وسرعان ما لفت إليه الأنظار برواياته التالية «فئران أمي حصة» التي صدرت 2015 ورغم أنها منعت من التدوال في الكويت فإنها انتشرت في العالم العربي كله، ونجح في أن يحصل على إذن قضائي بنشرها مؤخرًا، كما كتب «حمام الدار» التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2018.