بلغت احتجاجات العمال 2247 في عام 2014، مقابل 1115 احتجاجًا في التسعة أشهر الأولى من عام 2015

يبدو أن ماراثون الصراع بين طبقة العمال والنظام السياسي في مصر مازال أمامه الكثير؛ فطموح العمال نحو رفع مستوى معيشتهم، وتحسن أجورهم، وحصولهم على الاستقرار الوظيفيّ، وضمان سلامتهم وصحتهم، وتربية أبنائهم وتعليمهم؛ يجاريه توحد الدولة وأنه لا صوت يعلو فوق صوت المؤسسات الرسمية (الحكومة)؛ فإذا كان ضروريًّا وجود مؤسسات غير رسمية إذن فلتصبح مؤسساتٍ ثانويةً داعمةً للدولة وسياستها، فإذا عارضت النظام أو طالبت حتى بأقل حقوقها فهي مجرد (صداعٍ) للنظام ولا تراعي الظرف الاستثنائيّ الذي تمرّ به البلاد. لطالما عانت الطبقة العاملة (عمال وفلاحّون) من انتقاص حقوقها ومعاملتهم على أنهم مواطنون في قاع الهرم الاجتماعي، سعت تلك الطبقة للحصول على حقوقها المنقوصة عن طريق مؤسساتٍ تشرف على إدارتها للدولة؛ ولكن دون جدوى؛ لذلك عملت على تنظيم نفسها في إطارٍ غير رسميّ؛ وفقًا للإطار الدستوري والقانوني، ولكن كيف يكون هناك مؤسسات مستقلة عن الدولة؟

كانت إرهاصات تأسيس النقابات المستقلة في مصر في عام 2009 عندما أنشأ العاملون بمصلحة الضرائب العقارية أول نقابةٍ مستقلة، وهذا وفق اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 لسنة 1948؛ وذلك لعدم وجود تشريعٍ داخليّ في مصر يضمن حرية التنظيم النقابيّ، ومع ذلك كانت مصر موقّعةً على تلك المعاهدة.

ومع تزايد الزخم الثوريّ بعد 25 يناير، وكانت الحركة العمّالية على أشدّها من حيث تنظيم الاحتجاجات والإضرابات للمطالبة بتحسين مستوى المعيشة، فيما عرفت احتجاجات بمصطلح (احتجاجات المطالب الفئوية)؛ فقد أعطى أحمد البرعي وزير التضامن الاجتماعي إبان حكم الإخوان حق تأسيس النقابات العماليّة المستقلة، وحلّ اتحاد النقابات العامة، كما أكدت المادة 76 من دستور 2014 على أنّ (إنشاء النقابات والاتحادات على أساسٍ ديموقراطيّ حق يكفله القانون، وتكون لها الشخصية الاعتبارية، وتمارس نشاطها بحرية، وتسهم في رفع مستوى الكفاءة بين أعضائها والدفاع عن حقوقهم، وحماية مصالحهم، وتكفل الدولة استقلال النقابات والاتحادات، ولا يجوز حل مجالس إدارتها إلا بحكمٍ قضائي، ولا يجوز إنشاء أيّ منها بالهيئات النظامية)، وهو الأمر الذي أدّى إلى التوسع في تأسيس تلك النقابات وزاد عددها حتى وصلت إلى 1500 نقابة و7 اتحادات.


النقابات العمالية المستقلة صداع يؤرق النظام

تمثل الحركات العمالية والطلابية أكثر الفاعلين في الحراك الثوري في أي دولة تشهد شعبية، فمثلا لعبت حركة التضامن في بولندا دورًا بارزًا في مرحلة التحول الديموقراطي، وكذلك ما يقوم به اتحاد الشغل في تونس من دوره السياسيّ في الحراك الثوري بعد ثورة 14 يناير 2011، ومن ثمّ فإن التنظيمات العمّالية تجعل العمل السياسيّ لهذه الفئات أكثر تأثيرًا من الفاعلين الآخرين أمثال الأحزاب السياسية؛ وذلك يرجع إلى القدرة التنظيمية لهذه الفئات، وتجمّعها في أماكن العمل، والتشارك في المعاناة والمصير.

المشهد المصريّ من بعد أحداث 30/6 يؤكد أن السياسة الاقتصاديّة التي تتبعها الحكومة هي سياسة (نيوليبرالية)؛ تقوم على اتخاذ عددٍ من الإجراءات التي تضرّ بمصالح العمال، منها التوجّه نحو التوسّع في الخصخصة، ورفع يد الدولة عن الدعم تدريجيًّا، وارتفاع الأسعار والاتجاه نحو ترشيد الإنفاق الحكوميّ؛ مما يعني العمل على تقليل حجم العمالة في الأجهزة الحكومية، ومن شأن كل هذه الإجراءات الإضرار بمحدودي الدخل والعمال والفلاحين.

لذلك يرى النظام الحالي أن تلك التنظيمات هي مجرد (صداع) للحكومة وتعمل على تعطيل المصلحة العامة للدولة، ويتهمها بالخيانة والعمالة؛ وذلك لنشاط تلك التنظيمات في السنوات الخمس الماضية وقدرتها على الحشد والتعبئة لتنظيم احتجاجاتها المستمرة والمتزايدة، ففي الوقت الذي انخفضت واختفت فيه الاحتجاجات للقوى السياسية المختلفة ومليونيّاتها ومظاهراتها بعد صدور قانون التظاهر؛ إلا أنه يمكن رصد تزايد عدد الاحتجاجات العمّالية التي قام بها العمال في مختلف القطاعات العامة والخاصة، في فترة ما بعد ثورة 25 يناير وما قبلها، فقد بلغ عدد الاحتجاجات بآلياتها المختلفة في النصف الأول من عام 2010 حسب تقرير لمركز الأرض 300 احتجاج في 187 موقعًا عماليًّا، بينما يلاحظ الزيادة في هذا العدد في عام 2014 حيث يشير منتدى المحروسة للبحوث والسياسات العامة أنه يبلغ 2247، بينما بلغت 1115 احتجاجًا خلال التسعة شهور الأولى من عام 2015.

بينما بلغ عدد احتجاجات 2015 إلى 1115 احتجاجًا خلال الـ 9 شهورٍ الأولى، ويذكر التقرير أن أسباب تلك الاحتجاجات تعود لأسبابٍ اقتصادية واجتماعية، وليست سياسيّة، ومنها الاعتراض على قانون الخدمة المدنيّة، ودفع المستحقّات المتأخرة، وتحسين الظروف الماديّة والمعيشيّة، والتثبيت، وضدّ القرارات الإدارية التعسّفية.


تحديات تواجه التنظيم النقابي

توجد هناك العديد من التحديات الداخلية والخارجية التي طالما أرهقت كاهل تلك التنظيمات وعرقلت مسيرتها نحو المضيّ قدُمًا في تحقيق آمال وطموحات العمال الكادحين، فعلى الصعيد الداخلي تعاني تلك التنظيمات من هشاشة التنظيم وغياب الخبرة لدى القيادات العمالية، وكذلك نقص التمويل، وغياب التنسيق بين الاتحادات العمالية المختلفة.

أما التحديات الخارجية فهي الأكثر تأثيرًا على دور تلك التنظيمات، ونعني بها غياب قانونٍ ينظم حريات العمل النقابي، فبالرغم من أن السلطة المصرية خلال فترة غياب البرلمان قد أصدرت 300 قانون في السنة الأولى؛ إلا أنها ترفض إصدار قانونٍ ينظم حريات العمل النقابي بدعوى غياب البرلمان، ولم تكن القيود القانونية فقط هي التحدي الرئيسي؛ حيث أن الحملة الإعلامية لتشويه صورة تلك الجماعات واتهامهم بتخريب البلاد، مع تهميش الاحتجاجات التي تجري؛ مما يقلل من تأثير تلك الاحتجاجات، يضاف إلى أن قانون التظاهر قد أشاع الخوف وحجّم من تلك التظاهرات، في حين عملت الحكومة على اختراق تلك التنظيمات من الداخل وبث الفرقة بين أعضائها، وبالتالي تضييع جهدها في الخلافات الداخلية.

كذلك تلعب مجالس الإدارات بالشركات الخاصة والشركات التي تمّت خصخصتها العديد من الأدوار في تحجيم دور النقابات المستقلة، فهي تعمل على إنشاء نقاباتٍ مستقلةٍ مضادةٍ للنقابة المستقلة لتفتيتها وتمزيقها، أو أنها تعمل على استقطاب بعض الأعضاء من الداخل بعد عرض إغراءاتٍ ماليةٍ أو إدارية، وفي بعض الأحيان تميل إلى الترهيب حيث تقوم بالفصل التعسّفي أو النقل التعسّفي؛ مما يرهق كاهل الكوادر النقابية .


هل تُقْدم الحكومة على حظر النقابات المستقلة في مصر؟

أثار الكتاب الدوري لمجلس الوزراء الصادر في 25 نوفمبر 2015 استياء النقابات المستقلة؛ حيث دعا الكتاب إلى التعامل مع النقابات العامة فقط وهو ما يفهم من النص الذي حواه الكتاب كالآتي: {في إطار متابعة محاولة إثارة القطاع العمالي واستغلال القوانين والقرارات والقوانين المنظمة لأحوال العاملين بالدولة، وبناءً على توجيهات رئيس الجمهورية، ندعو السادةَ الوزراء، كلًّا في وزارته، لعدم التعامل سوى مع اللجان النقابية التابعة لاتحاد العمال الحكومي، في حل مشكلات العاملين}، الأمر الذي يعدّ وأدًا لحرية العمل النقابيّ المستقل، ويعدّ انتهاكًا صارخًا للأسانيد الدستورية والقانونية والمعاهدات الدولية.

ومع بداية انعقاد مجلس النواب المصريّ، ينتظر الكثير من النقابيين الإفراج عن قانون حرية العمل النقابيّ؛ ولكن كيف يمكن إصدار القانون إذا كان البرلمان بهيئته المنتخبة يرى أن مثل هذه النقابات هي تنظيمات غير شرعية وأنه لا يجب إلا التعامل مع الاتحاد العام للنقابات العامة أو النقابات العامة. يُذكر أن الهيئة المنتخبة للبرلمان تضم أعضاءً من النقابات العامة التي تهاجم تلك التنظيمات .

تظهر هذه التصريحات والسياسات التي تتبناها الحكومة توجّهًا عامًّا نحو محاولة لتهميش دور تلك النقابات، بل والعمل على إلغاء دورها، وربما حظرها في المستقبل. ولكن يظلّ الدور الذي سيلعبه العمال الذين وجدوا ضالّتهم في تلك التنظيمات لتمثيل حقوقهم والدفاع عنها بدلًا من النقابات العامة التي لطالما تخلّت عن دعمها لحقوق العمال وحرياتهم لحساب دعمها للنظام الحاكم؛ هو الأمر الحاسم في استمرار تلك التنظيمات، بالإضافة إلى الظرف الدولي؛ حيث أن سعي مصر للحصول على القرض الدوليّ من صندوق النقد الدولي سيفرض على مصر شروطًا انفتاحية على الديموقراطية، وبالتالي سيكون على النظام إطلاق بعض الحريات، ولن يميل إلى التضييق على حرية التنظيم النقابيّ، شريطة ضمان هشاشة نظامها.