قبل ثماني سنواتٍ من الآن كانت فكرة وصول اليمين المتطرف إلى السلطة أمرًا مستبعدًا تمامًا في ظل وجود حكومات ليبرالية مستقرة، لكن في فترة زمنية قصيرة استطاع اليمين المتطرف أن ينتقل من هامش المشهد السياسي، لا إلى قلبه فحسب، بل إلى قلب مراكز القوى واعتلاء عروش كبرى الدول في العالم. هذا الصعود فسَّره الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بأن نقد العولمة جاء أولًا من جهة اليسار ثم جاء بصورةٍ أقوى من جهة اليمين المتطرف. اليمين الذي استطاع أن يستغل مخاوف عامة الناس على وظائفهم وأسرهم وحياتهم الضيقة من عولمة الكون.

لم يكن الأمر مجرد استغلالٍ لمخاوف الناس فحسب، حتى استطاع اليمين أن يُسلط ضوءًا قويًّا على تناقض اليسار الليبرالي. كما فعلت اليمينية الفرنسية ماري لو بان، المرشحة الخاسرة في الانتخابات الفرنسية، بالإشارة إلى «الديكتاتورية الأوروبية» في تجاهل نتائج الاستفتاء اليوناني الذي رفض برنامج التفشف الأوروبي. أضف إلى ذلك الأزمات المالية العالمية التي عصفت بأوروبا والولايات المتحدة في ظل حكم الأحزاب الليبرالية. لذا ارتفع صوت اليمين المعارض لاتفاقيات الأسواق الحرة، التي يرونها سببًا لهذه الأزمات المتتابعة. ومع وجود الأزمة المالية لم يستطع اليسار أن يدافع عن أهمية الأسواق الحرة.

وضع اليمين هذه المخاوف جميعًا في غلافٍ قومي يناهض المهاجرين ويعد أبناء البلد بأنه سيكون خالصًا لهم. ليتكون بذلك برنامج خيالي لا يجد الناخب أمامه بدًا سوى التصويت له، والنتيجة ميلاد حكومات يمينية متطرفة في دول العالم الأول، على رأسها حكومة ترامب الحالية في الولايات المتحدة.

إذا كان ترامب يمينيًّا تقليديًّا يسعى للحفاظ على التقاليد والأعراف الأمريكية داخل دولته، فإن من يُقربهم ترامب إليه يمينيون متطرفون، يريدون نفس ما يريده ترامب، لكنهم يزيدون عليه في الاعتقاد بضرورة استخدام العنف والتدخل القسري للحفاظ على هذه التقاليد وحماية المجتمع من العالم الخارجي.

اقرأ أيضًا: ترامب يخطط للحرب العالمية: 3 تغييرات تشرح لك


بولتون يُلخص كل شيء

لفهم العقلية التي تحكم البيت الأبيض حاليًا ندخل مع بوب وودوارد مؤلف كتاب «الخوف» إلى مكتب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثناء اجتماعه مع ليندسي جراهام، سيناتور جمهوري في الكونجرس لمدة 15 عامًا.

ترامب يطلب المشورة بخصوص التعامل مع كوريا الشمالية، فيجيبه جراهام بأن الحل في ترك الشمالية تطور أسلحتها النووية لكي يكون للولايات المتحدة حجة حقيقية في ضربها عسكريًّا. اعترض جون ماكين، السيناتور الراحل، قائلًا إن الشمالية لن تتورع عن قتل مليوني مواطن من جارتها الجنوبية إذا امتلكت أسلحة متطورة بهذا الشكل. فيرد جراهام متسائلًا عن المشكلة في قتل مليوني كوري جنوبي، طالما هم ليسوا أمريكيين فلماذا تقلق الولايات المتحدة!

لقي الرد ترحيبًا من ترامب الذي يعتقد نفس ما يعتقده جون بولتون، مستشاره للأمن القومي، ومعهما مايك بومبيو، وزير الخارجية، بأن أفضل وسيلة لإظهار القوة الأمريكية هي ممارستها بشكل عملي. حبذا لو كانت تلك الممارسة عسكريةً دون ترهات الدبلوماسية السياسية، هكذا يؤمن بولتون. شخصية بولتون تمنحنا مدخلًا ممتازًا لفهم ما يدور في ذهن ترامب وبومبيو، لكن بينما يقدران هما على التحكم قليلًا في إظهاره، لا يكترث بولتون بتشذيب ما يقوله. إيمانُ اليمين الحاكم بالعسكرية يقتضي الكفر بالمؤسسات السياسية، وهو ما يبدو جليًا في احتقار بولتون لكل المنظمات الدولية. تحت حكم الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش صرَّح بولتون بأنه لن يكون اختلاف إذا اختفت 10 طوابق من مبنى الأمم المتحدة المؤلف من 83 طابقًا، مشيرًا إلى عدم جدواها.

عشر سنواتٍ مرت على هذا التصريح، لكن الأمم المتحدة لا تنساه، فدائمًا ما يعرب أعضاؤها عن قلقهم من ترقي بولتون في الفريق الرئاسي للرئيس الحالي دونالد ترامب. كما يبدو أن بولتون لا يزال يحمل في صدره ضغينةً قويةً للأمم المتحدة كما يُوضح ذلك بأريحية شديدة على صفحات المجلات الأمريكية كصحيفة وول ستريت جورنال. مجلس الأمن الدولي هو الآخر لم يسلم من بولتون، فالرجل يرى أن كل المقاعد الدائمة في مجلس الأمن يجب أن تتقلص إلى مقعدٍ واحدٍ فقط تحوزه الولايات المتحدة.

بولتون كما يتضح من تتبع محاضراته ومقالاته لا يميل للحوار السياسي أو المؤامرات السرية. قوةٌ عسكريةٌ تُطيح بالنظام المغضوب عليه أمريكيًّا وانتهى الأمر. سواء كانت تلك القوة هي الجيش الأمريكي أو قوة داخلية في الدولة المستهدفة تُدبر انقلابًا عسكريًّا أو دستوريًّا، كما حدث في فنزويلا، إلا أن الساخر في مسيرة بولتون أنه يدعو إلى الحرب فإذا قامت فرَّ منها. بولتون استخدم نفوذ عائلته الجمهورية لتفادي إرساله للقتال مع جيش بلاده في فيتنام.

أقرَّ بولتون تلك الحقيقة في كتاب صدر احتفالًا بالذكرى الخامسة والعشرين لتخرج دفعته من جامعة «يال»، لكنَّه بتناقض غريب استطاع أن يُلقي باللوم على الديمقراطيين الذين رفضوا الحرب، قائلًا: «إنهم أقنعونا باستحالة الانتصار فلم يكن هناك داعٍ إذن ليذهب بولتون».

اقرأ أيضًا: كتاب «الخوف»: مسمار آخر في نعش ترامب


حارب دائمًا، لا تفاوض أبدًا

نظرية بولتون العسكرية تتجلى بوضوحٍ إذا ما تطرق الحديث إلى كوريا الشمالية. لم يتغير رأيه منذ التسعينيات بأن القوة العسكرية هي الحل، لكن ما اختلف هو ماهية القوة العسكرية. حاليًا يرى بولتون أن تغزو كوريا الجنوبية جارتها الشمالية بدعم صيني، لكنه في البداية قال بأن الولايات المتحدة هي من يجب عليها غزو كوريا الشمالية.

ارتفع صوته بهذا المطلب اعتراضًا على اتفاق «يونج بيون»، الاتفاق الذي وُقع بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية بعد تهديد الأخيرة بالانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، لكنها استجابت في النهاية لضغط الأمم المتحدة، فوقعت اتفاقًا لتجميد إنتاج الوقود النووي في مفاعل «يونج بيون» مقابل حصولها على النفط.

لم يفوت هذه الفرصة أيضًا دون توجيه الإهانة للأمم المتحدة قائلًا بأنها وهم لا وجود له، إنما هنالك مجتمع دولي فقط. هذا المجتمع يجب على الولايات المتحدة أن تقوده باعتبارها القوة الحقيقية الوحيدة المتبقية، وعلى المجتمع الدولي أن ينصاع لهذه القوة.

انتصر بولتون على الأمم المتحدة وكوريا الشمالية، وتم إلغاء المعاهدة فعلًا. حينها صار بولتون مُرشح جورج بوش لمنصب وكيل وزارة الخارجية لشئون الأمن الدولي. إعصارٌ ضرب الكونجرس الأمريكي اعتراضًا على هذا الترشيح واستنكارًا لتولية صقر يميني متطرف هذا المنصب الخطير، لكن انتصر بوش الابن وبولتون مرةً أخرى وحصدا تأييد الكونجرس للقرار.

بعد عامين من تولية بولتون هذا المنصب غزت الولايات المتحدة العراق. جاء الغزو بعد أن رسَّخ بولتون كلمته الشهيرة «دول محور الشر» في أذهان العالم. فالعراق، إيران، سوريا، كوبا، ليبيا، وكوريا الشمالية، جميعها دول لا حل لها سوى الغزو. السبب في رأي بولتون أنها دول لن تتورع عن امتلاك سلاح بيولوجي مدمر قد تقتل به البشرية جميعًا. بولتون نفسه الذي رفض أن تُوقع الولايات المتحدة في عهد بوش على اتفاقية الحد من انتشار السلاح البيولوجي.


بومبيو يوافق بولتون

وجود بولتون يُخيف ليس لمجرد آرائه المتطرفة، لكن لأنه لا يتورع عن استخدام أي حيلة تدفع رؤوساءه لتبني وجهة نظره. بولتون حجب كثيرًا من المعلومات الحساسة عن كولين باول، وزير الخارجية آنذاك ورئيس بولتون المباشر. كان بولتون ينتقي المعلومات التي يمررها لباول من أجل دفعه لتبني نفس المواقف التي يدعمها بولتون. عادى بولتون كل الأصوات الهادئة في الإدراة الأمريكية، حتى الاستخبارات الأمريكية التي وصفته بأن يحاول جاهدًا تقويض محاولاتها من أجل إبقاء الأوضاع مستقرة وتحت السيطرة في الدول التي يراها بولتون محورًا للشر.

هو لا يريد مهادنةً مع النظام الإيراني، ويرى الاتفاق النووي عارًا يجب التخلص منه في أسرع وقت، وقد نجح بعد تولية ترامب له في دفع الاتجاه الرئاسي للإلغاء. بولتون لا يرى حليفًا سوى «مجاهدي خلق»، وأنهم الرهان الأمريكي الوحيد الرابح لقلب نظام الحكم الحالي. كما لا يتخيل فكرة حل دولتين متجاورتين للقضية الفلسطينية. أما كوريا الشمالية فالحوار معها هدرٌ للوقت. وروسيا تسعى لتفكيك الدستور الأمريكي والنيل من عظمة الولايات المتحدة، والرد الأمريكي المناسب على بوتين هو حرب أمريكية حقيقية تنسف روسيا.

بومبيو لا يختلف كثيرًا عن بولتون، فهو الآخر عنصري متطرف، يؤمن بنفسه ويكفر بأي شيء سوى نفسه. استطاع أن يُشذب مخالب وكالة الاستخبارات المركزية ويمنعها من إزعاج ترامب بخصوص التدخل الروسي، فحاز على ثقة ترامب المطلقة. بومبيو صديق حميم لإسرائيل، ورحبت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية للغاية بتوليه.ناقمٌ بشدة على الاتفاق النووي الإيراني. صرَّح بأن 2000 طلعة جوية يمكنها تدمير القوة النووية الإيرانية بالكامل، وتلك مهمة بسيطة للقوات الأمريكية، فلماذا الإزعاج بالحوار مع إيران. يتفق مع بولتون في كراهية روسيا، ويراها تهديدًا لسيادة الولايات المتحدة. بومبيو ذهب بعيدًا فدعا إلى تسجيل المكالمات الصوتية للمواطنين. عارض إغلاق معتقل جوانتانامو.


صراع كهنة البيت الأبيض

التصادم المتوقع لن يكون بين ترامب وأي من الرجلين، بل بين الرجلين. أولًا لأن ترامب لا يتصادم، إنما يصدر قرار الإقالة في تغريدة صباحية دون الاكتراث برد الفعل أو بسرد الأسباب. ربما سيكون السبب حينها أن ترامب يريد خوض حملته الانتخابية في 2020 خفيفًا من المشاكل التي يثيرها وجود بولتون. لكن التصادم الحقيقي سيكون بين بومبيو وبولتون. أولًا لأن ترامب يحب بومبيو أكثر من صاحب الشارب الكث. ثانيًا، لأن بومبيو يمثل العصا السحرية لحل مشاكل ترامب.

فالصراع الدامي بين الاستخبارات المركزية وترامب لم ينتهِ إلا حين عين ترامب بومبيو على رأسها. فإذا أراد ترامب التخلي عن أحدهما فالاختيار واضح، ما لم ينجح بولتون في إطاحة بومبيو أولًا. خاصة أن بولتون بحاجة لخروج بومبيو من المشهد كي يتمكن من دفع ترامب لحروبٍ عدة ليُقدم بذلك إثباتًا عمليًّا على نظريته العسكرية في التعامل.

الصراع المرتقب بين الرجلين لم يعد سرًّا أو تكنهًا، بل المرتقب هو موعد ظهوره للعامة.بوادره بدأت حين منع بومبيو بولتون من التواجد في الاجتماع مع سفير كيم جونغ، معللًا بأن وجود بولتون سيؤدي إلى نتائج عسكية سيئة. الرجلان جعلا الصراع متجاوزًا لشخصيهما، وحوَّلاه صراع بقاء وسيطرة على السياسة الخارجية بين مجلس الأمن القومي يمثلها بولتون ووزارة الخارجية يمثلها بومبيو.


وأخيرًا إذا خرجنا خارج أسوار البيت الأبيض إلى حدود أوروبا والولايات المتحدة فيجب على الليبراليين أو اليساريين أو التقدميين، غير اليمينيين أيًّا كان اسمهم، أن يستعدوا لمواجهة المد اليميني. البداية يجب أن تكون مواجهةً مع النفس واعترافًا بأن اليمين إذا لم يكن في السلطة حاليًا فهو على أعتابها في أول انتخابات قادمة. ثانيًا على اليسار أن يدرك أن حقوق الإنسان والمساواة بين الأفراد لم تعد مقصورةً في المعني القديم التقليدي لها بعدم التمييز بين الأبيض والأسود، بل تتجاوزه إلى تحقيق المساواة الاقتصادية والاجتماعية. لن يتم ذلك إلا عبر عمليات صارمة لإعادة توزيع الدخل، جنبًا إلى جنب مع مناصرة حقوق الأقليات والمهاجرين.

اقرأ أيضًا: هل يسيطر اليمين المتطرف على أوروبا من جديد؟