يستند الموقف الروسي إلى أن طالبان هي التي تحارب تنظيم الدولة، ولا تستند الشرعية التي تنسبها روسيا إلى طالبان على وقائع، بل تهدف إلى زعزعة الحكومة الأفغانية وجهود حلف شمال الأطلسي، ودعم أطراف النزاع، وأيضًا هناك علاقات بين الإيرانيين وطالبان.

وجّه قائد القوات الأمريكية في أفغانستان جون نيكولسون هذه الاتهامات إلى موسكو نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، في إطار زيادة التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو من جانب وروسيا من جانب آخر، على وقع الصدامات الأخيرة بينهما، والتي من المرجح ان تكون لها تأثيرات مزلزلة على النظام الدولي في المستقبل.


كيف التقت بوصلتا موسكو وطالبان؟

أثارت المعلومات حول سعي روسيا لإقامة علاقات قوية مع حركة طالبان في أفغانستان المخاوف الأمريكية، إلى جانب تهديد حلف شمال الأطلسي «الناتو»، إذ تأتي في إطار مساعي بوتين لإنهاك الحلف، بسبب تهديده للجوار الروسي واستمرار توسعه في هذا المجال.وعلى الرغم من نفي الحكومة الروسية تقديم أي دعم مادي لطالبان أو إجراء مفاوضات سرية معها، فإن السفير الروسي لدى أفغانستان ألكسندر مانتيتسكي أكد أن اتصالات حكومته مع الحركة تهدف إلى ضمان سلامة المواطنين الروس، وتشجيع محادثات السلام، قائلًا: «تعتبر روسيا السلام والمصالحة الوطنية ضروريتين، وعليه فإن عملية السلام يجب أن تتم تحت قيادة الأفغان، لكن حلف شمال الأطلسي يحاول تجاهل خطورة الوضع، وإلقاء مسئولية فشله على روسيا».وتعتبر هذه العلاقات ليست وليدة اليوم، وإنما بدأت منذ عام 2007، ولكن مع ظهور فرع داعش في أفغانستان والمعروف باسم ولاية خراسان، عملت موسكو على استغلال ظهور التنظيم في جوارها لإقامة شبه تحالف مع طالبان ودعمه ليس سياسيًا فقط، وإنما من خلال المال والسلاح.


عدو عدوي صديقي

تمتلك روسيا أسبابًا وجيهة للتقارب مع حركة طالبان، على الرغم من خروجها من أفغانستان حينما طُرد السوفييت من البلاد في هزيمة كانت أحد أسباب تفكك الاتحاد السوفييتي، ومن هذه الأسباب محاولة تطويق حلف الناتو والسعي لتكبيده خسائر فادحة، إلى جانب إخراج الولايات المتحدة من أفغانستان، والتي تعتبرها روسيا تهديدًا كبيرًا، باعتبارها موجودة في مناطق الجوار المباشر، وتسعى لإقامة طوق حولها وإثارة الاضطرابات.وقد ارتأى بوتين أن هذه هي الفرصة المواتية لتحقيق تطلعاته، في ظل وصول الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى السلطة وتصريحاته بتخفيف الالتزام الأمريكي تجاه التحالفات، ودعوته أعضاء حلف الناتو إلى تعزيز دفاعاتهم وحماية أمنهم بأنفسهم، وعلى الرغم من تراجعه عن هذه التصريحات لاحقًا فإنها اعتبرت إشارات مقلقة لأعضاء الحلف، ومبشرة لروسيا التي ستحاول توظيف أي ورقة من أجل زعزعة تماسك «الناتو».وقد نقلت الولايات المتحدة يوم 11 يناير/كانون الثاني 2017 حوالي 3000 جندي، بالإضافة إلى معدات عسكرية إلى بولندا في إطار سعي باراك أوباما لطمأنة حلفائه في شرق أوروبا، وقد اعتبرت روسيا ذلك يعد تهديدًا لأمنها القومي، وسيؤدي إلى مزيد من التصعيد والعواقب الوخيمة.

اقرأ أيضًا:حرب باردة جديدة: برلين في مرمى الصواريخ الروسية وقد سبق ذلك تحركات أيضًا من قبل الناتو لتطويق روسيا في دول الجوار، ونشرها كتائب عسكرية في شرق أوروبا، وإجراؤها مناورات ضخمة بجوار روسيا ردًا على التهديدات الروسية، خاصة بعد ضم موسكو جزيرة القرم، وتهديدها لأوكرانيا.ولهذا رأى بوتين أن الفرصة مواتية لاستنزاف الناتو عن طريق دعم حركة طالبان، من أجل إرباك الحلف الغربي وإجبار الولايات المتحدة على الخروج نهائيًا من أفغانستان، وحتى لا يُستغل وجود داعش وتكون إمارته «خراسان» موطنًا لتجميع العناصر الإرهابية في جوار روسيا، وتستغلها واشنطن بعد ذلك لتهديد أمن موسكو وحلفائها.ولهذا تعاونت روسيا مع إيران في السعي لمد علاقات قوية مع طالبان، لمنع إقامة منطقة نفوذ لداعش، قد تهدد أمنها، إضافةً إلى استغلال الولايات المتحدة لذلك والعودة إلى هناك بما يهدد أمنها. وبالفعل كشفت العديد من التقارير عن العلاقات الإيرانية مع الحركة، وقد اتهمت الحكومة الأفغانية بشكل رسمي طهران بإقامة علاقات مع طالبان. ومن جانبها رأت حركة طالبان أن الظروف مواتية لتحسين وضعها وظروف تفاوضها مع الحكومة الأفغانية، والضغط عليها بكسب دعم سياسي ومادي جديد، وهذا تبدّى في القمة التي عقدتها روسيا وشاركت فيها الصين وباكستان، واقترحت موسكو اعتماد «مقاربة مرنة»، وحذف بعض عناصر طالبان من لوائح العقوبات، من أجل تشجيع السلام.وإلى جانب ذلك تتخوف الحركة من قوة نفوذ داعش وجذبه لمقاتليها وتهديد نفوذها الديني والسياسي في بعض مناطقها، وسحب البساط من تحت قدميها، لذا بحثت عن التعاون مع روسيا وإيران لمحاصرة التنظيم ومحاربته. كذلك لا تريد أن تمنح ذريعة لتدخل المزيد من القوات والضغط على مناطقها من قبل قوى عدة بحجة محاربة التنظيم.


طالبان أداة حرب جديدة بين القوى الكبرى

سيكون للتحالف بين روسيا وطالبان، إلى جانب استعانة موسكو بطهران في هذه العلاقة والحصول على دعم من قوى أخرى، تثبيتًا لتوازنات جديدة في المنطقة، وليس في أفغانستان فقط. فعودة طالبان أو على الأقل توظيفها فترة معينة في إضعاف الحكومة الأفغانية الموالية للولايات المتحدة سيطيح بالنفوذ الأمريكي من هذه المنطقة، كما أضعفت روسيا من نفوذ واشنطن في سوريا بدعم إيراني، ولهذا قد يتكرر هذا السيناريو هناك.وتكشف استعانة موسكو بالصين في هذا الشأن عن وجود مصلحة مشتركة، لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي والناتو من هذه المنطقة، إذ يُعتبر هذا الوجود تهديدًا لكلا البلدين الصاعدين، اللذين قد يتعاونان ولو مرحليًا بهدف تقليص الوجود الأمريكي في العديد من المناطق، وكانت البداية في سوريا.وستستغل موسكو الاضطراب الأوروبي في هذا الشأن، حيث خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانشغالها بمحاربة الإرهاب على أراضيها ومواجهة مخاطر وأعباء اللاجئين، إلى جانب توظيف ورقة التراجع الأمريكي التي هدد بها ترامب مرارًا عن الالتزام بأمن حلفائه وتقليص المشاركة الأمريكية في حلف الناتو.


طالبان ورقة رابحة تنتهي قريبًا

التعاون الروسي مع طالبان، جاء مدفوعًا برغبة ثنائية للقضاء على تنظيم الدولة، طالبان تحمي نفوذها الديني، وروسيا تحمي نفوذها الجغرافي.

على الرغم من الحديث عن إمكانية إقامة علاقات قوية وليس تحالفًا بين روسيا وحركة طالبان، فإنه من غير المرجح أن يتم بشكل قوي، وإن شُكل فلن يدوم، لوجود تناقض كبير بين أطراف هذا التحالف، فالعلاقة التي ستنشأ ستكون طارئة لأهداف معينة، وهي الاتفاق على إخراج الولايات المتحدة والناتو من هذه المنطقة.

يمكن القول إن الحركات والتنظيمات المسلحة والجماعات المتمردة، أصبحت ورقة رابحة وجيدة في إنهاك الخصوم، بل تفكيك دولهم وإمبراطورياتهم

وعلى الجانب الآخر لن تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي أمام التغول الروسي في مناطق نفوذها، وهذا قد يشعل حرب بالوكالة جديدة بين البلدين، تكون ساحتها أفغانستان، والتي جرت على أراضيها حربًا في السابق انتصرت فيها أمريكا ودُحر فيها الاتحاد السوفييتي.وقد يرى بوتين أن الوقت قد حان لإجراء مباراة أخرى على هذه الأرض واستخدام طريقة اللعب نفسها، التي تفكك فيها اتحاد بلاده على أيدي الولايات المتحدة بمثل هذه الحركات والتنظيمات، وهذا من المرجح أن يتم قريبًا وهذه المرة سيضم أطرافًا كثيرة، ومنهم الصين وباكستان وإيران أحد دول الجوار الرئيسية المتضررة من مغبة هذا الصراع.

اقرأ أيضًا:إضاءات تختار شخصية العام: قيصر العالم الجديد وبهذا تأتي ورقة طالبان كأداة جديدة ستوظفها القوى الكبرى في إطار حرب الوكالة بينهما، وليس دعم مساعي السلام كما زعمت روسيا، أو كما ادعت أمريكا بدخولها البلاد منذ 2001ـ، فترة لم تزدد فيها أفغانستان إلا في أرقام أعداد الضحايا واللاجئين.وستدخل إيران اللعبة بقوة هذه المرة، حيث خلقت ميلشيات شيعية أفغانية قوية من أقلية الهزارة في أفغانستان، والتي تقاتل الآن إلى جانبها في سوريا، كما منحت اللاجئين الأفغان الذي يدعمونها في سوريا وأسرهم امتيازات كبيرة، ولهذا قد يكونون إحدى الأدوات الفاعلة في حال نشوب صراعات على حدودها ستنضم إليها سواء أرادت أم فُرض عليها ذلك.وختامًا يمكن القول إن الحركات والتنظيمات المسلحة والجماعات المتمردة، أصبحت ورقة رابحة وجيدة في إنهاك الخصوم، بل تفكيك دولهم وإمبراطورياتهم، وهذا ما أدركته روسيا هذه المرة عن طريق الاستعانة بعودها الأول طالبان من أجل إسقاط خصميها الأكبر والأقوى، وهما الولايات المتحدة والناتو.ومن السذاجة أن تعتقد هذه الحركات أنها ستحصل على دعم أو دولة مستقرة من قبل الداعمين، فهي مجرد أداة في حروب الوكالة ستحول بنفسها بلادها لساحة تصفية حسابات بين هذه القوى المتصارعة، وهو ما ثبت من قبل، وما زال يتأكد كل يوم، وجربته أفغانستان ذاتها عندما غزاها السوفييت.