تبقى الكتابة التاريخية عزيزة ونادرة، ولعلها من الكتابات التي لا يُقبل عليها القراء ويستثقلون التقليب فيها ومتابعتها. ويبقى الإقبال على قراءة الكتب التاريخية البحتة صعبًا، لا سيما بالنسبة لجمهورٍ اعتاد على تلقي المعلومة من خلال فيلم سينما أو مسلسل درامي، ولعله من حسن الحظ أن وجدنا نوعًا آخر من الكتابة الجادة استطاع أن يجذب القارئ بذكاء لعالمه فقدّم له المعلومة التاريخية الموثّقة مشفوعة بالقصص والحكايات المفارِقة والطريفة.

ذلك هو ما وجدنا في كتابة «محمد توفيق» السابقة، سواءٌ التي تناول فيها عددًا من الكتّاب المهميّن في كتابه «أولياء الكتابة الصالحون»، أو «صنّاع البهجة»، أو كتبه التي خصصها لسيرة أحد الكتّاب بشكلٍ خاص كما فعل في «الخال»، و«ضحكة مصر» وغيرها من الكتب.

اقرأ أيضا:«محمد توفيق»: استعادة أمجاد الصحافة الأدبية

من جهةٍ أخرى نعلم أنه كثيرًا ما استطاعت السلطات الحاكمة أن تفرض سيطرتها على شعوبها بشكلٍ أو بآخر سواء كان ذلك برضاها أو بخطابها الذي تبثه مباشرةً إليها، واعدة بوعود براقة تأخذ العقول وتستميل القلوب، وإما عن طريق سلطة أخرى تبدو طوال الوقت حيادية، بل يفترض بها أنها لسان حال الشعب والمعبّر الرسمي الوحيد لأحلامه وآلامه.

ولذلك طالما كانت العلاقة بين «السلطة» و«الصحافة» علاقة شائكة حذرة، تشوبها الكثير من الصراعات والمشكلات في كثيرٍ من الأوقات، وتشوبها محاولات الاستحواذ والتملك من جانب السلطة في أوقاتٍ أخرى، وقهر وقمع كل الأصوات التي تبدر منها بوادر معارضة قوية أو تكون لسان حال الشعب بصدق وقوة.

في كتابه الجديد الصادرة مؤخرًا عن دار دلتا للنشر «الملك والكتابة .. قصة الصحافة والسلطة في مصر»، يرصد «محمد توفيق» خمسين عامًا من الصراعات والمواقف التي نشأت بين الصحافة وأجهزة الحكم المتتابعة في مصر، بأسلوبه الأدبي الرشيق، ومن خلال حكاية كل عام على حدة، منذ قبيل ثورة يوليو/تموز 1952 وحتى أواخر التسعينات 1999.


بين الصحافة والتاريخ

بين توثيق «قصة الصحافة» وعرض صفحاتٍ مختلفة وفارقة من تاريخ مصر في العصر الحديث يدور هذا الكتاب، ذلك أن:

يسعى «توفيق» جاهدًا إلى تلخيص التاريخ المصري وإيجازه من خلال لقطاتٍ دالة ومواقف معبرة مرت بها علاقة الصحافة المصرية في مراحلها المختلفة بالسلطة، وليس أدل على ذلك الموقف وأهميته وخطورته من موقف سلطة يوليو «مجلس قيادة الثورة» من الصحافة في البداية واهتمامهم البالغ بها، وبأن تكون لسان حال الثورة ومحاولة استبعاد وقمع بل وإغلاق أي صحيفة أو جريدة يبدو منها أنها تعارض تلك السلطة الجديدة.

في اللحظة التي يصل فيها الحاكم إلى سدة السلطة يعرف مباشرة كيف يغازل الجماهير، وكيف ينشر خطابًا يحوز على رضاهم بشكلٍ مباشرٍ وفعلي، لذا لم يكن غريبًا أن تكون مانشيتات الصحف في أعقاب انقلاب يوليو/تموز 1952 على هذا النحو:

اللواء محمد نجيب يقود حركة عسكرية ناجحة. القائمون بالحركة يقبضون على الفريق محمد حسن بك ومن معه من كبار الضباط. الجيش يطالب بعودة الحياة النيابية السليمة وتطهير البلاد تطهيرًا كاملاً. الجيش يقرر عدم التدخل في السياسة بعد تأليف الوزارة.

استطاعت الصحافة أن تحول الانقلاب و«الحركة العسكرية» إلى «ثورة»، لا سيما بعد تزعم «جمال عبد الناصر» وإنشائه «مجلس قيادة الثورة»، ووضع «محمد نجيب» رئيسًا له حتى يستطيع أن يكسب تأييدًا شعبيًا أكبر.

أدرك ذلك المجلس منذ البداية أهمية أن تصدر «جريدة رسمية» معبرة عن الثورة، وأوكل «عبد الناصر» «للسادات» مهمة الإشراف على هذه الجريدة التي سموها «الجمهورية» تيمنًا بتحول مصر من الملكية إلى الجمهورية واختير رئيسًا لتحريرها الصحفي «حسين فهمي»، واستكتبت الجريدة في أعدادها الأولى كبار الكتاب والأدباء المصريين؛ طه حسين، ولويس عوض، ومحمد مندور، وخالد محمد خالد، وزكي طليمات وغيرهم، بالإضافة لعدد من ضباط الثورة، كما تم تدشين حملة دعائية ضخمة لها لدرجة أن «الطائرات» شاركت فيها، وكانت إعلاناتها تحمل صور الصحفيين وكبار الكتاب توزع على الناس في الميادين العامة.

وكما كانت الصحافة لسان حال السياسة ومواجهةً تسلطها في أوقات عديدة، إلا أنها عكست كذلك مواقف هامة وفارقة مع الأدب وتطوره وحركته في المجتمع، من ذلك يورد «توفيق» في عام 1955 خبرًا هامًا عن مقال «فتحي غانم» الذي يتحدث فيه عن ديوان «كلمة سلام» لشاعرٍ شاب اسمه «صلاح جاهين» وكيف رآه غانم منذ ذلك الوقت شاعرًا واعدًا، وقال عنه «اذكروا هذا الاسم جيدًا وارقبوه، فأنتم وحدكم القادرون على أن ترفعوه إلى أعلى قمم الفن، وأنتم القادرون على أن تهيلوا عليه تراب النسيان، إن أشعاره باللغة العامية التي يتكلم بها المثقفون من أبناء الشعب، فهي ارتقاءٌ باللغة العامية، أما موضوعاته فهي أحداث مصر في الفترة الأخيرة … »، وكانت المفاجأة التي لم يحسب لها «غانم» حسابًا أن وصلته رسالة من «جمال عبد الناصر» تحذره من الكتابة عن الشيوعيين!.

المفارقة أنه لم تمض أربع سنوات على هذه التوصية حتى كان «صلاح جاهين» في مكتب صديقة «أحمد بهاء الدين» في مجلة «صباح الخير» يوصيه بكتابة «الرباعيات» التي كان فيها انتقاد واضح ورمزي لجمال عبد الناصر وتسلطه، والتي ذاع صيت بهاء جاهين بسببها وأصبح شاعر العامية الأول.


معارك صحفية وفكريّة

قصة الصحافة ليست قصة مهنة، وإنما قصة بلدٍ بكل ما فيه، ومن فيه من مبدعين ومدّعين، ولصوص وشرفاء، أثرياء ومهمّشين، وأبطال وخونة، ومشهورين ومغمورين.. عبيد وأحرار، وانكسارات وانتصارات … وقد اخترت أن أكتب قصة كل عامٍ بصورة منفردة، ففي كل سنةٍ هناك مائة ألف قصة، ولكل قصة ألف شاهد ولكل شاهدٍ مائة رواية، ولكل روايةٍ عشرات المؤيدين، ولكل مؤيدٍ حجته وأسانيده ودوافعه وأسبابه، لكن حتى إذا عُرف السبب لن يبطل العجب!.

خمسة فصول بخمس مراحل مختلفة مرت بها الحياة السياسية والصحفية في مصر، شملت رؤية بانورامية لمصر في نصف قرنٍ من الزمان، نرى فيها بوضوح مواقف «عبد الناصر» ومحاولاته لتأميم الصحافة وجعلها اللسان الناطق باسم السلطة فقط بدعوى «قانون تنظيم الصحافة»، ثم المعارك الصحفية بعد وفاة عبد الناصر عام 1972 لا سيما تلك التي دارت بين «توفيق الحكيم»، و«نجيب محفوظ» من جهة، و«محمد عودة» و«محمد حسنين هيكل» من جهةٍ أخرى، في انتقاد نظام عبد الناصر وما كان فيه من قمع والكشف عن أخطائه.

حينها كتب «محفوظ» روايته الشهيرة «الكرنك» التي عرض فيها ما حدث داخل سجون «عبد الناصر»، وكيف كانت الإرادة السياسية في عهد السادات مرحبة بهذا النقد بشدة، ثم حرب أكتوبر/تشرين الأول، وكيف تناولتها الصحافة المصرية، وأحداث الانتفاضة الشعبية عام 1977 وكيف تم وصفها بانتفاضة «الحرامية» في الصحف التي التزمت بتوجيهات رئيس الجمهورية، وكيف خرجت جريدة واحدة فقط عن هذا الاتفاق هي «روز اليوسف» يوم كانت لسان حال الشعب وسمتها «انتفاضة الخبز» وكان يرأسها آنذاك الكاتب الكبير «صلاح حافظ»، وكيف دارت معركة صحفية حامية بينه وبين «موسى صبري» في الأخبار على خلفية تلك الأحداث.

لا يقتصر الكتاب على الأحداث والمواقف السياسية وانعكاساتها على دنيا الصحافة، بل لعل أهم ما يقدمه هو كواليس تلك الحكايات من الداخل، وكيف تؤثر وتتأثر بتلك الأحداث الكبرى التي يعرفها الجميع، لذا هو يروي مثلاً حكاية المسلسل الهام الذي كتبه «فتحي غانم» وذاع صيته به وهو «زينب والعرش» وكيف رأى الكثيرون فيه سيرة حياة «مصطفى أمين»، كما يحكي خلفيات إنشاء العديد من الصحف القومية والناطقة بلسان الأحزاب السياسية وأثر ذلك كله على الشارع المصري.

اقرأ أيضا:«فتحي غانم»: الروائي الثري متعدد الأوجه

كذلك من المواقف الطريفة التي ترد في الكتاب، حكاية يوردها «توفيق» عن «صالح مرسي» وكيف تحول من الكتابة الصحفية إلى الكتابة الأدبية الاحترافية عملاً بنصيحة «نجيب محفوظ» لمّا كتب قصة حياة «تحية كاريوكا» ونشرها في «مجلة الكواكب» بنفس الاسم، ونصحه «محفوظ» حينها أن يستخدم الحكاية الصحفية في الكتابة الأدبية الأشمل، مثلما فعل هو مع قصة «محمود سليمان» صاحب حكاية روايته الشهيرة «اللص والكلاب».

يحكي «توفيق» أيضًا عن معركةٍ فكرية هامة ربما لا يذكرها الناس اليوم، دارت رحاها عام 1983 بين «الشيخ الشعراوي» و«توفيق الحكيم»، حينما كتب الأخير سلسلة مقالات بعنوان «حديث مع الله»، واعتبرها «الشعراوي» تطاولاً على الإسلام وعلى الذات الإلهية، وتضامن مع «الحكيم» عدد من الأدباء والمفكرين المصريين منهم «يوسف إدريس»، و«زكي نجيب محمود»، وتبادل الطرفان الهجوم على صفحات الصحف المصرية بين «الأهرام» و«اللواء الإسلامي» و«الشعب».

بل إن المعركة وصلت إلى ساحات المحاكم حيث قام «توفيق الحكيم» بمقاضاة «الشيخ الشعراوي»، وقام الشعراوي بمقاضاة «أخبار اليوم» لنشرها خبر الدعوى التي أقامها «الحكيم» عليه، والمفاجأة أن تلك المعركة على حدتها لم تستمر أكثر من شهر، وكانت نهايتها «السعيدة» حينما مرض توفيق الحكيم وزاره الشعراوي في المستشفى وتصالحا!.

وهكذا يزخر الكتاب بحكايات طريفة، ومواقف عديدة دارت في بلاط صاحبة الجلالة وكانت مؤثرة وفارقة في حياة المصريين سياسيًا وثقافيًا، عرّفتهم بأشخاصٍ وكتابٍ مهمين مرموقين، فخلد ذكرهم وبقي حتى هذه اللحظة، وتوارى آخرون تملقوا السلطة في فترة من فتراتها، فأزاحهم الشعب وذهبوا إلى هاوية النسيان السحيقة. كما عكست تلك الحكايات بشكلٍ كبير حياة المصريين منذ أعوام ما قبل الثورة وما بعدها وحتى عصرنا الراهن، وكيف تعامل الناس مع السلطة ومع الصحافة وكيف أولوها اهتمامهم بشكلٍ أو بآخر.

ولأن الكاتب حريصٌ كل الحرص على توثيق مادته الصحفيّة التاريخية، فقد وضع في نهاية الكتاب ثبتًا هامًا بالمراجع التي عاد إليها في إصدار كتابه هذا والتي تجاوزت الخمسين كتابًا، بالإضافة إلى أرشيف جميع المجلات والصحف المصرية، مع عددٍ من المقابلات الصحفية الهامة التي أجراها بنفسه مع كبار أساتذة الصحافة من «أحمد رجب» عام 2010، وحتى «إبراهيم عيسى» عام 2017.

بقي أن نشير إلى أن هذا الكتاب هو الجزء الأول من ثلاثيةٍ يعتزم «محمد توفيق» كتابتها ونشرها على فترات متقاربة محاولاً أن يعكس من خلالها بشكلٍ كامل تعامل السلطة مع الصحافة في مصر، أنجز منها هذا الجزء ونحن في انتظار الجزء الثاني الذي من المتوقع أن يضم في طياته كيف كانت صورة ثورة 2011 في الصحافة، حتى يصل بنا بعد ذلك إلى العصر الحالي وما فيه.