لو كان حمدي هنا الآن وأخبرته أنني سوف أكتب عن علاقتنا، لطلب مني أن أحكي عن خلافنا الأبدي حول فيلم «The Witch». سوف يسحب الحديث نحو السينما ليتجنب حديثي عنه، لأنه لا يعرف كيف يرد على الإطراء أو يستقبله، ولكنه كان يستحقه بكل تأكيد.

كان حمدي طيب القلب جداً، رقيقًا بشكل حقيقي، ملهمًا للغاية في رؤيته للفن والسينما بشكل خاص، رغم أنه لم يكن يعطي هذا الانطباع أبداً، ولكنك ما أن تسمح له بلمس روحك حتى تفاجأ بجذوة الموهبة واتقاد العقل، والتوق الدائم للجمال.

ما زلت لا أعرف كيف انتقل، أشعر أنه فقط ترك العمل معنا وخرج من دوائرنا، ولكنني لا أستطيع استيعاب أنه لم يعد موجوداً في أي مكان على هذه الأرض، كان صغيراً جداً، غضاً جداً، وبريئاً جداً على هذا الرحيل المفاجئ، ولكن ربما كانت هذه بالضبط هي أسباب رحيله. 

إنجي إبراهيم

محررة بباب «فن وأدب» بموقع إضاءات

الكتابة عن سينمائي راحل أمر تعتاده حينما تعمل مثلنا صحفيًا سينمائيًا، لا يهتم البشر عادة والمصريون خاصة بالمبدعين والفنانين حتى يرحلوا، ولكن الأمر مختلف هذه المرة، لأننا لا نكتب عن شخص تابعنا أعماله أو التقيناه عدة مرات، ولكننا نكتب عن أحدنا، محمد حمدي، الكاتب، الصحفي، الناقد، السينمائي العاشق، المخرج والمؤلف الذي لم ترَ أعماله النور، وقبل كل شيء، الصديق الذي شاركنا الحلم والهم والعمل. 

عرفت حمدي بمجرد انضمامنا معًا لفريق فن وأدب لموقع «إضاءات»، وبحكم اهتمامنا المشترك تخصصنا معًا في الكتابة عن السينما، نقدًا ومتابعة. لم تمر أيام قبل أن تتحول الزمالة لصداقة، تشاركنا الآراء حول العشرات من الأفلام، عبرنا معًا عن سخطنا على مركزية القاهرة التي تبتلع كل شيء وتقلل من فرصنا دون وجه حق لا لشيء إلا لأننا من أبناء الدلتا، تبادلنا حكاياتنا القديمة عن نشاطنا الطلابي، وقت الفوران السياسي الذي عاصرناه وجرفنا معًا نحو اليسار، تحدثنا عن كل شيء، تمامًا كما يفعل الأصدقاء. 

هذا شخص لامع ومختلف. هذا ما رسخ في ذهني عن حمدي، رغم أنه – رحمه الله- لم يكن يدرك هذا. أكتب هذا الآن وأنا حزين أننا لم نعبر له بالقدر الكافي عن تقديرنا له أثناء حياته.

في السينما كان صاحب ذوق خاص، وربما لن نقابل كثيرًا كاتبًا يحب أعمال ديفيد لينش ولارس فون ترير ويورجوس لانثيموس كما كان حمدي، لم يكن الأمر حبًا لأعمالهم وفقط، ولكنه كان أيضًا يبدي تفهمًا وتفسيرًا قلما تجده عند غيره.

هذا ناقد يمكنه أن يمثل العتبة التي تنتقل من خلالها المدارس الفنية السريالية والرمزية جنبًا إلى جنب رغم تضادهم من صانعيها إلى الجمهور. ودلالة على هذا أحيلك صديقي القارئ بشكل خاص إلى مقاله عن فيلم Mullholand Drive ومقاله المجمع عن أعمال لانثيموس. 

مؤخرًا، تخطى حمدي عتبة النقد في اتجاه صناعة السينما، أنهى عددًا من الورش المميزة في كتابة السيناريو، التصوير والإخراج السينمائي، ثم اتجه وأحسن في هذا إلى التعلم عن طريق الممارسة، كلنا أبناء التجربة كما كنا نخبر بعضنا البعض دائمًا.

صنع حمدي فيلمه القصير الأول، كنت حينها في أثناء فترة الخدمة العسكرية الإلزامية، عدت لمنزلي في أول إجازة لأجد رابطًا للمشاهدة الخاصة، أرسله لي وطلب رأيي وتفسيري وتعديلاتي، شاهدته ولا أبالغ حينما أصف فيلمه القصير بأنه مختلف عن كل ما رأيت في حياتي وخصوصًا في المحتوى السينمائي المصري، رغم قلة الإمكانيات صنع حمدي فيلمه السريالي الأول، عالم جديد من الرموز والمشاعر والأفكار، تجربة جديدة على الوسيط السينمائي العربي، أخبرته أنه وبغض النظر عن أي ملاحظات فإنني سأنتظر اكتمال مشروعه السينمائي يومًا ما، حينها سيكون وبلا شك الأول من نوعه في مصر.  

تحدثنا للمرات الأخيرة قبل رحيله بأيام، عزاني في إحداها في رحيل أخي وأخبرني أننا يجب أن نلتقي قريبًا، وفي محادثة أخرى تحدثنا عن صعوبات الحياة وهمومها وما نمر به جميعًا من ضغوط نفسية وجسدية، ودعنا بعض على وعد باللقاء. 

وفي أحد أيام أغسطس الحارة فوجئت بخبر رحيله. لم نصدق في البداية، النكران ولا شيء غيره في هذه اللحظات، حتى تأكدنا. لم يتحمل قلب صديقنا الطيب ما به من آلام ورحل، هكذا بشكل مفاجئ، يكسر هذا اتفاقنا غير المعلن مع الحياة، لا يرحل البشر هكذا لمجرد شعورهم بغصة مفاجئة في صدورهم، هكذا دون تاريخ مرضي، هكذا دون عشرات الآلاف من أعقاب السجائر أو الدهون المشبعة، هكذا دون أي سابق إنذار.  

رحل حمدي ولكنني أتمنى أن يصله وبأي شكل كم نحبه، ولهذا أتمنى منك صديقي القارئ أن تشاركنا هذا الحب بأي صورة تؤمن بها.

نلقاك على خير يا صديقي.

حسام فهمي
محرر بباب «فن وأدب» بموقع إضاءات

بعد سنوات من التضييق وخنق المجال العام، فتحت ثورة 25 يناير بابًا واسعًا لأجيال الشباب ليلجوا منه إلى عالم أوسع، استطاعوا من خلاله التعبير عن رؤيتهم للحياة، وأن يقتفوا أثر شغفهم بمختلف المجالات وعلى رأسها الكتابة.

بالطبع سبقت ثورة التكنولوجيا والإنترنت ثورة يناير، لكنها انتقلت نقلة نوعية كبيرة وأخذت خطوات واسعة في السنوات التي تلت الثورة. أحد أهم مظاهر هذا الحراك الذي أحدثته الثورة هو انتشار العديد من المواقع الإلكترونية التي يديرها الشباب ويقدمون من خلالها محتوى جديدًا معبرًا عن أفكارهم الخاصة، ومن ثم اندفع الكثير من الشباب إلى إشباع رغباتهم في تحقيق ذواتهم، وسبر أغوار شغفهم بالكتابة والفن والأدب. ومن بين هؤلاء الشباب كان محمد حمدي هاشم.

عرفت حمدي في أبريل من عام 2016، وعملنا سويًا بموقع إضاءات لفترة تجاوزت العامين بأشهر قليلة، قرأت خلال هذه الفترة كل ما كتبه محمد حمدي عن السينما والأدب والدراما. دائمًا ما كنت أشعره تجاهه بالغبطة، الغبطة على ثقافته السينمائية الواسعة، ورؤيته النقدية المتفردة، وجذوة الشغف دائمة الاشتعال التي كانت تعلو كل كتاباته.

وإن كان من شيء تعلمته من حمدي، فهو ما يمكن أن أسميه «مسئولية الشغف»، لقد عاش حمدي حياته القصيرة مخلصًا لشغفه، ساعيًا وراءه بكل السبل، محاولًا تحقيق ذاته من خلال هذا الشغف، وهذه هي المسئولية التي يتحتم على كل صاحب موهبة وشغف أن يضطلع بها قبل ذهابه.

ربما يكون من قبيل «الكليشيه» أن نقول إن حمدي لم يذهب عنا، بل ترك لنا الكثير من الكتابات التي اتسع عمره القصير ليشملها، ولكنها بالنسبة لي حقيقة ﻻ شك فيها، فهو باق في قلوب محبيه وأصدقائه، وباق بين سطور مقالاته، وباق ما دمنا نذكره في سرنا وعلانيتنا. أرجو أن نكون قد وفقنا في هذا العمل بإبقاء ذكراه على النحو الذي يرضيه.

أنيس أفندي
مشرف باب «فن وأدب» بموقع إضاءات