كالبنيان المرصوص وجنبًا بجنب بنى عمال غزل المحلة تاريخًا ممتدًا من النضالية والتمرد والمقاومة منذ تأسيس أسوار مصنعهم، وفي ظل ما نحياه اليوم، استطاع عمال إضراب أغسطس (إضراب عمال غزل المحلة) -الذي استمر لمدة أربعة عشر يوما – تخطي أسوار زنازين البطش والمنع التي صنعها النظام. فكيف نجح في ظل ما نعيشه من عبث سياسي ؟

يمتاز تاريخ الحركة النضالية لعمال غزل المحلة بشيء من الخصوصية التي تشكلت في ضوء السياقات التاريخية والسياسية المتلاحقة فهي تتسم بامتدادها واستمراريتها رغم سلطوية الأنظمة القمعية المتعاقبة في التعامل مع تلك النضالية سواء بالعقوبات الإدارية أو الأمنية، كما ارتبطت تلك النضالية بموقفها المساند للحركة السياسية المقاومة للفساد والاستبدادية في وجه عنف الدولة المنظم.


ما بعد البداية: سنوات المرض والموت

يرتبط التاريخ النضالي لعمال غزل المحلة بتاريخية تأسيس شركة الغزل عام 1927، وتشير روايات «فكري الخولي» إلى مدى السوء والمعاناة التي عاشها عمال غزل المحلة فيقول في رحلته :

من يوم أن حضرنا من قرانا واشتغلنا والمكن يقتل منا كل يوم عاملا، وآخرون كسرت أرجلهم أو قطعت أيديهم أو فقئت عيونهم، والمستشفى ملئ بكل هؤلاء، ولم يحقق أحد فى تلك الحوادث وهم يدفنون دون أن يعرف أحد مكانهم. ثانيا: المرض ينتشر كالوباء فى كل البيوت وخاصة مرض السل من ازدحام السكن وسوء التغذية، وقد مات الكثيرون دون أن تدفع لهم دية. ثالثا: نعمل ١٢ ساعة دون راحة ونقف على المكن مبدلين أرجلنا كالحمير دون رحمة، وللعلم قلنا للنيابة ومع هذا لم تحقق.. نرجو النظر فى شكوانا هذه جعلكم الله عونا للمساكين.

وفي هذا إشارة إلى أن سنوات التأسيس الأولى قد غاب عنها الحراك العمالي الواعي، في ظل غياب تنظيم نقابي وعمالي في تلك الفترة والتي بدأت تتأسس فيما بعد، ويشير الخولي إلى أن هذا الظلم قد ولد حالة من التمرد الفردي أدى إلى قتل عامل لمديره، لكنه لم يرق لعمل جماعي.


كيف تشكل تاريخ نضالية عمال غزل المحلة؟

شهدت نضالية عمال غزل المحلة حراكًا ممتدًا وتدريجيًا امتزج بدور سياسي وذلك لتحقيق طفرة نوعية

لما كانت الحياة العمالية داخل مصانع الغزل بحاجة إلى مزيد من التطوير والتحديث في ظل سياقات مجتمعية وسياسية متغيرة، فقد شهدت نضالية عمال غزل المحلة حراكا ممتدا وتدريجيا امتزج بدور سياسي وذلك لتحقيق طفرة نوعية تشكل عبر سنوات عدة يمكن إيجازها كالآتي:-

الفترة الأولى: والتي تأسست في ضوء أول إضرابات العمال عام 1938، ثم تلاها بعد تسع سنوات إضرابًا آخر في عام 1947 وكانت تلك الإضرابات تدور حول نظام وساعات العمل داخل الشركة ورفع الأجور، ومع قيام حركة 1952 شهدت تلك الفترة تراجعًا ملموسًا للنشاطية العمالية بالمحلة باستثناء مساندة عمال الغزل لعمال كفر الدوار في 1953 في أعقاب إعدام العاملين «خميس والبقري».

الفترة الثانية : تشكلت في ضوء انعاكسات التدهور الاقتصادي والعمالي لسياسات الانفتاح الاقتصادية وقرارات إعادة الهيكلة السوقية، وتدني الأجور وهو ما دفع بعمال الغزل إلى الإضراب عام 1975، وكذلك إعادة الإضراب في عام 1986 للمطالبة بإضافة الراحات الأسبوعية «أيام الجمعة» للمرتب.

بينما واجه قرار مبارك بإلغاء المنحة السنوية للعمال بإضراب واعتصام العمال داخل المصنع. ثم شهدت الحركة النضالية لعمال غزل المحلة تراجعا في التسعينات وحتى النصف الثاني من العقد الأول للألفية الثانية.

الفترة الثالثة، وهي تلك التي انطلقت مع احتجاجات 2006 مرورا بإضراب 2007 ثم الإضراب الأكبر والذي هز عرش النظام في 2008 مدعوما من قوى سياسية وحقوقية، فقد تخطت في تلك الأثناء مطالب عمال غزل المحلة حدود المطالب الفئوية للمطالبة بإصلاحات شاملة للطبقة العاملة، وامتازت إضرابات تلك الفترة بالاستمرارية وحدتها وقيادتها للحركة العمالية في بر مصر حتى قيام ثورة يناير 2011.


غزل ثوري: كيف تم نسج قصة البداية المفقودة؟

لعب عمال غزل المحلة دورا أبرز في تشكيل مستقبل الحياة السياسية والاجتماعية في مصر، فالدور السياسي للعمال الذي تشكل فيما بعد 2006 كان العامل الأكبر في تحريك المياه الراكدة نحو حراك ثوري أطاح بنظام طالما تلاعب بحقوق وحريات النضال العمالي، فقد ترافق مع هذا الدور صحوة حقوقية قادتها شخصيات ومنظمات المجتمع المدني، ومعها دشنت الدعوة لتأسيس النقابات العمالية المستقلة في 2009.

بالرغم من أن إضرابات عمال المحلة كانت الأبرز والأكثر تأثيرا في مجرى مسارات النضال العمالي بشكل عام، إلا أنه لا يمكن التغافل عن الحراك العمالي والذي تضاعفت نشاطاته ومطالبه في مواجهة توحش سياسات الليبرالية، وكان لضخامة هذا الدور القدرة على توظيف قدرته التنظيمية في إدارة ملف المقاومة العمالية فيما بعد يناير 2011 وهو ما شاهدناه في حجم الإضرابات فيما بعد 2011 بالرغم من استراتيجية تضييق الخناق الأمنية والقانونية التي يتبعها نظام السيسي ضد أي حراك ثوري.

وبالرغم من حالات التلفيق والتفريغ الحقيقي لمضمون الحراك العمالي فيما بعد 2011 من البعد السياسي بدعوى أنها فئوية، إلا أنه وعلى سبيل المثال عارض عمال غزل المحلة في ديسمبر 2012 الإعلان الدستوري والمسودة النهائية التي أعدها نظام مرسي الحاكم،وكذلك طالب العمال في 2016 بمحاربة الفساد داخل مصنع الغزل وإقالة رئيس مجلس الإدارة وإعادة هيكلة الأجور.


إضراب أغسطس: كيف نجح في ظل ما نعيشه من عبث؟

لا يمكن التغافل عن الحراك العمالي والذي تضاعفت نشاطاته ومطالبه في مواجهة توحش سياسات الليبرالية
خشية تمدد هذا الإضراب إلى باقي شركات قطاع الغزل والنسيج في بقية المحافظات في ظل شعبوية إضرابات عمال الغزل.

في الوقت الذي يعتصر فيه المجتمع المصري من أوجاع تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية، في ظل سيطرة نظام شمولي على مجريات الحياة مازال هناك من يعافر من أجل البقاء والحياة رغم السوط والزنزانة.

نجح النظام القائم في بسط نفوذه وسيطرته على المجال العام في أعقاب توليه الحكم بفرض سياسات أمنية وقانونية تحد من حرية التجمع والتظاهر مثل قانون التظاهر، وعمل على اختراق وانهاك العمال في معركة خسارة المكتسب الثوري للعمال فيما بعد 2011 -بتأسيس النقابات المستقلة- واللعب على وتر قانون الخدمة المدنية و الحد الأدني للأجور.

ومع ذلك تشير التقارير إلى استمرارية الحراك النضالي العمالي في عام 2015 و2016 صعودا وهبوطا، وبالرغم من التراجع الملحوظ لهذا الحراك في 2017 إلا أن إضراب عمال غزل المحلة في أغسطس الحالي والذي دام لأربعة عشر يوما يعد الأبرز والأقوى في ظل سياق اقتصادي واجتماعي خانق مع تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي من رفع الدعم وتحرير سعر العملة وهو ما أدى إلى ارتفاع معدل التضخم لمعدلات غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث.

وبالرغم من سياسات المراوغة والمماطلة التي تبناها النظام في مواجهة إضراب أغسطس إلا أن فض الإضراب لم يتم إلا بعد التعهد بتحقيق المطالب ، ويمكننا ترجيح هذا النجاح إلى إدراك النظام للقدرة الاحتجاجية والتنظيمية للعمال داخل المصانع، وما سببه الإضراب خلال تلك المدة من أضرار اقتصادية على الشركة، كذلك خشية تمدد هذا الإضراب إلى باقي شركات الغزل والنسيج في بقية المحافظات وشعبوية إضرابات عمال الغزل.