يحسن بعض الأدباء تقديم أنفسهم وتعريف القراء بهم، من خلال كتاباتهم ونشاطاتهم المختلفة، ويمضي آخرون أعمارهم وحياتهم في سبيل إثراء الحياة الأدبية والثقافية من حولهم وترك تراث أدبي وفكري كبير تبني عليه الأجيال اللاحقة فكرها وتثري ثقافتها، ويكونون لهم ذلك المعين الذي لا ينضب وذلك المثال الذي يحلو التعرف عليه والاحتذاء به، حتى وإن واراهم التراب، وباعد بينهم وبين الناس الزمان والمكان.

من هؤلاء المثقفين الكبار رجلٌ ذاع صيته وعرفه البعض على أنه روائي كبير، قدّم للمكتبة العربية أكثر من رواية، كانت كل واحدة منها علامة هامة من علامات السرد العربي، وبقيت حتى يومنا هذا مثلاً يحتذى في أسلوب الكتابة، وانعكاسًا واقعيًا معبرًا عن العالم العربي حين كتابتها وحتى عصرنا الحالي. كما عرفه البعض الآخر على أنه مترجم قدير، قدّم لنا عددًا من الترجمات الإنجليزية الهامة لأديب الإنجليزية الكلاسيكي الأشهر «شكسبير»، كما كان أول من عرّف العربية على الروائي الألماني «وليم فوكنر» وغيره، من جهةٍ أخرى كان له عدد من الممارسات النقدية الهامة التي عرّفت القراء بعدد من الأعمال الأدبية الهامة في عصره وكانت كاشفة عن قدرته على استكشاف أجيال من المبعدين وتقديمهم للقراء بشكلٍ واعٍ ومهم.

إنه «جبرا إبراهيم جبرا» المثقف الكبير الذي ينتسب إلى فلسطين بالمولد والنشأة، وإلى العراق بالحياة وبداية التأثير، وإلى العالم العربي كله بما تركه من روايات وكتابات تعبّر عن الواقع العربي في مختلف بلدانه وأقطاره.

ولد «جبرا» في بيت لحم بفلسطين أوائل تسعينيات القرن الماضي 1920، وفيها تشكل وعيه المبكر وبدأت علاقته بالأدب من خلال القراءة والكتابة. وكان من أجمل آثاره الباقية ما كتبه في سيرته الذاتية «البئر الأولى» التي يكتشف كل من قرأها موهبته الأدبية الفريدة وقدرته على كتابة سيرة ذاتية تجمع باقتدار بين فنية الكتابة الأدبية التي نراها متمثلة في رواياته، وبين المتعة الخاصة بحكاياته عن نشأته وتكوينه والمواقف التي أثرت فيه والأشخاص الذين أثروا في حياته، وهو مدرك كل الإدراك لخصوصية ما يكتبه في تلك السيرة إذ يقول:

إن ما أكتبه هنا شخصي بحت، وطفولي بحت، ومقتربي يتركز على الذات إذ يتزايد انتباهها ويتصاعد إدراكها، ويعمق حسها، ولا تنتهي بالضرورة حيرتها. ولئلا أنزلق إلى التاريخ العائلي بتفرعاته (وفي ذلك ما فيه من إغراء) آثرت الاستمرار باستقصاء كينونةٍ واحدة تتنامى مع الأيام وعيًا ومعرفة وعاطفة، تحيا براءتها، وتتشبث بها، والبراءة تزايلها، وهي طبعًا جزء من محيطها: إنها بعض تلك البيوت والأشجار والوديان والتلال، وبعض الشموس والأمطار والوجوه والأصوات، التي بها تحيا وبها تكتشف القيم والأخلاق، وتكتشف الجمال والقبح البؤس جميعًا.

البئر الأولى: سنوات التكوين

في «البئر الأولى» يعرض جبرا سنوات تكوينه الطفولية، التي ربما تتبدى للكثيرين سنوات عادية أو عابرة، ولكنها كانت عند «جبرا» من الأهمية والتأثير حتى دفعته أن يكتب عنها بذلك القدر. في سيرته تلك نجد وعيًا جماليًا مكتملاً بالمكان بداية ودوره وتأثيره، فتحدث عن البيت الذي نشأ فيه، ثم دور المدرسة في حياته، وهو إذ يحكي حكايات الطفولة تلك يربط بين المواقف الطريفة وبين ما ترسب لدى وعيه ككاتب وأديب بعد ذلك، مما يعكس صورة حية عن واقعه الذي كان وكيف ساهم في تشكيله.

فيتحدث عن رهبان الدير الذي كانوا يتعلمون فيه صغارًا، وكيف كانوا مولعين بالفنون وخاصة الموسيقى والتمثيل المسرحي، وكيف كانوا ينشئون التلاميذ على محبة الفنون رغم غرابتها في مجتمع «بيت لحم» في ذلك الوقت، وكيف كانوا يختارون الأصوات الجميلة للكورس الكنسي ويعدون فرقًا موسيقية تجمع في عزفها بين الآلات النحاسية والوترية.. وغير ذلك.

ربما يعد هذا الكتاب بشكل خاص جزءًا هامًا من تأريخ «جبرا» لحياته كما كان في فلسطين، ربما لأن الكثيرين تعرفوا عليه وعرفوه ككاتبٍ ومثقف عراقي، فيما هو يؤكد في هذا الكتاب وفي غيره على خصوصية هويته الفلسطينية واتساع دائرة معرفته وثقافته العربية بعد ذلك.


سنوات التيه والبحث عن الهوية

استطاع جبرا أن يعبّر عن أزمة المثقف العربي بقدرٍ كبير من الوضوح والشفافية، تلك الأزمة التي تبدو أساسًا راسخًا عند كل الروائيين العرب خاصة هؤلاء الذين عاشوا تلك الفترة التاريخية التي أعقبت نكبة فلسطين 1948 وما أعقبها من شعورٍ متنامٍ بانكسار الأحلام العربية، وفرض كل الديكتاتوريات العربية نفسها وإذلالها لشعوبها، لا سيما أن «جبرا» قد عاش بعد فترة النكبة تلك تحت وطأة أكثر الأنظمة العربية قمعًا وديكتاتورية، حيث انتقل إلى «العراق» في عهد «نوري السعيد»، استمر بقاؤه هناك حتى عاش أيام «صدام حسين»، لكن كل ذلك لم يفتّ من عضده، ولم يجعله يتراجع عن حلمه بتكوين وإعداد واحدة من أهم الجمعيات الأدبية في العراق آنذاك.

نجد آثار ذلك كله وانعكاساته الواضحة في عدد من رواياته الهامة التي تأتي على قمتها رواية «البحث عن وليد مسعود»، التي يعدها الكثيرون واحدة من أهم الروايات العربية، وفيها نجد «جواد حسني» يبحث عن صديقه المناضل الفلسطيني «وليد مسعود» الذي اختفى في ظروف غامضة، وذلك من خلال شهادات ومعلومات يجمعها من أصدقائه المقربين، حتى نصل من خلالهم إلى معرفة هذه الشخصية التي تبدو نموذجية رغم ما يحيط بها من تناقضات وغموض وما يحيط بها من أسرار، إلا أنه يبقى نموذج المثقف المناضل في هذا الزمن العجيب.

أما تجربته الروائية الأبرز والأكثر انتشارًا فقد كانت رواية «عالم بلا خرائط» التي كتبها مع الروائي العربي «عبد الرحمن منيف»، ودارت في مدينة «عمورية» التي تشبه عددًا من المدن العربية وتبدو ترميزًا ذكيًا ودالاً لكل ما يدور في تلك المدن من علاقات وصراعات بين المثقفين ورجال الحكم والسياسة، حيث نجد الأستاذ الجامعي والروائي «علاء الدين نجيب» المثقف المهموم بإبداعه والذي يشعر بهزيمة كبرى عاطفيًا ثم سياسيًا، ويعبّر عنه «جبرا» وصديقه «منيف» على نحو متماثل خير تعبير، يجعله معبرًا عن المثقف العربي في كل زمان ومكان.


جبرا .. في عيون الأدباء والنقاد

لا يزال اسم «جبرا إبراهيم جبرا» وذكراه تحمل خصوصيةً عند عدد من الأدباء والنقاد الذين تعرفوا على مشروعه عن قرب، وتعلموا منه الكثير، واستطاعوا أن يقدموا للأجيال الجديدة أجزاءً من تاريخه وسيرته اعتمادًا على كتاباته التي لا تزال تتردد بين أيادي القراء حتى اليوم.

كتب عنه الناقد الكبير «فيصل درّاج» في جريدة الحياة اللندنية يقول:

لا يُقرأ جبرا، الذي كان يهجس في سرّه بـ «الإنسان الكامل»، روائيًا فحسب، أو شاعرًا، ناقدًا، أو رسامًا مترجمًا، بل يقرأ في العلاقات المتبادلة بين ممارساته الأدبية
الفنية المتنوعة، التي عبّرت عن «فائض الموهبة»، أو عن نزوعه إلى «مثال ما»، تتكامل فيه صورة المسيح وبيئة القدس وأصداء الصلوات وأنوار الكنائس. فمن الخفة قراءة رواياته بمنأى عن «الشعر»، ومن العبث إغفال الموسيقى التي أدرجها في بنية «السفينة»، والشعر الذي بثه في رواية «البحث عن وليد مسعود». إعاقتان استقرتا في فكر جبرا وأحاسيسه: لجوء الفلسطيني إلى المنفى، الذي رمى عليه بالتهديد والمهانة والنقص، وأعلن عنه بصوت يقترب من الصراخ في نهاية روايته «صيادون في شارع ضيق». وإيمانيته المفردة التي كانت تجذبه إلى «نور مشتهى» وتصده عن السواد وأحادية الألوان.

ولعل أفضل ما يمكن أن يقدمه معاصرو «جبرا» في ذلك الوقت هو عرض كيف تكون حياته وكيف كان يواجه ويقاوم الظلم والقهر بكل ما يستطيع، ولعل ذلك ما يجعله بالفعل في مصاف كبار المثقفين، من ذلك ما كتبه عنه جهاد فاضل في جريدة القبس الكويتية، يقول:

استعان جبرا على عصور الظلم والظلام في العراق بأدوية ومسكنات كثيرة منها الموسيقى الغربية، كان يعيش في منزله الذي بناه في محلة المنصور في بغداد، كما لو أنه مثقف إنكليزي يعيش في منزل في لندن، أو كما لو أنه منشق روسي يعيش في الاتحاد السوفييتي، صحيح أنه كان مضطرًا «لسماع الكلمة» من المسؤولين العراقيين، وتلبية الكثير من الطلبات والأوامر التي كان يُؤمَر بها، إلا أنه كان يشعر أن كل ذلك يدخل في باب القضاء والقدر، وأنه لا يملك أن يقول لا، وإلا.. ولأنه كان يعرف كل ذلك، ويدرك أن الزمن قد فات للهجرة من العراق، فقد أقام في منزله نوعًا من حياة خاصة منعزلة تمامًا عما يدور خارجه.

وكعادة الكبار لا يمكننا الإلمام بكل كتاباتهم ونواحي إبداعهم، لا سيما إذا كانوا على هذا القدر الكبير من التنوع والثراء، بقي فقط أن نشير إجمالاً إلى أن لـ «جبرا» في المكتبة العربية سبع روايات، وثلاثة دواوين شعرية، وكتابين في النقد والدراسات الأدبية، وعشرة أعمال مترجمة عن شكسبير وأوسكار وايلد وفوكنر وغيرهم. توفي جبرا بعد حياة حافلة بالعطاء والإبداع في العراق أواخر عام 1994 .

وهكذا يبقى «جبرا إبراهيم جبرا» شخصية ثقافية كبيرة متعددة المواهب، ولا يزال حتى يومنا هذا أحد أعلام الثقافة العربية الكبار. استطاع أن يجمع في إبداعه بين الرواية والنقد والشعر والترجمة، وأن يقدم نموذجًا شديد الخصوصية والثراء للمثقف العربي في وقت كان من السهل أن ينعزل فيه الكاتب والأديب عن مجتمعه ويفرغ نفسه للكتابة والإبداع فقط.