الشعر فن يزكو بالإنشاد المنغّم جهرًا، ثم ﻻ يجد تمامه وﻻ كمال رسالته إﻻ إذا كان إنشاده على جماعة من المستمعين المحبين له، فهو في الأصل فن خطابي غنائي جماعي.
من كتاب «كُناسة الدكان» – يحيى حقي

الشعر في الأصل هو فن مسموع وليس مقروءًا، وكما يقول الكاتب الكبير «يحيى حقي» إن الشعر ﻻ يجد كماله إﻻ إذا كان إنشاده أو إلقاؤه على جماعة من المستمعين. وعليه فإن الكتابة لم تكن إﻻ وسيطًا لحفظ الشعر وليس عرضه على الجمهور، فالتلقي في فن الشعر ﻻ يتم إﻻ من خلال تلك العلاقة التي يخلقها الاتصال المباشر بين الجمهور وصوت الشاعر أو من ينوب عنه بإلقاء كلماته أو غنائها.

ومن هنا تأتي العلاقة الملتبسة بين الشعر والغناء، فكلاهما فن مستقل بذاته ولكن كليهما يعتمد على الآخر كوسيط للاتصال مع الجمهور. بيد أن هذا الالتباس ﻻ يأتي من مجرد هذا التكامل بين الفنين، وإنما بالأحرى بين وزن كل منهما ومدى هيمنته على الآخر. فقد يوضع اللحن لأشعار مكتوبة بالفعل، وقد يحدث العكس تمامًا وتكتب الأشعار على لحن سبقت صياغته، وفي الأخير يكون المنتج المتكامل هو الأغنية، فيتفرق فضل الإبداع فيها بين أكثر من فنان وإن كان المطرب هو من يتلقى عبارات الاستحسان أو الاستهجان من الجمهور.

من المعروف عن «أم كلثوم» أنها كانت تميل إلى التدخل في الكلمات والألحان، وتطالب الشعراء والملحنين بالكثير من التعديلات، وهو الأمر الذي أخّر تعاونها مع عدد من الشعراء والملحنين من بينهم الشاعر «مأمون الشناوي» الذي كان يرفض إدخال أي تعديلات على كلماته، غير أن إحدى الروايات تحكي أنه رضخ في النهاية لرغبته في التعاون مع أم كلثوم وإدراكه أن في هذا الكفاية لمسيرته الفنية. وهنا يثار السؤال عن دور المطرب في اختيار الكلمات، وفقًا لما يناسب مشروعه الفني الخاص، أو رؤيته الخاصة لموضوعات أغانيه.

في أحد عروض «إستاند أب كوميدي»، يعلق جورج عزمي على كلمات الأغاني بقوله إن الأغاني المصرية كلها تتألف من 25 كلمة فقط، يقوم كل شاعر بالاختيار من بينها وإعادة ترتيبها ليخرج بأغنية جديدة.

وإن كانت المبالغة هنا هدفها تحقيق المفارقة الساخرة بالأساس، إﻻ أنها ﻻ تخلو من بعض الحقيقة، فالمتأمل في حال الأغنية المصرية ﻻ يكاد يخرج منها بعدد قليل من التجارب التي تخرج عن المألوف، وتجنح إلى ابتكار صور شعرية وتراكيب لغوية جديدة، أما البقية الباقية والغالبة فهي إعادة تدوير لنفس المعاني ونفس الصور ونفس القوافي واللازمات. ولكن، ما علاقة «أنغام» بهذه المقدمة الطويلة؟

أنغام هي بحق أحد أعلام جيلها من المطربين والمطربات، اتخذت لنفسها مكانًا خاصًا واحتفظت به لسنوات طويلة من خلال رحلة فنية دسمة ومتنوعة المشارب. وإذا ما سألت محبي أنغام عن سر تفوقها ستأتيك الكثير من الأجوبة، يروق لجمهورها تلخيصها في كلمة «الإحساس».

الإحساس بالكلمات وبالألحان، وبالحالة الخاصة لكل أغنية. في هذا التقرير سنحاول التركيز على سبب وحيد، هو اختيارها للكلمات، وسننتقل من الخاص إلى العام للوقوف على أهم عوامل تميز الشعر الغنائي والتي استطاعت أنغام من خلالها أن تكون بمثابة الحجر الملقى في مياه الغناء الراكدة منذ سنوات.


الصورة الشعرية والتراكيب اللغوية

رسمت هواك نسايم بتهفهف في العصاري وشوقك طير وهايم بيرفرف عند داري.
من أغنية «برسملك صور»

لقد مر فن الشعر بالعديد من مراحل التطور، وشهد عدد من أشكاله، مثل الشعر العامي والشعر الحر، الكثير من المعارك حتى يتم الاعتراف به. وهنا نسأل: ما هو جوهر فن الشعر؟ وأين تكمن جمالياته؟

التصور الشعبي البسيط للشعر يتم اختزاله في الوزن والقافية، وذلك لما لهما من موسيقى ذاتية لها وقع جميل على الأذن، ولكن في الحقيقة الأمر يتجاوز هذا التصور البسيط إلى جوهر أهم هو رسم الصورة الشعرية. فالكلمات بالنسبة للشعر ليست أكثر من المادة الخام التي يغزل منها الشاعر منتجه النهائي، وهو هنا أشبه بعامل ماهر في أي صنعة، كعامل الغزل والنسيج مثلاً، والكلمات هي خيوطه التي ينسجها لتخرج في شكل بساط جميل متنوع الألوان، ولكن هناك فارق بالتأكيد بين عامل تقليدي يقوم بمحاكاة نموذج معين، وبين عامل مبدع يخلق البساط خلقًا.

نعود لجورج عزمي الذي اختزل كلمات الأغاني في عدد بسيط هو 25 كلمة، بل إنه قام بترديدها جميعًا في عرضه؛ «بعشق، وبدوب، وليالي، الشوق، حبك، هواك، غلاب، عنيك، عنيا، إيديك، إيديا، جرح، جارحني، ناسيني، ظالمني، كاويني، ناري، يسامحك، يطاوعك، يصدق، يوم، فاكر، امشي، حبيبي، بحلم».

وهي بالفعل الكلمات الأكثر شيوعًا في الأغنية المصرية، ولكن الشعر أبعد من ذلك. الشعر هو ذلك الكلام الذي يعبر عن الشخص العادي ولكنه لا يستطيع صياغته، ﻷنه لا يمتلك تلك الموهبة التي تمكنه من رسم الصورة الشعرية، وابتكار التراكيب اللغوية، فكيف تعبر عن معنى الحب بكلمة أخرى غير الحب؟ كيف تعبر عن الاشتياق، والألم، والفرح..إلخ؟

اقرأ أيضًا:«أنغام» وجلباب أبيها

أنغام تعرف كل ذلك، وتعرف كيف تختار كلمات أغانيها من الأشعار الحقيقية التي تحمل جوهر هذا الفن، فهي تعرف أهمية رسم الصورة الشعرية وليس مجرد إعادة ترتيب كلمات مستهلكة، وتعرف أن هذا الأمر ليس بالهين، فكيف تخلق صورًا جديدة من كلمات (مادة خام) هي في الأصل محدودة؟

وأقولك إيه عن حبي وكل كلام الدنيا قليل.

كيف تعبر عن «البعد» بكلمات أخرى بخلاف البعد؟ أنغام تجيب «عز اللقا بينك وبيني». كيف تعبر عن الوحدة برسم صورة كاملة؟ أنغام تجيب «ما مسح دموعي غير طرف كمي». كيف تجسد فكرة أن البعد يقتل الحياة؟ أنغام تجيب «قبل ما تسافر بعمري اسجن الشوق والمنى». كل هذه الصور الشعرية وغيرها، ليست مجرد ترتيب لكلمات تحمل الوزن والموسيقى، ولكنها خلق لمنتج جديد لم يكن له وجود من قبل، والخلق هو جوهر أي فن.

وبالإضافة لرسم الصور الشعرية، هناك جانب آخر من الابتكار يكمن في استخدام الكلمات المجردة وتوظيفها، والإتيان بألفاظ وتصريفات جديدة غير شائعة الاستعمال. تقول أنغام «إلقالك حد»، أين قد تسمع مثل هذا التصريف لفعل «لقي» في صيغة الأمر؟

الإجابة: فقط عند أنغام. كيف تبحث في قاموس اللغة عن كلمات غير مستهلكة؟ بماذا تصف الحبيب بكلمة أخرى؟ أنغام تجيب «بعدك مليش خلان». كيف تخلق المفارقة اللفظية لتثير انتباه المستمع؟ أنغام تجيب:

مين غيرك عايشة ليه من غيرك قلبي دايب مش عارفة أعمل إيه.

الشعر ليس هو الوزن والقافية، الشعر هو تجسيد المشاعر والأفكار والمعاني في صور جمالية، لها وقعها المحبب على الخيال والعقل قبل الأذن.


الأغنية الدرامية

«الإحساس»، تلك الكلمة التي تم ابتذالها من قبل برامج المسابقات الغنائية مثل برنامج «الصوت – The Voice»، هي التعبير الأكثر شيوعًا لوصف أنغام من قبل محبيها. وهي أيضًا المعيار الأهم للتمييز بينها وبين غيرها من نجوم الغناء ممن يفتقرون إلى الحد الأدنى من الموهبة، ويعتمدون على تصحيح عيوب أصواتهم في الإستديوهات، فتظهر هذه العيوب عارية في الحفلات الغنائية المباشرة، في حين أن جمهور أنغام يزعم أن حفلاتها الغنائية أفضل من أغانيها المسجلة، وذلك لنفس السبب: «الإحساس».

ﻻ شك أن الإحساس عامل شديد الأهمية في أداء المطرب، فلا يكفي أن تتغنى بكلمات معبرة عن الفرح أو الحزن ما دمت ﻻ تستطيع أن تجسد هذه المشاعر في أدائك، وهو الأمر الذي يبلغ ذروته في الأغاني المعبرة عن مواقف بعينها أو حالة درامية كاملة أو ما يمكن أن نطلق عليه «الأغنية الدرامية» على شاكلة أغنية «ساكن قصادي» لنجاة الصغيرة، وهو النوع الذي تحرص أنغام على تقديمه منذ بداية رحلتها الفنية.

أكثر الأغاني الدرامية التي تشتهر بها أنغام هي أغنية «شنطة سفر» والتي قام بتصويرها المخرج الكبير «عاطف الطيب». كتبت هذه الأغنية الشاعرة «فاطمة جعفر»، والجميل في الأمر أنها مستوحاة من موقف حقيقي، حيث عبرت من خلالها الشاعرة عن مشاعرها قبيل سفر أخيها للعمل بالخارج، غير أن الشكل الذي خرج عليه الكليب فرض تصورًا شائعًا أنها كلمات زوجة لزوجها، والشاهد هنا هو الحالة الدرامية الخاصة التي خلقتها الكلمات والتي عبرت عنها أنغام بأداء متميز انطبع في وجدان جمهورها خاصة من عاصروا موجة السفر للخليج في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.

اقرأ أيضًا:نجوم العمل الواحد: صدفة عابرة أم موهبة حقيقية؟

وبخلاف «شنطة سفر» قدمت أنغام العديد من الأغاني الدرامية، مثل «عرفها بيا»، و«عشت سنين»، وغيرها، والتي قامت من خلالها بتصوير مواقف درامية كاملة، حتى أن إحدى هذه الأغاني تضمن التواءة درامية وهي أغنية «في الركن البعيد الهادي»، حيث تستمر الأغنية لأكثر من سبع دقائق تعبر فيها أنغام كيف خذلها حبيبها وخلف موعدها، وبنهاية الأغنية نكتشف أنها هي من أخطأت في الموعد من فرط شوقها.

في هذه الأغنية نلاحظ تطور أداء أنغام على مدار الأغنية، وتسلل اليأس إلى صوتها ببطء كما لو كان ثلجًا يذوب في كأس ليمون، ثم يختلف الأداء تمامًا بعد مهاتفة الحبيب وخاصة في جملة «قالي أهلاً يا حياتي» والتي تعبر فيها عن تغير الحالة والشعور تمامًا تمهيدًا للمفاجأة والالتواءة الدرامية بنهاية الأغنية.


النسوية: ببساطة كده

ترتبط النسوية بحكم التعريف بالمدافعات عن حقوق المرأة، وليس «المدافعين»، كما لو كان لزامًا على كل امرأة أن تناصر بنات جنسها ضد الجنس الآخر. ولكن يختلف التناول من فنانة لأخرى، ويكمن هذا الاختلاف بالأساس في اختيار الكلمات المغناة.

تقول أم كلثوم:

مين اللي قال عزك في ذل خضوعي.
وتقول إليسا:
أنا نفسي أﻻقي واحدة مبسوطة في حياتها أنا نفسي أقابل واحدة حاسة بالأمان.

تصور إليسا للنسوية اختصرته في أن جميع النساء في محيطها تجمعهم المعاناة والافتقار إلى الأمان، أما «شيرين عبد الوهاب» فقد جنحت، في عهدها الأول ما قبل عمليات التجميل، إلى الخشونة والعنف الرجولي في خطابها.

فتخاطب حبيبها بقولها «اسمع علشان أنا صبري قليل»، واستمر ذلك حتى نصحها أحدهم أن تستغني عن العنف وتجرب الرومانسية الرقيقة فكان ألبوم «على بالي» ومن قبله أغنية فيلم «عن العشق والهوى» نقلة جديدة في رحلتها الفنية.

وبعيدًا عن بكائيات إليسا الساذجة وغير الواقعية، وعنف شيرين الرجولي، كانت نظرة أنغام للنسوية أكثر بساطة، فعمدت إلى تقديم أغانٍ بسيطة تؤسس من خلالها حقوق المرأة الأساسية كندّ للرجل وليس تابعًا، بداية من أغنية «ببساطة كده» والتي تقول فيها:

أنا عايشة كده بقلبي المفتوح ع الناس والعالم كله وبنادي زمان وأقوله أنا كلي شباب وآمال وطموح وهروح يا زمان مطرح ما تروح.

البساطة هنا هي المفتاح، الأمر ﻻ يحتاج إلى عبارات رنانة أو استجداء لمشاعر الاستعطاف على حال المرأة، فكما تقول أنغام متحدية المجتمع:

ما هي دي حياتي وحرة فيها واللي يلومني في يوم عليها مايهمنيش.

تختار أنغام كلمات تؤكد على أحقيتها في كل الفرص بوصفها نصف هذا المجتمع -كما تقول نصًا في أغنية «نص الدنيا»- وليس بوصفها امرأة، وتؤكد أنها جديرة بكل الفرص حتى وإن كانت اختراق الفضاء نفسه، فتقول:

لكن عندي استعداد أركب مركبة في الفضا.

وتبلغ البساطة مداها في معالجة موضوع الحب نفسه، ورؤية المجتمع المقيدة لمشاعر المرأة فتقول:

يا دنيا شوفي معدش خوفي وﻻ عاد كسوفي يمنعني أحب.

وهو ما يذكرنا بخطاب مماثل في أغاني أم كلثوم التي تعالج الأمر نفسه وتقول «قول الحب نعمة مش خطية». النسوية عند أنغام هي تعبير عن حقها كإنسان وليس كامرأة، وهو أمر بسيط ﻻ يحتاج إلى كل هذا التعقيد، أو كما تقول:

أنا شايفاها بسيطة وسهلة، ليه بس هصعهبها؟

مسيرة طويلة جاوزت عقدها الثالث تلك التي قطعتها أنغام منذ أن كانت طفلة صغيرة قدمها أبوها الموسيقار والملحن «محمد علي سليمان»، حافظت خلالها على مكانة متميزة بين أعلام جيلها ولدى جمهورها، اعتمادًا على موهبتها الفطرية، وحسها الفني اليقظ، وحسن اختيارها للكلمات والألحان التي تناسب رؤيتها الخاصة ومشروعها الفني الدسم. وكان اختيارها الدقيق للكلمات وفهمها لجوهر الإبداع في الشعر الغنائي هو أحد أهم عوامل هذا التميز الذي غلف تجربتها الثرية.