لا صوتَ يعلو فوقَ صوت كوفيد-19، رغم مرور عامٍ ونصف على تلك الجائحة العالمية، وفتكها بأرواح ما يُقارب 3 ملايين ونصف المليون من البشر، وإصابة ما يُقارب 170 مليونًا آخرين، وإنهاك المنظومات الصحية حول العالم، وإفساد الكثير من جوانب حياتنا الاجتماعية والاقتصادية.

في الأيام الأخيرة كثُر الحديث في الأوساط الطبية وانتقل منها إلى الرأي العام العالمي، عن إحدى المضاعفات الفتّاكة للإصابة بكوفيد-19، لاسيَّما حالات الإصابة الشديدة به، وهو الإصابة بما يُعرَف باسم «الفطر الأسود» والذي يعتبر مرضًا مُميتًا، حيثُ تقترب نسبة الوفاة من حوالي 50% من المصابين به.

وقد شهدت الهند، التي تُقاسي واحدة من أسوأ موجات الإصابة بكوفيد-19 حاليًا، تصاعدًا غير معتاد في حالات الإصابة بهذا الفطر الخطير بين المصابين وحتى بعض المتعافين من عدوى كوفيد-19، وتجاوز عدد تلك الحالات 7200 في الهند، وكان المعتاد تسجيل بضع عشراتٍ من الحالات فقط سنويًا.

وقد شغل هذا المرض أذهان الكثير من المصريين في الأيام الأخيرة بعد أن سرتْ شائعات حول إصابة الممثل الراحل «سمير غانم» بهذا المرض قبل وفاته، وبعد إصابته بعدوى شديدة من كوفيد-19.

فما حقيقة هذا الفطر الخطير؟ وهل نشهد وباءً عالميًا له؟

الفطر الأسود Mucormycosis… موت قديم جديد

مبدئيًا، فإنَّ هذا المرض ليس جديدًا، وهو معروف منذ سنواتٍ طويلة. وهو مرضٌ فتَّاك، لكنَّه لحسن الحظ شديد النُدرة، تُسبِّبه فطريات تعيش في الطبيعة في التربة، وفي السماد الطبيعي، وفي المواد العضوية المتحللة كالأخشاب المتعطِّنة وأوراق الشجر والثمار المتعفِّنة، وتحمل الرياح الخلايا الفطرية المعدية أو الأبواغ spores إلى مسافات بعيدة، ويُمكِن أن يستنشقها الإنسان بشكلٍ عارض. وترجع تسمية الفطر الأسود إلى لون أنسجة الجسم الفاسدة المتحللة بفعل الإصابة.

من المعرَّضون للإصابة؟

من شبه المستحيل أن يصيب هذا المرض الفطري صغار السن وأصحاب المناعة القوية، لذا فالغالبية العظمى من المصابين يعانون من حالات ضعف المناعة، كالمصابين بمرض الإيدز، أو من يُعالَجون بمثبطات المناعة والكورتيزونات، ومنْ يعانون من الأمراض المزمنة التي تزيد فرص الإصابة بالعدوى مثل مرض السكر، أو منْ يُصابون بجروحٍ خطيرة ملوثَّة، أو الأطفال المُبتسَرين وحديثي الولادة الذين استدعت الحاجة الطبية تعاطيهم لمضادات حيوية قوية أو إجراء جراحة،… إلخ.

يذكر المركز الأمريكي لمكافحة الأمراض CDC أن الإصابات بالفطر الأسود تحدث عادةً على هيئة مجموعات صغيرة أو أوبئة محلية outbreak clusters، لاسيَّما بين مرضى زراعة الأعضاء الذين يتعاطون مثبطات المناعة، ويُسجّل المركز بين حالة واحدة إلى 3 حالات سنويًا.

كيف تحدث الإصابة؟

في حالة استنشاق الأبواغ الفطرية المعدية، تحدث الإصابة في الجيوب الأنفية أو الرئتيْن، أمّا في حالة تلامسها مع إصابة في الجلد كجرح أو حرق… إلخ، ستبدأ الإصابة بالتهاب الجلد، ثم تتفاقم العدوى داخل الجسم، خاصةً في حالات إصابة المجرى التنفسي، فيحدث التهاب شديد في الرئتيْن، وقد تُسبِّب العدوى التهابًا كبيرًا وتلفًا في الأنف أو العينيْن وقد تمتد إلى المخ عبر الجيوب الأنفية.

اقرأ: مجموعة البرد: هيا ندمر المناعة ونغذي البكتيريا.

ما أبرز الأعراض؟ وكيف تُشخَّص الإصابة؟

تختلف الأعراض حسب مكان الإصابة في الجسم، ففي الجلد، تظهر على شكل تقرّحات، لا تلبث مع المزيد من تلف الأنسجة أن تتحول إلى اللون الأسود المميز، ويصاحبها أعراض الالتهاب كارتفاع الحرارة، والألم، والاحمرار والتورم.

أمّا في حالة إصابة الجيوب الأنفية، فيحدث تورم ظاهر في أحد جانبيْ الوجه في موضع الجيب الأنفي المُصاب، مع صداعٍ شديد، واحتقان بالأنف، ثم يظهر السواد داخل فتحتي الأنف أو على الأنف من الخارج، ولا يلبث أن يتفاقم بشدة ويتلف الأنف ويمتد إلى العين والمخ، وتحدث أعراض الالتهاب المخي كاضطراب درجة الوعي والتشنجات، وهذا يعني اقتراب وقوع الوفاة.

وإذا امتدت الإصابة إلى الرئتيْن، يحدث ضيق واضح بالتنفس، وسعال شديد. أمّا في حالة إصابة الجهاز الهضمي، فيعاني المريض من آلام البطن والبراز المدمِّم، والقيء، …إلخ.

ونظرًا لعمومية الأعراض، واشتراكها مع أمراض أخرى أكثر شيوعًا، يحتاج التشخيص إلى درجةٍ عالية من الشك من الطبيب بالرجوع إلى وجود عوامل الخطر التي تضعف المناعة، وغالبًا ما يتأخر التشخيص حتى يظهر التحلل الأسود المميز للمرض، وحينها يسارع الأطباء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ويمكن تأكيد التشخيص بفحص عينات من تلك الأنسجة التالفة تحت المجهر.

هل يوجد علاج للفطر الأسود؟

الوقاية من هذا المرض خيرُ من العلاج بفارق شاسع، فبينهما ما بين الثرى والثُّريا. أمّا في حالة وقوع الإصابة، فلابد من التدخل الطبي العلاجي والجراحي السريع دون هوادة للسيطرة على مضاعفات المرض، التي تكون عادةً آخذة في التدهور لحظة اكتمال التشخيص.

يقوم الجرّاحون باستئصال أكبر قدرٍ ممكن من الأنسجة التالفة، حتى لو استلزم الأمر استئصال الأنف أو العين أو جزءٍ من المخ… إلخ، وتتداخل عدة تخصصات جراحية في هذه العملية، خاصةً جراحة التجميل، والأنف والأذن، والمخ والأعصاب. وبدون التدخل الجراحي تكون فرص النجاة شبه معدومة.

ويتزامن مع الشق الجراحي، استخدام مضادات الفطريات واسعة المجال بالتنقيط الوريدي وأشهرها الأمفوتريسين بي، والذي تُعاني الهند من نقصٍ شديد في توافره هذه الأيام نتيجة الزيادة غير المتوقعة في الحاجة إليه، إلى جانب ارتفاع سعره هناك حيث تكلفة الجرعة اليومية الواحدة هناك حوالي 50 دولار أمريكي على الأقل، وقد يحتاج المريض إلى تعاطيه لما يقارب 6 إلى 8 أسابيع. وله العديد من الآثار الجانبية وأشهرها اختلال أملاح الدم كنقص البوتاسيوم والماغنيسيوم، وما ينتج عن هذا من اختلالات كهربية في القلب، والقيء، والغثيان، واختلال وظائف الكلى والصداع وآلام الجسم، …إلخ. وأشهر أسمائه التجارية في مصر «ambisome» ويبلغ سعر الجرعة الواحدة منه 1820 جنيْهًا.

وهناك بعض مضادات الفطريات الأخرى مثل إيسافوكونازول وبيساكونازول، لكنها أقل فاعلية من الأمفوتريسين بي.

هل نشهد وباءً عالميًا للفطر الأسود؟

لا شك أن تلك العبارة من المبالغات الشديدة، فقدرة هذا الفطر على الانتشار والتسبب في إصابة البشر محدودة للغاية، لاسيَّما وهو يحتاج لضعفٍ شديد في المناعة لكيّ يتمكن من إصابة المرضى. ومن أهم الموانع أمام انتشار هذا الفطر كوباء عالمي، أنه لا ينتقل من البشر إلى بعضهم البعض، ولابد أن تأتي الإصابة من البيئة المحيطة.

أما سر التزايد النسبي في حدوثه مع حالات كوفيد-19 الشديدة، هو لجوء الأطباء إلى استخدام جرعاتٍ كبيرة من الكورتيزون للسيطرة على الاختلال المناعي الذي يُصاحب تلك الحالات والمعروف باسم «عاصفة السيتوكينات»، والتي تُسبب تلفًا كبيرًا لأنسجة الرئتيْن وغيرهما من الأعضاء الحيوية.

اقرأ: الكورتيزون: المفيد جدًا والضار جدًا.

والكورتيزون في علاج كوفيد-19 لا يزيد فرص الإصابة بهذا الفطر عن طريق تثبيط المناعة وتحجيم رد الفعل المناعي فحسب، إنما عن طريق زيادة نسبة السكر في الدم، خاصةً لدى المصابين من الأصل بمرض السكر، والذين هم من الأساس مُعرَّضون للإصابة بهذا الفطر بسبب السكر.

اقرأ: كيف أحافظ على صحة قلبي في زمن كورونا؟

كيف نتجنب الإصابة بالفطر الأسود حاليًا؟

أولًا: المبدَأ والمُنتهَى، وكما قلنا ونقول وسنقول مرارًا وتكرارًا، هو تجنب الإصابة بعدوى كوفيد-19 من الأصل، أو العمل على تقليل احتمالات شدة الإصابة، وذلك بالحصول على لقاح كورونا ما استطعتَ إليه سبيلا، أيًا كان نوع اللقاح المتوفر، بجانب الحفاظ على أكبر التزام ممكن بالإجراءات الوقائية وأهمها الكمامة والمسافة الآمنة وغسل اليدين جيدًا بالماء والصابون أولا بأول.

اقرأ: أهم 8 خرافات حول تطعيمات كورونا في مصر.

ثانيًا: التوقف التام عن التساهل والتعجل في وصف الكورتيزون ومثبطات المناعة لمرضى كورونا، لاسيَّما الحالات الطفيفة والمتوسطة التي يمكن السيطرة عليها دون تلك الأدوية التي تُثبِّط المناعة، وبالأخص لدى المصابين بالسكر المزمن، والذي يجب متابعة قياس السكر لديهم بدقةٍ متناهية طوال فترة اللجوء للكورتيزون. وكذلك التوقف عن وصف المضادات الحيوية دون داعٍ، فإن تلك الممارسة تُضعِف المناعة ولا تفيد بأي شكلٍ في العلاج الفعَّال لكوفيد-19.

ثالثًأ: أصحاب الأمراض المزمنة لا سيما السكر، يحتاجون إلى السيطرة القوية على المرض بالعلاجات الدوائية، والتزام التعليمات الصحية لا سيَّما ما يخص الطعام.

رابعًا: النصائح العامة للوقاية من هذه العدوى الفطرية خارج ظروف وباء كوفيد-19: تطهير الجروح جيدًا، وارتداء الماسكات الطبية عالية الحماية N-95، وكذلك الأحذية طويلة العنق، والملابس الواقية في حالة العمل أو التواجد الطويل في الأماكن التي يكثر فيها التلوث بتلك الفطريات، كمواقع الحفر، أو الغابات، أو البنايات المُهدَّمة بسبب الفيضانات والكوارث الطبيعية. وبالطبع يُساهم الغذاء الصحي والرياضة المنتظمة في الحفاظ على قوة المناعة بوجهٍ عام.