في أوائل يونيو/ حزيران 2019 بدأت المظاهرات ضد مشروع قانون غير مُرحب به. تزايدت الأعداد وارتفع سقف المطالب حتى اهتزت هونج كونج بالهتافات ضد سلطة بكين. مصادمات متكررة بين المتظاهرين والشرطة مما أخرج المظاهرات من إطارها السلمي. اقتحم المتظاهرون المكاتب الحكومية، واعترضوا المواصلات العامة، وهاجموا كل ما يرمز للحكومة الصيينية المركزية. في النهاية هاجم مسلحون 100 متظاهر دون أن تتصدى لهم الشرطة، فأصبح الأمر قضيةً مركزيةً لا مجرد مظاهرات في منطقةٍ شبه مستقلة.

كانت هونج كونج مستعمرة بريطانية حتى عام 1997، لكنّها أُعيدت للصين تحت سياسة « بلد واحد ونظامان». بموجب هذه السياسة تصبح هونج كونج جزءًا من الصين لكن تتمتع بالعديد من المزايا التي لا يتمتع بها باقي الشعب الصيني. الحقوق التي يتميز بها سكان هونج كونج عن غيرهم تشمل حرية التعبير، الحق في حرية التجمع، الحق في استخدام الإنترنت دون رقابة أو قيود حكومية. ينظم تلك الحقوق والامتيازات دستور صغير يُعرف باسم «القانون الأساسي»، ويُشرف على حمايته نظام حكومي وقوة شرطة خاصة بالإقليم. وعدت الصين أن يظل الوضع ساريًا بهذه الصورة حتى عام 2047 على الأقل، دون أن توّضح وماذا بعد 2047؟

لكن حتى ونحن قبل 2047 بثمانية وعشرين عامًا فإن السلطة المركزية في بكين بدأت في نحر استقلال هونج كونج. بدايةً بأن تعيين القائد الأعلى للأقليم صار يتم من لجنةٍ مؤيدة بالكامل لبكين. نهايةً إلى استباحة الأمن الصيني أراضي الإقليم أكثر من مرة في عمليات اعتقال طالت بائعي كتب وأثرياء الإقليم.

مشروع القانون

في فبراير/ شباط 2019 قدّمت السيدة «كاري لام» الرئيس التنفيذي للإقليم مشروع قانون للهيئة التشريعية بهونج كونج. الهيئة التشريعية المليئة بالمؤيدين للصين لم تتردد في التصويت على قانون يُجيز إرسال المتهمين بالجرائم إلى أماكن لا يوجد بينها وبين هونج كونج اتفاقيات لتبادل المجرمين.  وخص القانون أراضي الصين الأم حيث الحزب الشيوعي يتحكم في القوانين والمحاكم والقضاة.

السيدة لام تقول إن دافعها هو ضمان العدالة للضحايا.  وإن القصة التي دفعتها لذلك القانون رجلٌ قتل صديقته في تايوان ثم تهرّب من الملاحقة القضائية عبر الفرار إلى هونج كونج. لكنّ المنتقدين للقانون يقولون إن هذا المشروع سوف يتيح لحكومة بكين المركزية استهداف معارضيها في هونج كونج بتهم زائفة. لتنطلق المظاهرات في 9 يونيو/ حزيران 2019 بمشاركة المئات من الشباب وكبار السن والأطفال.

لمدة ثلاثة أيام من البداية كان المطلب واحدًا، سحب مشروع القانون. لكن في 12 يونيو/ حزيران ملّت الشرطة من الانتظار فأطلقت رذاذ الفلفل وأكثر من 150 علبة غاز مسيل للدموع من أجل تفريق المتظاهرين. بدورهم ألقى المتظاهرون عددًا من المفرقعات والألعاب النارية على الشرطة، فتدخلت الشرطة بالهراوات لتفريقهم.

اقرأ أيضًا: تايوان: خنجر أمريكا في خاصرة الصين

ثلاثة أيام أخرى من الكر والفر، عنف يزداد والضغط على السيدة لام يرتفع. في 15 يونيو/ حزيران علّقت السيدة لام مشروع القرار ووصفته بأنه صار في حُكم الميت. لكن تبيّن لاحقًا أنّها رفضت سحبه بالكامل، فشعر المتظاهرون بالخداع وطلبوا بسحبه كاملًا. وأضافوا إلى مطلبهم الأساسي مطلبيّن آخرين: استقالة السيدة لام، والتحقيق في استخدام الشرطة للعنف ضد المتظاهرين.

كن ماءً

بعد هذه المطالب الثلاثة لم يسمع المتظاهرون لمدة ثلاثة أيام سوى صدى أصواتهم. لا شيء يتغيّر في المشهد سوى زيادة عنف الشرطة تجاههم. ومع الصمت والعنف بدأت المطالب ترتفع للتساؤل حول تآكل الحرية المدنية. فتحولت المظاهرات دون توجيهٍ أو قيادة إلى مطلب أكبر وأشد تعقيدًا حماية ديموقراطية واستقلال هونج كونج. وتجلّى هذا المطلب في 16 يونيو/ حزيران في مسيرة سلميّة هى الأكبر في تاريخ هونج كونج بمشاركة مليوني شخص.

ساعد هذا العدد الضخم ألا تتعرض المسيرة لاعتداءات، لكنّ لم ينفع في الأيام التالية. عنفٌ متصاعد من الشرطة تجاه مجموعة من الشباب ارتدوا أقنعةً وملابس سوداء. أسبوعان من العنف والكر والفر لكن مع بداية يوليو/ تموز بدأ الانفجار الكبير. اقتحامان في آن، الأول، للمجلس التشريعي والثاني، لمحطة قطار. الأول، قام به المتظاهرون إذ اقتحموا المجلس التشريعي واحتّلوه عدة ساعات. في تلك الساعات قاموا بتخريبه تمامًا، وشوّهوا شعار الصين الموجود على الواجهة الرئيسية للمكان.

أما الثاني، فقام به مجموعة من المسلحين مجهولي الهوية بلغ عددهم 100 فرد. هاجموا المتظاهرين والمارة في محطة قطار فأصابوا عشرات المدنيين. تأخرت الشرطة عن الوصول للمكان، وتأخر إسعاف المصابين. حين وصلت الشرطة لم تقم بالاعتقالات في حق المُهاجمين مما سمح للعديد منهم بالهرب ووضع علامة استفهام ضخمة حول تواطؤ الشرطة. بعض الاعتقالات التي تمت لاحقًا لعدد من المُهاجمين أظهرت ارتباطهم بعصابات الجريمة المنظمة المعروفة باسم «الثلاثيّات». عمّقت تلك الحادثة من الغضب الشعبي تجاه الشرطة صعودًا حتى حكومة بكين.

اقرأ أيضًا: ثورة «الملاكمين» في الصين: عندما رفض الفلاحون الإمبريالية 

بعد هذا الهجوم طوّر المتظاهرون استراتيجيةً جديدةً في التظاهر. استخدموا شعارًا قاله الممثل الصيني الشهير «بروس لي»، كن ماءً. فبدؤوا في الانتقال إلى أماكن مختلفة من المدينة، كما قللوا من مدة التظاهر في المكان الواحد. كما صاروا أشد عنفًا، فحاصروا مراكز الشرطة ورجموها بالحجارة وأشعلوا فيها النيران. كما أغلقوا الطرق العامة. ولاقت دعوتهم لسكان المدينة بالإضراب والبقاء في بيوتهم نجاحًا كبيرًا.

لسنا ضعفاء فقط ننتظر

زيادة العنف من المتظاهرين لا يتوقع أن يقابل بأقل من عنفٍ مضاعف من قبل الشرطة، وهو ما يحدث. العنف المتصاعد من الشرطة المحلية يثير التساؤل حول الموقف الرسمي لحكومة هونج كونج وللحكومة الصينية. بكين واضحة في موقفها، تحذيرات تصاعدية اللهجة للمتظاهرين. الرئيس الصيني «شي جين بينج» امتنع عن التعليق تاركًا الأمر حتى الآن للسيدة لام. وعلى السيدة أن تُخمد المظاهرات أو تطلب من الصين الأم فعل ذلك.

السيدة لام من جهتها رفضت، وترفض، بصورة قاطعة تقديم أي تنازلات إضافية بعد تعليق مشروع القرار. وتعلن أن حكومتها قادرة بلا شك على إخماد تلك المظاهرات التي تتحدى الحكم الصيني. كما صرّحت بأن المتظاهرين ليسوا سوى مجموعة تريد الإطاحة بهونج كونج من أجل إفساد رفاهية 7 ملايين مواطن في هونج كونج.

آخر تحذيرات الحكومة الصينية كان الأعنف حتى الآن. جاء التحذير على لسان يانج جوانج، المسئول في بكين عن ملف هونج كونج. جوانج أنذر جميع المجرمين، على حد وصفه، ودعاهم إلى ألا يعتبروا  ضبط النفس الذي تمارسه الحكومة الصينية ضعفًا. وأضاف أن سيف القانون ينتظرهم في المستقبل، سوف يتلّقون ضربةً منه قريبًا.

لكن لا جونج ولا السيدة لام أعلنا خطتهما لحل الأزمة. لكن الخطة يمكن رؤية الخطة بدلًا من محاولة انتزاعها من أفواه السياسيين، الجيش.  الجيش لمح في يوليو/ تموز إلى أنّه قادر على التدخل ومستعد له. لكن المسئولين المحليّن أكدوا ألا أحد طلب من الجيش التدخل، رغم أن القانون الأساسي يسمح بذلك. لتكون النتيجة نفيًا بطعم التحذير. خاصةً وصور الأقمار الصناعية المسربة تُظهر تجمعًا مهولًا لعربات الجيش ومدرعاته في أحد ملاعب كرة القدم على حدود هونج كونج.

العين بالعين

12 أغسطس/ آب 2019 اقتحم المتظاهرون مطار هونج كونج لتطير أخبار احتجاجهم إلى العالم أجمع. باحات الوصول شهدت نقطة الانطلاق حيث تجمع فيها عدد من المتظاهرين حاملين لافتات تدعو الواصلين لمساندة هونج كونج ودعم نضالها. أعلنوا أنهم سيعتصمون فيه سلميًا لثلاثة أيام، وبدؤوا في توزيع منشورات تعريفيّة بهم وبمطالبهم على السائحين.

ارتدوا اللون الأسود والأقنعة وأغطية الرأس. أضاف عددٌ منهم تفصيلةً صغيرة عبارة عن ضمادة على العين أو الجبهة تكريمًا لامرأة أُصيبت مساء الأحد 11 أغسطس/ آب. صور تلك السيدة انتشرت بسرعة البرق وسرت إشاعات أنها فقدت بصرها جراء إصابتها بأحد مقذوفات الشرطة. وحمل المتظاهرون لافتاتٍ عليها صورتها وشعار «العين بالعين». وغزا الشعار جدران وأعمدة مطار هونج كونج، فصار السائح يرى «العين بالعين» أينما ولى وجهه مكتوبة باللون الأحمر وباللغتين الصينية والإنجليزية

السلطات ألغت جميع الرحلات من وإلى المطار ملقية باللوم على المتظاهرين لتعطيل العمل في أكثر مطارات العالم زحامًا. ودعت جميع السياح لمغادرة المطار سريعًا دون الالتفات لكلام المتظاهرين. لكنها لم توضح أيضًا خطة تعاملها مع المتظاهرين. غير أن السلطة نجحت في استصدار حكم قضائي مباشر بضرورة إخراج المتظاهرين من المطار. هذا الحكم يمنح شرعيةً قانونيةً لأي عنف سيُمارس لإخراج المتظاهرين. الأمر الذي ساهم في تقليل أعداد المحتجين إلى ما يقارب 100 فرد بعد أن كانوا 5000 في الأيام الأولى.

أراد المتظاهرون بهذه الخطوة أن يتأكدوا أن العالم يسمعهم، وأن قضيتهم باتت دوليةً. لكن الموقف الدولي من الأزمة لا يتخلف عن الموقف الدولي المعتاد من أي أزمة سابقة أو لاحقة. بريطانيا  تواصلت مباشرة مع السيدة لام وأدانت العنف ودعت للتظاهر السلمي وفتح تحقيق في انتهاكات الشرطة. الصين ردّت على بريطانيا قائلةً لا يحق لمسئول بريطاني أن يتخطى سلطة بكين ويتواصل مباشرة مع السيدة لام ليمارس ضغطًا عليها.

الولايات المتحدة دعت لضبط النفس، والتحلي بالسلمية. الصين ردّت عليها باتهام مباشر بأن دبلوماسيين أمريكيين كانوا على اتصال مع قادة الاحتجاجات وهدّدت الصين بنشر ما لديها من صور ومعلومات تدعم زعمها. في 13 أغسطس/ آب تغيّرت تصريحات الولايات المتحدة لدعوة جميع الأطراف لتجنب العنف. أما ترودو كندا وموريسون أستراليا فطلبا بتخفيف حدة التوتر.