لم ينتهِ العام بعد، ولايزال أثر وكلمات رواية «كل هذا الهراء» لعز الدين شكري الصادرة مطلع هذا العام ماثلاً أمام الكثيرين، بل يتداول كثير من القرّاء بعض مقاطعها وحواراتها الدالة على ما وصلنا إليه، إلا أنه يبدو أن الحكايات لا تنتهي، ولكلٍ وجهة هو موليها، هذه المرة ينطلق الكاتب الصحفي «أحمد سمير» إلى وجهة أخرى، ويعمد في روايته الأولى «قريبًا من البهجة» الصادرة مؤخرًا عن «دار الشروق» إلى سرد تفاصيل شخصياتٍ مختلفة، يسعى من خلالهم لرصد الواقع المصري الراهن.

حسنًا فعل «أحمد سمير» حينما لم يبدأ روايته بالعبارة /الأكلاشيه الذي اعتاد الروائيون على وضعها في مقدمة أعمالهم هربًا من الاتهام بالحديث عن شخصيات ومواقف حقيقية «شخصيات هذه الرواية من خيال المؤلف وأي تشابه مع الواقع من محض الصدفة»، إذ إن شخصيات روايته على اختلافها وثرائها وتباينها شخصيات واقعية عرفنا أكثرهم وسمعنا عن بعضهم الآخر، ربما تختلف الأسماء والصفات ولكن تبقى المواقف والأفعال والأحداث كلها معروفة وواحدة.

اقرأ أيضًا: كل هذا الهراء ..عن حكايات اليأس والهزيمة


يسمّي «سمير» روايته «قريبًا من البهجة» رغم أن كل شخصياته بلا استثناء من أقصى اليمين إلى اليسار ومن البلطجي الجاهل حتى الإعلامي المثقف ومن الكبير للصغير، كلهم شخصياتٌ ملأها اليأس وغرقوا في النهاية في الهزيمة، لم يبق أثر لحلمٍ أو أملٍ أو بهجة إلا ربما في طيفٍ عابر .. ربما يدركه أحدهم ويستعيده للحظات ثم يغيب!

ربما يستكثر القارئ لأوّل وهلة، ومن إطلالته الأولى على فهرس الشخصيات في بداية الرواية، هذا العدد الكبير من الشخصيات في روايةٍ واحدة، ولكنه سيفاجأ بمجرد انتهائه من القراءة وتعرّفه على هذه الشخصيات في لقطاتٍ ذكيّة وموجزة أن بإمكانه أن يقرأ أكثر ويتعرّف على المزيد، أو ربما يمنحه ذلك التنوع فرصةً للتذكّر، وإضافة الشخصيات «الناقصة» التي لم ترد في عالم الرواية.

إطلالة روائية بانورامية حقيقية على نفسية وتقلبات وحياة أكثر من 30 شخصية مصريّة في العشرين عامًا الأخيرة، من خلال رصد محطّات حياتيّة مهمّة مر بها الجميع فأثّرت عليهم سلبًا أو إيجابًا.. قضت عليهم أو قضوا عليها.. أحلامٌ وآمال بُنيت سرعان ما تحطمت وانهارت، عالمٌ كامل يتخلّق ثم إذا به في لحظاتٍ ينتهي وينهار، لذا كان جديرًا بالإهداء أن يكون «إلى الله».

ندخل الرواية مع البطل/الراوي الصحفي «وائل منصور» وأسرته الصغيرة والكبيرة، ومعارفه وأصدقائه وزملاء عمله، لنتعرّف على صورةٍ مغايرة لمصر التي عرفناها من قبل في رواياتٍ كثيرة سابقة، هنا تحضر أحلام الثورة مع شبابٍ صحفيين من كل التيارات، ونشاهد تحوّلات الناس مع التغيرات السياسيّة التي عصفت بالجميع:

ميدان التحرير مملكتها، تمشي منتصبةً، ولأوّل مرة تشعر أنها ليست طريدة، تعرّفني على أصدقائها المتناثرين في الخيام كأنما تستعرض جيشها، تشرح ما أرى من لافتات ومنصّات كأنّها مرشدتي، وحين افترقنا رأيتها تجري في الميدان بسعادة باتجاه خيمتها. بعدها بدت خائفةً أن تُضيّع الأحداث الطائفيّة ما حصدته بتنحي مبارك، أقنعها رفيق بانتخاب «عبد المنعم أبو الفتوح» للرئاسة باعتباره مرشحًا توافقيًا، لتفويت الفرصة على الانقسام بين معسكر مدني وآخر إسلامي.. انضمت كارولين لحملة عضو مكتب الإرشاد الأسبق، لكن رفيق نفسه انسحب من حملة أبو الفتوح وانضم لحملة مرسي، وبدورها انسحبت حين ضم أبو الفتوح لحملته حزب النور السلفي.

يقلّب أحمد سمير في روايته ذكريات الثورة واحدةً تلو الأخرى، ومواقف الناس منها، كل حسب توجهه وانتمائه، حتى لنجد أنفسنا نردد مقولة المتنبي:

رماني الدهر بالأرزاء حتى .. فؤادي في غشاءٍ من نبال فصرت إذا أصابتني سهامٌ .. تكسّرت النصال على النصال

يمكننا أن نقول على طريقة أحمد سمير «رمتنا الثورة بالأرزاء حتى .. تكسّرت النصال على النصال»، هذا ما يمكن أن يصف حالنا الآن، وهو ما لا يختلف كثيرًا عن حال أبطال الرواية، إن جاز لنا أن نسميهم أبطالاً! بينما هم في الواقع مجرد شخصيات «مسّهم الحلم مرّة» فساروا وراءه مسرعين، حتى تعثروا فلما أفاقوا وجدوه سرابًا!

وهكذا، يحكي «سمير» حكايات الإسلاميين على اختلاف توجهاتهم، والثوريين، والبلطجية، جنبًا إلى جنب مع المسيحيين والمثليين، وكل من حلم يومًا بحريةٍ وعدلٍ ومساواة داخل مصر، حتى حينما هرب خارجها لم يجد شيئًا!

تصورته سيندمج سريعًا مع مجتمعٍ يشبهه، لكنه قال لي إنه عرف وهو تعيسٌ هناك أنّه كان مسرورًا هنا، قال إنه اقتلع نفسه ليهيم في فراغٍ بدون كل من عرفهم في حياته.. قال إنه يتمنى الشعور بشيءٍ حقيقي ولا حقيقة إلا في كل ما به رائحة بلدنا. حكى لي عن العنصريّة التي لاقاها لكونه عربيًا، وعن العجوز التي بصقت على الأرض حين رأته لأنه “مسلم حقير”، وعن قسوة أن يخطر ببالك دعابة ولا تقولها لأن من بجوارك لن يفهمها، وعن برودة أن تعلم أنك ستشرح له النكتة وسيبتسم على الفكرة، لكنه لن يضحك أبدًا. قال مجدي إن اسمه الذي كان معتادًا عليه يسمعه بالألمانية وكأنه تعويذة، ولونه القمحي الذي كان شائعًا يراه في عيونهم عجيبًا، وعاداته التي لم يكن ينتبه إليها أساسًا أصبحت مثار تساؤل!

من دنيا الصحافة إلى عالم الأدب

والذين يعرفون أحمد سمير صحفيًا لن يكون جديدًا عليهم ما قدّمه في هذه الرواية من ناحية الأفكار أو الرؤى، فهم لا شك يعرفون فيه أسلوبه الأدبي الخاص الذي كان يكتب به مقالاته الأسبوعية، لا سيما وأنه كان يجمع في كثيرٍ منها بين رأيه وبين مشاهداته وحكاياته الخاصة، فنجد من مقالاته حكايات خالصة، ربما كانت الشرارة الأولى أو البذور التي مهدت لبناء هذه الرواية.

فهنا يحكي «حكاية من لم يقتل في موقعة الجمل»، وهنا يحكي عن «يناير 2011 .. كيف بدأ الدم» ومن المقالات التي لا تُنسى له أيضًا، حينما هدد المرشد العام للإخوان المسلمين في عز قوتهم وتجبرهم، فكتب ««محمد بديع سنسجنك هذا ليس تهديدًا.. هذا وعد»، إلا أنّ «سمير» يبدو واعيًا تمامًا بمساحة الفارق بين الكتابة الصحفية المجرّدة وبين الكتابة السردية وخصائصها وضوابطها.

لذا فهو يلتزم بذلك البناء الخاص، ويقدّم شخصياته بفتراتٍ زمنيّة متقطعة، ويعرفنا عليهم بشكلٍ متسلسل، حتى تكتمل الرؤية وتتم الصورة، يمايز «سمير» بين السرد بالفصحى المتقنة والحوار الذي يحرص على أن يكون بالعامية دائمًا، ينتقل بين شخصيات روايته بسلاسة، ويتقن تمثّل كل شخصية منهم بكل بساطة.

لذا فليس غريبًا أن نجد «الإخواني» المتشدد «محمود شعلان» مع البطلجي الوصولي «صبحي وزّة»، والأم المغلوبة على أمرها التي تود أن يتحسن حال البلاد ولكنها تخاف على أبنائها، مع الفتاة المتمردة التي تود أن تفرض رأيها ووجودها رغم كل المعوقات، كل هؤلاء يمثلون صورة يمكن اعتبارها «بالألوان الطبيعية» للمجتمع المصري، وما جرى عليه في تلك السنوات الأخيرة.

هكذا تضع هذه الرواية «أحمد سمير» في مصاف الروائيين بعد أن عرفه الناس صحفيًا محترفًا، ولا شك أننا سننتظر منه أعمالاً روائية أخرى بعيدًا عن السياسة وهمومها، أكثر التصاقًا بالناس والمجتمع.