في إحدى الليالي الهادئة، وبينما تزخر «لؤلؤة إسرائيل الخضراء» (مجمع سارونا) بالمارة والسياح، دخل شابان يرتديان بدلة سوداء رسمية ويحملان حقائب فاخرة إلى مطعم «ماكس برينر»، فطلب كل منهما طبقًا من الحلوى يُدعى «ميلكي براونيز»، ولكن لم تمتد إليهما أيديهما أبدًا.وبعد خمس عشرة دقيقة من دخولهما المطعم، نهض الفتيان، وكشف كل منهما عن سلاح رشاش، ليقوما بإطلاق النار على من حولهما، ليس بشكل عشوائي، ولكن طلقة طلقة، حرصًا على استغلال ما لديهم من ذخيرة. ولكن نفدت ذخيرتهم بعد دقيقة واحدة، فسقط أحدهما جريحًا، والآخر تم اعتقاله، بعد أن قتلوا 4 أشخاص وأصابوا 16 آخرين.


عملية نوعية: الخليل مُجددًا

بات من المؤكد أنه عندما يسيطر الهدوء على ساحة المقاومة الفلسطينية، فإن العاصفة آتية لا محالة، وجاءت عملية تل أبيب بالأمس، 8 يونيو 2016، لتثبت أن المقاومة الفلسطينية باتت تؤرّخ لحقبة جديدة، سوف يعاني خلالها الاحتلال الإسرائيلي أشد العناء.فما بين عمليات بسيطة وكثيفة العدد تتم خلال فترة زمنية متواضعة، وعمليات نوعية محدودة العدد تتم على فترات زمنية متباعدة، رسمت المقاومة الفلسطينية خط عملها الجديد؛ وهو الخط الذي تتضح معالمه من خلال دلالات عملية الأمس:

1. مكان العملية

جاء اختيار مكان تنفيذ العملية دقيقًا، فمجمع «سارونا» هو أحد أهم البقاع السياحية التي تقع في قلب تل أبيب، حيث تفتخر إسرائيل بهذه التحفة المعمارية، ذات التصميم المعماري والحضري، والحدائق المشذّبة؛ ما جعل الإسرائيليين يطلقون عليها «اللؤلؤة الخضراء» التي توفر إحساسًا أوروبيًّا في قلب الشرق الأوسط، هذا من جانب.

وقوع مكان العملية في قلب تل أبيب وبالقرب من مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية يؤكد أن المقاومة باتت قادرة على الوصول إلى أي مكان داخل «إسرائيل».

وعلى الجانب الآخر، وقوع مكان العملية في قلب تل أبيب وبالقرب من مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية يؤكد أن المقاومة باتت قادرة على الوصول إلى أي مكان داخل «إسرائيل».

2. التخطيط الجيد

أسلوب التنفيذ يدل على أنه قد تم التخطيط جيدًا للعملية وبشكل دقيق، حيث ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية: «أن الشابين جاءا للمكان وفي أيديهما خطة مُعدة سلفًا لتنفيذ الهجوم، حيث كان بحوزتهما كافة تفاصيل المكان، وقد قاما مسبقًا بدراسة معالمه، الأمر الذي أوقع عدة قتلى وعددًا كبيرًا من الجرحى».

3. خروقات أمنية إسرائيلية

أظهرت العملية خرقًا أمنيًا فاضحًا، فهي نجحت في إعادة حالة الرعب من جديد إلى الشارع الإسرائيلي بعد فترة من الهدوء النسبي، فالعملية مزدوجة قطع فيها المهاجمان عشرات الكيلومترات حتى وصلوا إلى قلب تل أبيب، وهم يحملون أسلحه نارية، ثم مكثوا في تل أبيب وقتًا كافيًا لاختيار المكان المناسب، وأيضًا تم تنفيذ العملية بنجاح. وقد صرح الناطق باسم الشرطة الاسرائيلية أنه «لم يكن لديهم أي إنذار مسبق عن العملية».ويُذكر أن نسبة رضا الإسرائيليين عن أداء الأجهزة الأمنية قد انخفضت بصورة كبيرة في الأسابيع الأخيرة، حيث ذكرت القناة الثانية الإسرائيلية أن عدم رضا الجمهور عن أداء سلطات إنفاذ القانون ارتفع من نسبة 69% – خلال الأشهر الـ 17 الأخيرة – إلى 84%، حيث بات يُنظر للشرطة على أنها فاسدة، مع مسئولين غير ملائمين لأسباب مختلفة.

4. تحدي ليبرمان

لا شك أن العملية مثّلت تحديًا صريحًا من جانب المقاومة لليبرمان، وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد، الذي كان قد صرّح في أكثر من مناسبة بأنه لن يتهاون في القضاء على الإرهاب الفلسطيني، وقد أيّد العودة إلى سياسة الاغتيالات. وجاءت هذه العملية قرب مقر وزارته، لتشير أن وجود شخصية متطرفة على رأس وزارة الدفاع لن يُثني المقاومة عن استكمال مسيرتها.

5. الخليل مُجددًا

ينتمي منفذا العملية، محمد أحمد موسى مخامرة وخالد محمد موسى مخامرة، لمدينة يطا جنوب الخليل، وكأنّ أهل الخليل أرادوا إيصال رسالة إلى الاحتلال الإسرائيلي مفادها: «الانتفاضة ولدت هنا، ومن هنا يعاد إحياؤها من جديد».فالخليل، أو عاصمة الغضب الفلسطيني، تصدرت مشهد المقاومة خلال انتفاضة السكاكين، حيث أن 85% من عمليات الانتفاضة خرجت من الخليل، وهي التي تمكنت من نقل حراك الانتفاضة الحالية من حالة الطعن والمواجهة بالحجارة مع الاحتلال إلى عمليات القنص على خط المواجهة، كما أن ثُلثي شهداء الانتفاضة حتى الآن هم من أبناء الخليل.


الكارلو ينتصر للمقاومة

أعادت عملية تل أبيب سلاح «الكارلو» مرة أخرى إلى الواجهة، فصار أحد أشهر أسلحة المقاومة التي تم تطويرها في السنوات الماضية، وصار بمقدور الشباب الفلسطيني أن يقتنيه، بعدما أصبح سعر المحلي لا يتجاوز الـ 250 دولار أمريكي.ويعتبر سلاح «الكارلو» نسخة فلسطينية معدلة عن سلاح رشاش سويدي الأصل يدعى «كارل جوستاف»، ويستخدم رصاصة من عيار 9 ملم، وهي متوفرة بشكل كبير خاصة أنها ذخيرة أساسية للمسدسات بشتى أنواعها، كما أن مخزن البندقية يتسع لحوالي 25 رصاصة من هذا العيار، ويُعتبر سلاحًا مؤثرًا إذا استُخدم من مسافة قريبة.ومنذ ظهوره في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، بات «الكارلو» حاضرًا في العديد من العمليات النوعية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية، مثل عملية «ديزنجوف» التي نفذها الشهيد نشأت ملحم، وعملية القدس التي نفذها الشهيد فؤاد أبو رجب التميمي، بالإضافة للعملية الأخيرة في الخليل والتي نفذها الشهيدان قاسم فريد جابر وأمير فؤاد الجنيدي.ويعتبر نجاح سلاح الكارلو في دعم جهود المقاومة الفلسطينية ليس سوى أحد تجليات تطور المقاومة ودأبها عبر السنوات الماضية، فالمقاومة أثبتت أنها قادرة على تطوير أسلحتها وتطويع أدواتها وفقًا لظروف الساحة الفلسطينية.ففي ظل صعوبة الحصول على الأسلحة أو تصنيعها، كانت أسلحة المقاومة هي نفسها الأسلحة التي تستخدمها الجماهير الفلسطينية؛ من حجارة، والتحامات شعبية، وسكاكين، وزجاجات حارقة، وتدبير الحرائق، وزرع العوائق.وبعد ذلك، تطورت إمكانيات المقاومة، فباتت قادرة على تصنيع الأسلحة والأدوات القتالية، وسعت لتعويض النقص الكبير الذي تعاني منه في الإمكانيات التسليحية عبر ابتكار وسائل بديلة تتمتّع بقدر من الفعالية.فتطورات صواريخ المقاومة، منذ أن تم إطلاق أول صاروخ محلي الصنع عام 2001 باتجاه المستوطنات الإسرائيلية، وسُمي «صاروخ القسام»، وبلغ مداه 4 كيلو متر ووصل إلى أطراف مستوطنة «سيديروت» شمال القطاع. حتى كشفت المقاومة في حربها الأخيرة ضد الاحتلال عام 2014 عن صواريخ محلية الصنع من طراز M75، والتي وصل مداها إلى 75 كيلو مترًا.كما طورت المقاومة أنواعًا من الصواريخ المضادة للدروع تسمى «البنا1» و«البنا2»، وهي صواريخ محمولة على الكتف، وتشبه صواريخ الـ RPG، ويبلغ مداها 250 مترًا. كما شكّلت المقاومة وحدات اختصت في تصنيع وتطوير البنادق، فأعلنت في عام 2014 عن تطوير «قناصة غول»، وهي من عيار 14.5 ملم، بمدى قاتل يبلغ 2 كيلو متر، ناهيك عن تطوير أنواع مختلفة من المتفجرات والعبوات الناسفة.


الانتفاضة مستمرة

من أهالي مدينة الخليل إلى الاحتلال الإسرائيلي: «الانتفاضة ولدت هنا، ومن هنا يعاد إحياؤها من جديد».

رغم تراجع حدة المواجهات وعدد العمليات خلال الأسابيع القليلة الماضية، إلا أن عملية تل أبيب جاءت لتثبت أن انتفاضة السكاكين ما زالت حاضرة وبقوة، وأنها في طريقها أن تتحول من مجرد عمليات طعن فردية وبسيطة إلى عمليات نوعية ذات تخطيط جيد وباستخدام الأسلحة النارية بدل السكاكين.وتعتبر عملية تل أبيب هي الثانية من نوعها خلال الأشهر الستة الأخيرة. ووفقًا لمسئولين إسرائيليين، فإنه منذ أكتوبر 2015 قُتل 29 إسرائيليًا و4 أجانب، وأُصيب المئات خلال هجمات ومواجهات انتفاضة السكاكين. وفي الفترة ذاتها، استُشهد حوالي 200 فلسطيني، حوالي الثلثين منهم خلال تنفيذهم لعمليات طعن وإطلاق نار، والبقية في مواجهات مع قوات الاحتلال.

أثبتت عملية القدس أن أجهزة الأمن الإسرائيلي لم تنجح في إنهاء الانتفاضة كما ادّعت.

وقد اعتبر المحلل السياسي الإسرائيلي «عاموس هاريئيل»، أن الحديث الإسرائيلي المستمر منذ عدة أسابيع بأن أجهزة الاحتلال الأمنية تمكّنت من خفض نسبة العمليات خلال الشهرين الماضيين، منح الإسرائيليين شعورًا بأن الانتفاضة قد انتهت، ولكن جاءت عملية تل أبيب لتثبت عكس ذلك.وأشار موقع «واللا» الإسرائيلي الإخباري إلى قلق في أجهزة الأمن الإسرائيلية من موجة تقليد في أعقاب نجاح العملية الفدائية. وبحسب الموقع، يقف المسئولون الآن أمام سؤال مفاده: «كيف يمكن الحفاظ على الأمن في رمضان دون إشعال النار في الضفة؟».ولكن، من خلال قراءة ردود الأفعال الفلسطينية المُرحِبة بالعملية، وردود الفعل المتطرفة التي قد يُقدِم عليها ليبرمان، يمكن أن يحمل شهر رمضان أكثر من عملية نوعية للمقاومة الفلسطينية، خاصة في ضوء التحذيرات الإسرائيلية من أن «فترة شهر رمضان غير مريحة لأي تغييرات في الضفة الغربية؛ ولذلك يجب افتراض أن ليبرمان لن يُصدر سياسات جديدة ضد الإرهاب».ولكن يبدو أن ليبرمان لا ينوي الاستماع إلى هذه التحذيرات، حيث أن أولى قرارته عقب العملية كانت: تجميد عشرات الآلاف من التصاريح التي مُنحت للفلسطينيين للسفر إلى «إسرائيل» خلال شهر رمضان.فهل تكون عملية تل أبيب بداية عهدٍ جديدٍ تتحول فيه انتفاضة السكاكين إلى انتفاضة «العمليات النوعية»؟

المراجع
  1. هداش هروش، "سارونا: أوروبا في تل أبيب"، موقع المصدر، 9 يونيو 2016.
  2. جوداه آري غروس، "المسلحان في تل أبيب طلبا الحلوى ومن ثم أطلقا النار"، موقع تايمز أوف إسرائيل، 9 يونيو 2016.
  3. "خبير بالشأن الإسرائيلي: عملية تل أبيب ضربة لمبادرات التسوية"، موقع شبكة قدس الإخبارية، 9 يونيو 2016.
  4. "يطا تحدّث ليبرمان وأبلغت الإسرائيليين بأن الانتفاضة مستمرة"، موقع شبكة قدس الإخبارية، 9 يونيو 2016.
  5. "بعد سلسلة من الحوادث المؤسفة: ثقة الجمهور بالشرطة تصل إلى أدنى مستوياتها"، موقع تايمز أوف إسرائيل، 9 يونيو 2016.
  6. راؤول ووتليف وجوداه آري غروس، "بعد الهجوم: إسرائيل تلغي تصاريح سفر وتطوّق المنفذين"، موقع تايمز أوف إسرائيل، 9 يونيو 2016.
  7. خالد الهربش، "أسلحة المقاومة الفلسطينية: الحاجة أم الاختراع"، موقع رصيف 22، 23 مايو 2016.
  8. "أسلحة المقاومة"، موقع مركز المعلومات الوطني الفلسطيني – وفا.
  9. "الكارلو: الرعب القادم للعدو بعد السكاكين"، موقع القسام، 15 مارس 2016.
  10. "قلق في إسرائيل من مواجهة مقلدين خلال رمضان"، موقع أطلس، 9 يونيو 2016.