العلاقة بين طيبة المرء وارتباطه بعالم الخوارق تبدو ذات جذور حتى في تراثنا المصري. يبدو وصف «بتاع ربنا» غريبًا وغير ذي معنى إذا ما حاولت ترجمته لقارئ أجنبي، هذا الوصف الذي يطلقه المصريون عادة على من يشعرون بطيبته ونقائه يبدو دقيقًا للغاية لشخصية لازارو الذي نتابع حكايته في الفيلم الإيطالي «Happy As Lazzaro»، والحائز على جائزة أفضل سيناريو من مهرجان كان في نسخته لعام 2018، مناصفة مع الفيلم الإيراني «3 وجوه». يعرض الفيلم في القاهرة ضمن فعاليات بانوراما الفيلم الأوروبي الحادية عشرة.

بقدر ما يوحي وصف «بتاع ربنا» بالطيبة والرقة، فإنه أيضًا يوحي بارتباط بقوى ما وراء طبيعية، قوى قد تتيح لهذا الفتى الطيب ما لا يتفق مع القواعد الفيزيائية الضيقة للكون كما نعرفه. تعتمد المؤلفة والمخرجة الإيطالية أليس رورواتشر على سرد حكاية واقعية هادئة لقرية إيطالية في الثمانينيات، قبل أن تنقلب الحكاية رأسًا على عقب حينما تكشف حادثة خطف ملفقة الغطاء عن واقع مزيف وفتى خارق.

لكن ما الرمزية وراء كل هذا؟ وهل تكفي النوايا الطيبة -وإن امتلكت قوى خارقة- لإنقاذ البشر في عالم اليوم؟


أنفيولاتا: وقائع استعباد شعب بأكمله

يبدأ الفيلم بمشهد لفتيات جميلات ذوات ملابس ريفية يتخاطفن لمبة كهربية وحيدة في منزل مظلم، تضيء اللمبة في النهاية غرفة متواضعة تزدحم فيها الفتيات وهن ينظرن من شباك صغير يطل على شارع ترابي يقف فيه شاب يحب إحداهن، وترافقه فرقة موسيقية شعبية صغيرة تحمل جيتارًا ولا شيء أكثر.

هذا المشهد التأسيسي يدخلنا لعالم أنفيولاتا، القرية الصغيرة المتخيلة، التي يبدو سكانها من الفلاحين كما لو كانوا يعيشون في القرن التاسع عشر، في حين ندرك عقب هذا أنهم مستعبدون لدى سيدة تخفي عليهم أنهم يعيشون في ثمانينيات القرن العشرين.

أنفيولاتا تعني بالإيطالية الشيء الذي لم يمس من قبل، الشيء البكر، وهي تسمية مناسبة تمامًا لقرية منعزلة عن العالم، لا يصلها به سوى جسر تهدم ولم يهتم أحد بإصلاحه.

يعمل سكان القرية جميعًا كمزراعين في حقول التبغ الخاصة بالماركيزة دي لونا، سيدة مخادعة، ولكنها تصدق أن ما تفعله طبيعي، تتوحد مع الكذبة التي صنعتها وتعيشها، تستعبدهم وتبقيهم مدينين لها حتى الموت، وعلى جانب آخر فلا يفوتها أن تعلم قلة من أطفالهم القراءة والكتابة بنفسها.

يسير كل شيء بشكل واقعي في الساعة الأولى من حكاية هذه القرية الإيطالية المختطفة، والتي نراها بألوان السيبيا الباهتة في كادرات أليس رورواتشر التي اختارت كاميرات 16 مللي لتطلي كل ما نشاهده بطابع النوستالجيا.

يصل ابن الماركيزة أخيرًا لزيارة القرية. تانكريدي الذي نتعرف من ملابسه وهاتفه المحمول أن هؤلاء البشر مختطفون في الماضي. يصارح والدته بأنها تستغل هؤلاء البشر بشكل قاسٍ فتخبره أن البشر حيوانات يستغل بعضهم بعضًا، الاستعباد الذي تمارسه عليهم بالتأكيد هم يمارسونه على من هم أدناهم. وفي أسفل السلم يظهر لازارو، الفتى الطيب الذي يظنه الجميع محدود التفكير، وعليه فيكلفه الجميع بكل الأعمال التي يضيقون ذرعًا بها، بداية من حمل البضائع الثقيلة ووصولًا لحراسة الدجاج من هجوم الذئاب.

تتطور صداقة من نوع خاص بين لازارو وتانكريدي، يفبرك على إثرها ابن الماركيزة حادثة اختطافه، ليرغم والدته على إعطائه مبلغًا كبيرًا من المال، وحينما تصل أخبار حادثة الاختطاف الملفقة إلى الشرطة دون علم الماركيزة، ينكشف الغطاء عن الواقع المزيف الذي عاش فيه أهل أنفيولاتا.

يعود المزارعون أحرارًا حينما تستلمهم الشرطة، يتلمسون الحياة الحقيقية كأطفال يشاهدون كل شيء لأول مرة، وعلى جانب آخر تتحول الحكاية الواقعية لواقعية سحرية حينما يظهر لازارو قدرات غير مفهومة تتخطى حدود العقل والجسد البشري.


لازارو: فتى طيب في عالم قاسٍ

لازارو (الذي يؤديه أدريانو تارديولو في ظهوره الأول على شاشة السينما) يبدو معبرًا عن جوهر ما في البشر من طيبة، كطفل لم تلوثه الحياة بعد. يعامل لازارو الجميع بأمانة وصدق، ولا يعرف طريقة للخداع ولا اللعب بالكلمات، ويوقعه هذا بالطبع في مشاكل عدة.

صداقة لازارو وتانكريدي عابرة للزمان، فنجدها هي الدافع الرئيسي للفتى للعبور من ماضي أنفيولاتا إلى حاضر أوروبا. وعلى قدر ما يحمل لازارو من طيبة تسرد لنا أليس رورواتشر حكايته في عالم قاسٍ ومخادع وعنيف.

لم يتغير الوضع كثيرًا عما كان يمر به الفلاحون في أنفيولاتا من استعباد، كل ما تغير أنهم الآن صاروا عبيدًا لنظام رأسمالي بلا مكابح يسيطر على أوروبا ومن خلفها العالم. تنقل لنا رورواتشر في رمزية واضحة للغاية كيف مر الزمان على مساعد الماركيزة في استعباد فلاحي أنفيولاتا ليصبح في الحاضر سمسارًا للعمالة الرخيصة التي يشكل المهاجرون غالبيتها، لم تتغير وظيفة الرجل كسمسار عبودية إذن.

يستمر في المقابل أهل أنفيولاتا السابقون في أسفل السلم الاجتماعي، ليتكسبوا في النهاية إما باستغلال من دونهم أو بخداع وسرقة كل من يعلوهم.


خليط النقد الاجتماعي وتذكيرنا بما نسيناه

أينما وجد كائن بشري، فهناك فرصة لطيبة القلب.
الفليسوف الروماني لوكيوس سينيكا

تبدو قيمة قصة وسيناريو «سعيد مثل لازارو» إذن في جمعه بين نسخة شديدة الصراحة من النقد الاجتماعي لواقع أوروبا عموما وإيطاليا خصوصًا، وتحول حياة البشر فيها لنسخة جديدة من استعباد القرون الوسطى، وبين أثر إنساني أعمق وأهم وأكثر شمولًا، وهو تذكيرنا جميعًا بما نسيناه من جوهر البشرية.

يبدو الفيلم في هذه النقطة بالتحديد خارج سياق الأفلام المتشائمة والسوداوية التي مثلت سياق بدأ منذ عام 2014، ووصل لذروته في العام الماضي بأفلام على شاكلة «The Square» المتوج بسعفة كان في عام 2017، والذي شاهدنا فيه نسخة شديدة التشائم من حاضر ومستقبل الجنس البشري. يختلف لازارو في هذا بتقديمه الأمل في مواجهة هذا العالم القاسي، والأمل هنا عنصر جديد في المعادلة السينمائية، حتى لو قُدِّم في صورة ملاك أو خيال أو قديس أو حلم.

اقرأ أيضًا: «The Square»: نقد ساخر لأخلاقيات المجتمع الأوروبي

بالإضافة لهذا يبدو الفيلم ذكيًّا في جمعه بين جماليات الواقعية الإيطالية باستخدام مواقع تصوير حقيقية وبطل يظهر للمرة الأولى على الشاشة، وبين طزاجة ومفاجأة مدرسة الواقعية السحرية الروائية والتي تنقلها رورواتشر هنا بسلاسة إلى حكايتها لتخلق بهذا الخليط فيلمًا ممتعًا يتطور إيقاعه الهادئ ليصبح سريعًا في الفصل الأخير. يصلنا نقدها الاجتماعي بشكل واضح، ولكنه غير وعظي ولا خطابي، وتتركنا في النهاية بالكثير من التأويلات والأسئلة عن شخوصها وعن العالم وعن البشر قبل كل شيء.