الجزء الأول من هذا المقال: تحولات العمارة الإسلامية حتى نصل إلى مدينة اليوم

أكتب هذا الجزء الثاني من المقال، وهدفي الأساسي منه هو مراجعة تعريفات العمارة الإسلامية التي وقعت يدي عليها، ويلزمني في مخيلتي خلال الكتابة سؤال واحد: هل تغطي هذه التعريفات على تعريف من روح الدين أكثر إنسانية و مرونة ومنطقية؟

هذا السؤال سيعبْر بنا خلال السطور القادمة على نظريات وكتابات لأساتذتي الذين أحترمهم وأثمن جهودهم، ولا أستطيع تجاوز فضلهم عليّ خلال البحث والعمل، ولا أن أهدر حقهم في أن تتم مناقشة آراءهم في نفس الوقت. إلا أن التقسيم والأحكام ستتسم بالتجريد والحدّية التي يلزمها هذا الاستقصاء الواسع بالنسبة لموضوع قديم وكبير كهذا.

حصار تعريف العمارة الإسلامية داخل ذهن المفكرين

خلال مراجعة الكتب التي تحدثت عن المدينة – العمارة الإسلامية يمكننا  إجمالاً أن نقسّم الكتابات إلى عددٍ من التوجهات. هذا التقسيم على سبيل التجريد لا الحصر ولا يقلل بأي حال أهمية هذه الأدبيات، إنما هي محاولة لرصد أنماط تفسير المصطلح.

 النمط الأول:  هو ما نعرّفه بالنمط الأثري الكلاسيكي «ما بعد الاستشراق»، وهو الذي يرصد ظاهر المدينة الإسلامية شكلاً وهو التوجه الأكثر تسطيحاً ومباشرة، ويرى المبنى منتجاً تاريخياً مادياً يحتوي على العناصر البصرية وخصائص البناء أيام الحكم الإسلامي، ثم مباشرة نبدأ في شرح عناصر المبنى والقاعة والدرقاعة والسبيل والمساجد وما حولها. وهذا النمط هو السائد الذي يمكنك أن تخرج به بمجرد بحثك عن كلمة «العمارة الإسلامية» في أي من المكتبات.

الأمثلة على هذا التوجه لا يمكن حصرها حيث إنها كانت الصيغة الأساسية التي يرى بها المستشرقون الأوائل تعريف العمارة الإسلامية، وإن اختلف عُمق هذا التعريف ومستوياته. إنها المباني التي تحتوي على هذه المفردات الزخرفية والمقومات المدينية الوظيفية التي تطورت في التاريخ الإسلامي كالمساجد والأضرحة والبازارات والحمامات وغيرها. للأسف تبنّى هذه الفرضية كثيرٌ مِمَّن يسمون أنفسهم «الأثريون الجدد»، المهتمون بوصف المدينة مادياً دون المرور على القيم الإسلامية المنطبقة على هذا المبنى أو ذلك النسيج.

التوجه الثاني: وهو توجه أكثر تركيبية، يمكننا أن نسميه التوجه الوظيفي البنيوي «فترة الثمانينيات»، وهو الذي يرى المدينة على أنها مجموعة من الطبقات  الوظيفية، سواء كانت طبقات معرفية (كالوقف) أو  فقهية (حقوق الجوار) أو اجتماعية (السلطة الحاكمة). هذه الطبقات بدورها تفاعلت مع بعضها كي تكوّن عناصر المدينة المادية (أي المباني) والمعنوية ( أي وظيفتها ).. هذا النمط يستدعي بالتبعية الإدراك بآليات البناء وما يتبعها من قوانين وأحكام فقهية تنظم التعارضات الناشئة.

الأمثلة على هذا التوجة يمكن إجمالها في كتب (الفقة والعمران) بأنواعها المختلفة حيث المدينة تتطور حين تحتاج وظيفة ما (كالصلاة والزكاة والجهاد (مربط الخير ) مثلاً. وفي الجانب الآخر يتم اعتبار المعايير الفقهية (سبباً ) لتعديلات الطريق والأبواب وفتحات الشبابيك والنمو، وهي كتابات كثيرة منتشرة لأستاذنا دكتور خالد عزت ودكتور محمد عبدالستار عثمان وعدد من المستشرقين المتبنيين للمدينة الوظيفية.

التوجه الثالث: توه التعقيد والتنظيم الذاتي أو  مدن الخلفاء  «دراسات آخر التسعينيات وما بعدها \ نظرية التعقيد»، وهو تحليل مبني على تصور المدينة تحت نظرية التعقيد بشكلها الفيزيائي والاجتماعي، أي أنها شكل من أشكال التنظيم الذاتي ورد الفعل على احتياجاتها والقوى المؤثرة عليها اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. هذا التوجه هو الأكثر اقتراباً من فلسفة الاجتماع الحديثة التي ترى العالم على أنه نسيج من العلاقات المعتمدة على بعضها كي يحصل الاتزان المنتج للمدينة.

الأمثلة على هذا التوجه مثيرة للاهتمام، حيث إنها متماثلة في المنطلق ومتناقضة في النتيجة. فالمدينة هي منتج حيوي، طبيعي، ناتجٌ من إعدادات الشريعة (للملكية والسيطرة والاستخدام)، والعمران يتطوّر بتفاعُل المجتمع الطبيعي تحت هذا الإطار، مثل كتابات دكتور جميل أكبر. وعلى الجانب الآخر المدينة الناتجة نتيجة سيطرة الحكام وما ينتج من وراء ذلك من وظائف، وهو ما نلمسه في كتابات دكتور نزار الصياد.

بيان قصور منهج النظر في تعريف العمارة الإسلامية

هذه التعريفات وما يليها من تقسيمات وتدرُّجات تحت نفس الإطار تحتوي على عددٍ من القواعد التي تبين لنا قصورها عن تفسير العمارة الإسلامية.

القصور الأول هو أن جانب من هذه التعريفات متعارض مع قيم الإسلام نفسه؛ فالتوجه الأول (التوجة الأثري) الذي يعتبر الزخارف المبالغ فيها أو المباني المرصودة في حقبه تاريخية تحت الحكم الإسلامي بشكل عام. هذا المنهج هو أكثر المناهج تخبطاً حيث يتم اعتبار وصف المبنى أو المدينة وصفاً إسلامياً لمجرد أنه صادف التاريخ الإسلامي لا لظهور أي قيم إسلامية فيه.

من أكبر الأمثلة التي انتبه لها هو جامع السلطان حسن، وكل ما يتبعه من إشادة بالإتقان والجمال وأكبر قبو في التاريخ، إنما على الحقيقة فالسياق التاريخي لبناء المسجد يفشل عن التعبير عن مدى تعبيره عن معايير الإسلام، إما للمبالغة في تكلفة المسجد في وقت احتياج المجتمع لكل دينار في هذا الوقت و السياق التاريخي المتعلق بالمباهاة بالبناء التي صاحبت الفترة المملوكية أصلاً.

لهذا أنا أرى أن مسجد السلطان حسن وما شابهه هو مبنى بالغ الجمال.. لكن ما علاقته بقيم الإسلام؟ لا أدري.

الإشكال الثاني يناقش المدرسة الفقهية في التفسير، والتي للأسف لم تستطع أن تثبت أن الفقة في هذا السياق كان حصرياً على المسلمين فقط، بل تم سحب (العام الذي ينطبق على مجتمعات ليست مسلمة ) على (الخاص الذي حدث في تاريخ الإسلام). فالقواعد التي تم إجمالها في هذا السياق هي قواعد مقاصدية و منطقية بالأساس ويشترك فيها الإسلام وغيره، كقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) و(حق الشفعة والجار) التي لاحظ الباحثون في الجيل اللاحق مباشرة اشتراكها في المدن التقليدية المبنية على أساس مجتمعي، فالمدن القديمة في دولٍ كثيرة لم يدخل بها الإسلام قط كانت شبيهة بشكل كبير للشوارع الضيقة و موازنات فتح النوافذ والأبواب وحقوق الطريق. وهنا أصبح ادعاء حصرية هذا على الإسلام فقط تخبطاً أيضاً، وظهر أن المناط الوحيد هو غياب سلطة فوقية تقسم وتدير تطور المدينة.

الإشكال الثالث يناقش فكرة الشريعة كإطار نظري مركزي يُخرِج لنا المدينة الإسلامية. وهنا نتساءل عن ماهية الشريعة كمجال تأويلي أوسع من الفقه، فإن كان مجالاً نظرياً يخرج عمراناً عفوياً (من الناس وإلى الناس). الشريعة كأحكام وقوانين تفصيلية تدخل في كل  العملية العمرانية (كالملكية والاستخدام والسيطرة)، تمثل مبادئ مجردة يمكننها فهم العمارة الإسلامية من خلالها إلا أنها ليست منطلقات لتكوين العمارة الإسلامية. فلا يوجد نصوص ثابتة ولا إسقاطات محددة يمكنها استخدام هذه النماذج كي نعيد إنتاج عمارة مسلمة بأي شكل، إلا إذا أعدنا محاكاة الواقع كما كان بالظبط، وهذا يدخلنا في أزمة جديدة من نسخ التاريخ لا الانطلاق من الواقع، فالشريعة تتركنا مع إطار نظري مركزي للتفسير لكنه لا يعبر عن منطلقات التطبيق.

الإشكال الرابع: يُعارض فكرة أن العمارة الإسلامية هي مجرد تمثل لفكرة التنظيم الذاتي أو الـ complexity theory of emergence، سواء كان بشكل مجتمعي من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل. في هذا النموذج تلغي الفكرة «إرادة المجتمعات» من الأساس عبْر تحويل تحليل المدينة إلى مجرد تفاعلات فيزيائية و عوامل خارجية وداخلية مثل عمل السلطة والإقتصاد والملكية التي أثرت على تشكل ونمو هذا النسيج بشكل «تراكمي»، وهذه النظرية الغربية نشأةً وتطويراً تُخضِع العمران إلى دوافع التخطيط والإدارة. ويمكننا اعتبارها مقلوب العمران المعتمد على الشريعة حيث يمكننا حصر العمليات التي أثرت على هذا النمو في معادلات واضحة لا أكثر.

أضرار تثبيت تعريف للعمارة الإسلامية

في المجمل ما تعنيه هذه التقسيمات المتباينة، أن الأفكار العلمية السائدة في الواقع تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على فاعلية التفكير المجرد في سؤال البناء الذي يمكن للمسلم فردياً أن يقيمه. الالتزام بالتعريف في هذه الحالة ما هو إلا محاولة للتوافق مع أسئلة هذا العصر، والسؤال هنا ليس ما هو شكل العمارة الإسلامية التي تتوافق مع عصرنا الحالي؟ بل ما هو التجلي المجرد من التاريخانية الذي يمكننا الرجوع إليه دون الخوض في معارك النظريات ؟السؤال بشكل أدق،هل يمكننا تحقيق الإسلام في عمارتنا بأي شكل من الأشكال؟

هناك فارق كبير بين وسم الشيء بأنه إسلامي و بين أن يخرج من جذر الإسلام بشكل طبيعي.كانت إحدى المشكلات الأساسية التي انتقد بها مشروع أسلمة المعرفة هو كيفية استخلاص الجوهر الإسلامي في تطبيقات العمارة. أحد أهم مُنظِّري هذه المدرسة كان الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي الذي ركز بحثه حول التراث البصري والجمالي للعمارة الإسلامية، لكن غاب عن اهتمامه جوهر الجغرافيا السياسية والإجتماعية لهذه التجليات ثم أعدنا الدفة لتحليل الواقع والانطلاق منه. إن حصْر العمارة الإسلامية في هذه المحاولات يُنقص كثيراً من إمكانيات الإسلام والمجتمع، وهنا يجب التأكيد أن ليس معنى أننا استطعنا تفسير شكل و نسيج المدينة باستخدام فهم آليات الشريعة، أننا نجحنا في نفس الوقت في حصْر تعريف العمارة بأنها العمارة المطبقة للشريعة الإسلامية.

النظر خارج الصورة الذهنية لأدبيات العمارة الإسلامية 

إن احتياجنا للنظر خارج الصورة الذهنية للعمارة الإسلامية نابع من تطويرها لعدد من المشكلات: 

المشكلة الأولى: مشكلة التعريف في حد ذاته، فأغلب تعريفات العمارة الإسلامية ناشئة من تحليل آليات ودوافع تكوين النسيج العمراني، ومن هنا يتسع التعريف بمقدار ما استطعنا أن نحلل منها ويصبح التعريف محصوراً بين مناهج الفهم المتاحة، سواء كان منبعها أن الشريعة هي السبب في شكل المدينة أو أي نظريات أخرى أكثر تعقيداً.

المشكلة الثانية: ارتباط الصورة الذهنية للعمارة الإسلامية بما يُقدّمه هذا التعريف من تفاصيل، وهنا يتم حبس التجارب الجديدة في مدى محاكاة المدينة على المستوى العمراني أو المعماري، وهذه المحاكاة في أحسن الأحوال تشمل المجتمع في البناء وفي أسوأ الأحوال تهتم بمستواها البصري فقط.

المشكلة الثالثة: تحول العمارة الإسلامية إلى أيديولوجية ثقافية وتراثية يسبب انقطاع مع إمكانية الاجتهاد على مستويات المعرفة والإدراك النابع من نصوص الإسلام الأصلية، وهنا تتحول النصوص المذكورة في ذم المبالغة في الزخرفة والتطاول في البنيان إلى نصوص ضد الإسلام بالتبعية. فالقول بذم البناء يتم اعتماده فقط كقول نتبارك به وحصره في نهج التصوف، أما الحضارة فهي المدينة المزخرفة الأندلسيه والمملوكية والصفوية.

المشكلة الرابعة: هشاشة وسطحية المحاولات الحالية التي توسم نفسها بالعمارة الإسلامية والتعقيد المتعمد لعملية البناء واحتكار الممارسة تحت دعوى السند المعماري! وتحويل المبنى لسلعة للدعاية لمن يستطيع أن يحاكي التكوين المعماري تقنياً مع تجاهل بقية العوامل الاقتصادية والإجتماعية بل وحتى البيئية من جهة و الأهم هو تجاهل هدف المبنى والقيمة التي يضيفها إسلامياً من جهة أخرى.

نتيجة لكل ما سبق أصبح التعقيد الذي تصبغ به مفاهيم العمارة الإسلامية السبب الأساسي لغربتها على مستوى الوعي الجمعي، وتحول جوهرها الإسلامي لمجرد ديباجات عامة بعيدة عن قلب المعماري والعامل وأصحاب المشاريع.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.