إذا ذُكرت أمراض الكبد والتليف الكبدي، انصرفت الأذهان تلقائيًا إلى الفيروسات الكبدية، خاصة فيروس سي الذي يصيب الملايين حول العالم بالالتهاب الكبدي المزمن، والذي قد ينتهي آخر المطاف بفشل وظائف الكبد، والإصابة بسرطان الكبد، ومن ثمَّ الوفاة.

لكن في هذه الجولة، سنركز على قضية تتعلّق بصحة الكبد، لا تقل أهميةً عن الفيروسات الكبدية، وهو الإصابة بالكبد الدهني، والذي لا يحظى بالاهتمام نفسه رغم انتشاره بين الملايين من البشر في كافة أنحاء العالم، وخطورته لقدرته على التسبب في الإصابة بالتليف الكبدي الذي يؤثر سلبًا على قيام الكبد بوظائفه الحيوية في الجسم.

أرقام صادمة

عشرات الملايين من البشر مُعرَّضون لخطر الإصابة بالكبد الدهني، والتليف الكبدي الناجم عنه. من المعروف علميًا أن إدمان الكحوليات من أهم أسباب الإصابة بالكبد الدهني. هناك حوالي 2 بليون إنسان يتعاطون الكحوليات حول العالم، وهذا يمثل أكثر من ربع تعداد البشر ككل، ويصاب على الأقل 75 مليون من هؤلاء بالمضاعفات الشديدة للتعاطي الزائد للكحوليات، ومن بينها الإصابة بالكبد الدهني ومضاعفاته.

اقرأ: أضرار الكحول .. ماذا يقول العلم عن تأثيره على الجسم؟

أما النوع الثاني من الكبد الدهني، والذي يعنينا بشكلٍ أكبر، فهو الناجم عن السمنة والتي أصبحت من أكثر الأمراض انتشارًا في العالم، وتقدر الإحصائيات أن حوالي 30-40% من البالغين في الولايات المتحدة الأمريكية مصابون بدرجة من درجات الكبد الدهني غير الكحولي، وأن ما بين 2-5% يعانون من التهاب كبدي نتيجة الكبد الدهني.

ما هو الكبد الدهني؟ وما مضاعفاته؟

هو تراكم الدهون بشكلٍ غير طبيعي داخل خلايا الكبد، مما يمثل عبئًا على تلك الخلايا، ويسبب تلفها التدريجي وصولًا إلى الإصابة بالتليف الكبدي المزمن، وفشل وظائف الكبد. وأشهر أسباب حدوث هذا -سوى إدمان الكحوليات- هو السمنة لاسيَّما المفرطة، واختلال دهون الدم، وارتفاع نسبة الدهون الثلاثية، والإصابة بمرض السكر، بالأخص النوع الثاني الذي يحدث نتيجة زيادة مقاومة الأنسجة ضد الأنسولين، حيث تقدر بعض الدراسات أن أكثر من 40% من مرضى السكر من النوع الثاني مصابون بالكبد الدهني.

وهناك مساران رئيسان للكبد الدهني، لا يُعرَف على وجه التحديد لماذا تتطور حالة المريض إلى هذا المسار أو ذاك. الأول، هو الكبد الدهني البسيط، حيث تتراكم الدهون داخل خلايا الكبد دون أن تتسبَّب في حدوث التهابٍ كبير، وبالتالي يظل الضرر محدودًا، ولا تتأثر بنية الكبد أو وظائفه بشكلٍ كبير.

أما المسار الثاني، فهو أكثر خطورة، ويُعرف بالالتهاب الكبدي الدهني غير الكحولي NASH، حيث يتسبَّب تراكم الدهون في التهاب كبدي مزمن، يتطور بمرور الوقت إلى تليفٍ كبدي، وفشل مزمن في وظائف الكبد.

في حالة الوصول إلى تلك المضاعفات الخطيرة، يصاب المريض بتورم في الجسم، واستسقاء بالبطن، نتيجة نقص بروتين الألبيومين بالغ الأهمية في الحفاظ على السوائل في الدورة الدموية، كذلك يعاني من ارتفاع في سيولة الدم وحدوث النزيف لاسيَّما نتيجة الإصابة بدوالي المريء. كما قد تتأثر درجة وعي المريض في حالة تراكم السموم بجسمه، والإصابة بإحدى درجات الغيبوبة الكبدية. وفي الحالات المتقدمة من تليف الكبد، قد يصاب المريض بارتفاع شديد في نسبة الصفراء بالدم، وحدوث الفشل الكلوي. كما قد يصاب المريض بسرطان الكبد نتيجة تليف الكبد.

وأيضًا يعاني مرضى الكبد الدهني من ارتفاع فرص الإصابة بأمراض شرايين القلب التاجية، والتي تُعد من أخطر أسباب الوفاة في هؤلاء المرضى.

كيف يتم تشخيص الكبد الدهني؟

تكمن المشكلة في أن غالبية المرضى لا يُعانون من أعراض مرضية واضحة لسنوات، وبالتالي لا يطلبون المشورة الصحية، فتظل الإصابة تتطور تدريجيًا بشكلٍ مزمن، حتى تبدأ وظائف الكبد في التأثر سلبًا، وتقع المضاعفات.

تكون البداية غالبًا مع أعراضٍ غير محددة، كالشعور الدائم بالضعف، وبالإجهاد المزمن، أو اضطراب في الشهية للطعام، والتي قد يفسرها المريض بأسباب أخرى مثل الضغط العصبي، أو إرهاق العمل … إلخ. حتى يتطور الأمر إلى الإصابة بالالتهاب الكبدي المزمن، وتليف الكبد، فحينها تظهر الأعراض الأكثر خطورة كآلام البطن، واصفرار لون الجلد، وتورم الساقين، واستسقاء البطن، واختلالات درجة الوعي، وارتفاع سيولة الدم والقابلية للنزيف … إلخ.

حينها يطلب الطبيب المختص بعض الفحوصات لتأكيد التشخيص، وهي وظائف الكبد الكاملة والتي تظهر ارتفاع إنزيمات الكبد، ونقص بروتين الألبيومين، والبروثرومبين الهام لتجلط الدم، وارتفاع نسبة الصفراء بالدم … إلخ. بالإضافة إلى موجات صوتية على البطن والحوض، والتي تظهر التغيرات في حجم الكبد، ووجود التليف الكبدي، وكذلك الدهون المتراكمة بالكبد.

ولتحديد مدى تليف الكبد، قد يطلب الطبيب إجراء أشعة الفيبروسكان التي تقيس درجة التليف، وتمثل بديلًا أسهل وأقل إيلامًا من أخذ عينة من نسيج الكبد لفحصها، وإن كانت العينة أكثر دقة.

كيف نتغلب على الكبد الدهني؟

كلما بدأ التعامل مع الكبد الدهني مبكرًا قبل أن يحدث تغييراتٍ جذرية في بنية الكبد ووظائفه، كلما كانت النتيجة أفضل. ولذا، فأفضل أسلحتنا هو التوعية بوجود هذا الخطر، وتربصه بالكثيرين، وبالتالي التحرك المبكر للوقاية قبل أن يبدأ المرض في الظهور، وإحداث أعراضه ومضاعفاته. وجدير بالذكر أنه حتى الآن لا توجد علاجات دوائية مخصصة للكبد الدهني، إنما الأساس هو تبني تغييرات إيجابية في نمط الحياة. أما الأدوية المتاحة، فهي الأدوية التي تعالج مضاعفات الفشل الكبدي في العموم، أيًا كان سببه.

أولًا: الوصول إلى الوزن المثالي والسيطرة على عوامل الخطر الرئيسة

التخلص من السمنة هو أفضل ما نملكه للتغلب على الكبد الدهني وتجنب حدوث مضاعفاته. وحتى أصحاب الأوزان غير الزائدة، من الذين يعانون من زيادة في محيط البطن -الكرش- يجب عليهم التخلص من تلك السمنة الموضعية، لأنها أيضًا تزيد فرص الإصابة بالكبد الدهني.

تبدأ المواجهة عبر بوابة الطعام، عن طريق تحجيم ما نتناوله من الدهون المشبعة، والزيوت المهدرجة، مع زيادة الاعتماد على الدهون غير المشبعة كزيت الزيتون. وكذلك يجب تقليل تناول السكريات والحلويات، لأن الزائد منها يتحول إلى دهونٍ تتراكم في الجسم.

اقرأ: طعامُك .. الداء والدواء.

اقرأ: دليلك لحمية غذائية غير مؤلمة.

ولدينا العديد من الأطعمة ذات القيمة الغذائية العالية، والفوائد الصحية الجمَّة، دون ضريبة كبيرة من السعرات الحرارية التي تسبب تراكم الدهون بالجسم، مثل الأسماك والخضروات والشوفان والحبوب الكاملة والبقوليات.

اقرأ: الشوفان .. هل هو غذاءٌ سحري؟

وفي حالة وجود اختلال في دهون الدم، وفشل السيطرة عليه عن طريق تعديل نمط الحياة، يجب استشارة الطبيب الباطني من أجل وصف أدوية إنقاص الكولستيرول والدهون الثلاثية.

وفي حالة وجود إصابة بمرض السكري، يجب الانتظام جيدًا في العلاج، ومتابعة تحليل السكر التراكمي بشكلٍ دوري، والالتزام بتعليمات الطعام.

ثانيًا: التوقف عن تعاطي الكحوليات

ذكرنا في صدر المقال أن تعاطي الكحوليات من أهم أسباب انتشار الإصابة بالكبد الدهني عالميًا، ولذا فمن نافلة القول التأكيد على ضرورة التوقف عن تعاطيها، كأهم أسباب الوقاية، وأن ذلك كلما حدث مبكرًا، كلما كانت الفائدة أعظم، واحتمالات حدوث المضاعفات أقل كثيرًا.

ثالثًا: التمارين الرياضية

ممارسة التمارين الرياضية المعتدلة بشكلٍ يومي مهم للغاية لإيقاف تطور الكبد الدهني. والحد الأدنى هو المشي بخطوةٍ جيدة لـ 30 دقيقة يوميًا.

ما مدى فاعلية الإجراءات السابقة؟

يمكن لتلك التغييرات في نمط الحياة، لاسيَّما الانتظام في الرياضة، والتخلص من العادات الغذائية السلبية، أن تحدث فارقًا كبيرًا، لا يقتصر فقط على إيقاف تقدم مرض الكبد الدهني، إنما قد يعكس المسار إلى ما يشبه الشفاء التام. لكن بشرط أن تبدأ تلك الإجراءات قبل الوصول إلى مرحلة التليف الكبدي، والذي يغير من بنية ووظيفة الكبد جذريًا وبشكلٍ دائم أو شبه دائم يصعب عكس مسارِه.

لكن لا يعني هذا أنه بالوصول إلى التليف الكبدي، لا يصبح لتلك الإجراءات ثمَّة فائدة، إنما المقصود أن فاعليتها تقل كثيرًا، ويقتصر دورها على تخفيف شدة المضاعفات.