كان النصف الثاني من القرن الأول الهجري مُعْتَركًا مفتوحًا للصراع السياسي في الدولة الإسلامية الناشئة، وقد انعكس هذا في تباين كبير في الأفكار والولاءات والانتماءات لدى كثير من الأطراف والأشخاص الفاعلين على الساحة، وأدى ذلك إلى ظهور العديد من الفِرَق الإسلامية، ومن أمثلتها المتشيِّعون لآل البيت، المتعاطفون مع مظالمهم، بمختلف درجات تشيعهم، وهناك بالطبع فرق الخوارج بتنويعاتها المختلفة، وتباين أشكال تمردها ضد الولاة الأمويين والزبيريين، ومدى تكفيرها للمخالفين من أهل القبلة.

كان عمران بن حطان من أبرز الشخصيات العامة في جيل التابعين، وكان أيضًا من أبرز شعراء الخوارج والمنافحين عن أفكارهم في القرن الأول الهجري، وتعرَّضت حياته للخطر في سبيل ذلك رغم أنه لم يشترك في المعارك الحربية التي خاضها الخوارج ضد خصومهم معتذرًا بكبرِ سنه وضعفه عن القتال آنذاك، على الرغم من أن بعض خصوم الخوارج البارزين مثل عبد الله بن الزبير، قُتل في ساحة الصراع عام 73هـ وقد تجاوز السبعين من عمره. 

لا يُعرف تاريخ ميلاد عمران بن حطان على وجه التحديد، ولا تنقل لنا كتب التاريخ تفاصيل كثيرة عن نشأته الأولى، لكنها في المقابل تتحدث عن أنه قابل بعض رموز صحابة الرسول (عليه الصلاة والسلام) وروى عنهم الأحاديث، وفي مقدمتهم أم المؤمنين عائشة، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس .. الخ، واشتهر بالصدق في نقل الرواية، فروى عنه بعض مشاهير جيل التابعين مثل قتادة وابن سيرين. وينقل الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» رأي صاحب السنن الشهير أبو داود السجستاني في صدق رواية عمران بن حطان للحديث كأنموذج على أنَّ الاتجاه العام لدى الخوارج هو الصدق في رواية الأحاديث.

اقرأ: الحسين الذي ظلم الظالمين

تزوجَها ليُقعِدَها: فأخرجتْهُ!

هناك مشكلة جسيمة تواجه كل من يريد الكتابة بموضوعية في تاريخ فرق الخوارج، وهو النقص الشديد في المصادر التاريخية المكتوبة بأيدي الخوارج أنفسهم، أو التي يروي فيها الخوارج بأنفسهم سِيَرَ حياتهم ودقائق تقلباتهم الفكرية والحركية، وجلُّ المتوافر عنهم، هو المنقول عن غيرهم من خصومهم، حتى وإن أثار كثيراً من التعجب والتساؤلات. ومن ذلك قصة تحول عمران بن حطان إلى مذهب الخوارج.

تنقل المصادر السنية عن التابعي محمد بن سيرين قصة عجيبة تخص عمران بن حطان، وهي قصة زواجه، وفي نفس الوقت، هي قصة تحوله إلى مذهب الخوارج. فقد أعجب عمران بجمال امرأةٍ تنتسبُ إلى مذهب الخوارج، فأعلن أنه سيتزوجها ليردَّها عن مذهب الخوارج، ليُفاجأ الجميع أنها هي التي حوَّلتْه إلى مذهبها، وصار من رؤوس الداعمين للخوارج الصُّفرية والمنافحين عنهم. وتذكر الروايات أنها كانت رائعة الجمال، وأنه لم يكن وسيم الخِلقة، فزاده هذا هيامًا بها. لكن فجأة ينقطع ذكرها والإشارة إلى مصيرها فيما بينَ أيدينا من تراجم عمران بن حطان في المصادر المختلفة.

اقرأ: قصة المعارض السياسي الذي قضى تحت سياط الخليفة العادل

خارجيٌّ من منازلهم

أحاذرُ أن أموت على فراشي ….. وأرجو الموت تحت ذُرا العوالي
فمن يكُ همه الدنيا فإني ….. لها واللهِ ربِّ البيت قالِ!
بيتيْن لعمران بن حطان يعبر فيهما عن خشيته أن يموت في غير ساحة القتال. نقلًا عن كتاب (الكامل) للمبرد

يُصنَّف عمران بن حطَّان من جُملة الخوارج الصُّفرية، المنتسبين إلى زياد بن الأصفر، والذين كانوا أقل تطرفًا في تكفير المخالفين لمذهبهم من المسلمين، وفي تكفير مرتكبي الكبائر، وفي استباحة الدماء، بالمقارنة بالخوارج المُحكَّمة الأوائل الذين خرجوا ضد الإمام علي، كرم الله وجهه، والخوارج الأزارقة شديدي التطرف والدموية.

وكان عمران يوصَف بأنَّه من القاعدين من الخوارج، وهم الذين يوافقونهم في المذهب، لكنهم رغم حماستهم للخروج، فإنهم لا يشاركون في القتال ضد المخالفين، ويكتفون بالانتصار لدعوتهم باللسان والتحريض. والكفّ عن تكفير مثل هؤلاء القاعدين المؤيدين كعمران، كان من أهم الفوارق بين الخوارج الصفرية ومن أشد منهم تعصبًا من الخوارج.

من أشهر أبياته في دعم فكر الخوارج، أبياتٌ شهيرة يمتدح فيها الخارجي عبد الرحمن بن مُلجَم قاتل الإمام علي، كرم الله وجهه، وجلد الخوارج في القتال حتى الاستشهاد:

يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا … إِلاَّ لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي العَرْشِ رِضْوَانَا
إِنِّي لأَذْكُرُهُ حِيْناً فأحسبه … أو فى البَرِيَّةِ عِنْدَ اللهِ مِيْزَانَا
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ بُطُوْنُ الطِّيْرِ قَبْرُهُمُ … لَمْ يَخْلِطُوا دِيْنَهُم بَغْياً وَعُدْوَانَا

وكان من أشهر ما نسب إليه من أبيات الدعم للخوارج، البيت الذي ظلَّ مضرب الأمثال إلى اليوم، وقاله عندما نجح جيش الخوارج الصفرية بزعامة شبيب الشيباني وزوجته المقاتلة غزالة، في اقتحام الكوفة عام 77هـ، وطرد الحجاج بن يوسف منها، وخطبة غزالة على منبر مسجد الكوفة تذم الحجاج والأمويين.

أسدٌ عليّ وفي الحروبِ نعامةٌ …… فتخاءُ تنفرُ من صفيرِ الصافرِ
 هلّا برزْتَ إلى غزالةَ في الوغى …… بل كان قلبُكَ في جناحيْ طائرِ!

اقرأ: قصة غزالة التي جعلت الحجاج نعامة

شهادات الخصوم والمعاصرين

وقد شهد لبراعة عمران بن حطان في الشعر الكثير من معاصريه، ومن أبرزهم الفرزدق، أحد أشهر شعراء العصر الأموي، والذي قال عنه:

 عِمْرَانُ بنُ حِطَّانَ مِنْ أَشْعَرِ النَّاسِ؛ لأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُوْلَ مِثْلَنَا، لَقَالَ، وَلَسْنَا نَقْدِرُ أَنْ نَقُوْلَ مِثْلَ قَوْلِهِ

كذلك شهد المعاصرون لعمران بن حطان بقوة لسانه، وبتميزه في الشعر والأدب. فعندما أقام عمران متخفيًا لفترة في ضيافة أحد كبار رجالات الدولة الأموية وهو روح بن زنباع الجُذامي، فانبهر الرجل بحديث ومعارف عمران بن حطان، حتى ذكره في مجلس الخليفة الأموي عبد الملك، قائلًا:

إِنَّ فِي ضِيَافَتِي رَجُلاً مَا سَمِعَ مِنِّي حَدِيْثاً قَطُّ، إلَّا وَحَدَّثَنِي بِهِ،  وَبِأَحْسَنَ مِنْهُ!

وكان له أبياتٍ من الحكمة تداولها الناس، فتذكر الروايات أن الفقيه التابعي الشهير سفيان الثوري كان كثيرًا ما يتمثَّل بأبياتٍ لعمران في احتقار الدنيا والهائمين بها، اللاهين عن الآخرة، وهي:

أَرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لاَ يَسْأَمُوْنَهَا … عَلَى أَنَّهُمْ فِيْهَا عُرَاةٌ وَجُوَّعُ
أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحَبُّ فَإِنَّهَا … سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيْلٍ تَقَشَّعُ
كَرَكْبٍ قَضَوْا حَاجَاتِهِم وَتَرَحَّلُوا … طَرِيْقُهُمُ بَادِي العَلاَمَةِ مَهْيَعُ

التواري من الحجاج 

حتَّى متى لا نرَى عدلًا نُسَرُّ به …… ولا نرَى لِوُلاةِ الحقِّ أعوانا؟
مستمسكين بحقٍّ قائمين به …… إذا تلَّون أهلُ الجوْرِ ألوانا
يا للرجالِ لدَاءٍ لا دواءَ له …… وقائدٍ ذي عمَى يقتادُ عُميانا
من أشعار عمران بن حطان

ولعمران بن حطان قصة هروبٍ سينمائية الأحداث، عندما كان من أبرز المطلوبين لدى الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق الدموي الشهير، والذي جرَّسًَه عمران في بيتيْ غزالة المذكورين للتوّ، والذي أيضًا جاءته الكتب في قتله من سيده الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، لكونه من أشد المعارضين للخلافة الأموية.

اقرأ: درس قَتْل قتلة الحسين .. الانتقام وحدَه لا يكفي

في كتابه الصغير المعنون بـ«كتاب المتوارين»، يخصص المُحدِّث المصري عبد الغني بن سعيد الأزدي (توفي 409هـ) فصلاً للحديث عن قصص هروب عمران بن حطان من الحجاج بن يوسف الثقفي الذي أراد قتله لمعارضته اللاذعة للحكم الأموي الجبري، ولقمع الحجاج للعراقيْن. هدَّد الحجاج قبيلة عمران بأنه سيأخذها بذنبه إذا قرروا حمايته، فقرَّر عمران الرحيل بعيدًا عن مناطق نفوذ الحجَّاج لينجو من بطشه، وليرفعَ الحرجَ عن قومه.

لَوْ كُنْتُ مُسْتَغْفِراً يَوْماً لِطَاغِيَةٍ … كُنْتَ المُقَدَّمَ فِي سِرٍّ وَإِعْلاَنِ
من شعر عمران بن حطان

في البداية لجأ عمران وهو متنكر  إلى روح بن زنباع المقرَّب من الأمويين كما أشرنا سابقًا، واستجارَ به على عادة العرب، فأجاره. ومن كثرة ما حكى عنه روح في مجلس عبد الملك، وقصّ على الخليفة من غرائب قصصه وأشعاره، وإطالته في الصلاة وقراءة القرآن، شكَّ عبد الملك أنه من الخوارج، وأنه قد يكون عمران بن حطان، فطلب من روح أن يعطيَه الأمان ويحضره معه المجلس القادم، فلما رجع ابن زنباع إلى عمران، وأخبره بطلب الخليفة، وافق على الفور، بشرط أن يذهب ويحضر له أمانًا مكتوبًا، فما إن غاب روح في طريقه إلى قصر الخليفة، حتى كان عمران قد فرَّ وترك له ورقة فيها أبياتٌ من الشعر منها:

يَا روح كم من أخي مثوى نزلت بِهِ ….. قد ظن ظَنك من لخم وغسان
حَتَّى إِذا خفته زايلت منزله …… من بعد مَا قيل عمرَان بن حطَّان
قد كنت ضيفك حينا لَا يؤرقني …… فِيهِ طوارق من إنس وَمن جَان

ثم استجار عمران بزفر بن الحارث الكُلابي، وادعى أنه من من قبيلة الأوزاعيين اليمنيين، وهم أخوال زفر، وكان من ولاة الأمويين، فأجاره وهو لا يعرفه، فانبهر به قوم زفر لحسن عبادته وقراءته للقرآن، فقلق من ذلك الاهتمام الزائد أن يكشف هويتَه، فرحل عنهم فجأة.، وترك لهم شعرًا يفتخر فيه بمهارته في التواري، مطلعه:

إِن الَّتِي أَصبَحت يعيا بهَا زفر ….. أعيا عياها على روح بن زنباع
مَا زَالَ يسألني حولا لأخبره ….. وَالنَّاس مَا بَين مخدوع وخداع

ثم التجأ بهويةٍ جديدة إلى محمد بن مروان الأموي والي الجزيرة الفراتية، ثم لما اشتدَّ الطلب له، قرر أن يبتعد تمامًا عن العراق وعن الشام، ففرَّ جنوبًا إلى عمان.

ثم في عام 84هـ، توفي عمران بن حطان في منفاه الاختياري في منطقة عُمان، والتي لجأ إلى بعض من يؤمنون بفكر الخوارج فيها. وإن ذكرت مصادر أخرى منها المبرد في كتابه «الكامل»، أن الحجاج أرسل إلى والي عمان يطلب عمران، ففر إلى البادية إلى قومٍ من قبيلة الأزد اليمانية، فاحتمى بهم، حتى وافته المنية.