هل تعلم عزيزي القارئ أن في نفس اليوم الذي توفي به «مايكل جاكسون»، أيضًا توفيت «فرح فاوست» ولم يلتفت لموتها أحد ولا اكترث بخبر وفاتها؟

مهلاً.. أنت لا تعلم منْ هي فرح فاوست؟

ذلك بالضبط ما قصده بطل فيلم Birdman، صاحب تلك الملحوظة، الذي لعب دوره الممثل الكبير «مايكل كيتون».

البطل في الفيلم (ريجان توماس) كان مهووسًا بأن يكون محاطًا دائمًا بالانتباه والشهرة وحوله دائرة الضوء، لدرجة أنه في أحد المشاهد يحكي لزوجته السابقة عن تلك الرحلة الجوية التي اكتشف بها أن جورج كلوني معه على متن نفس الطائرة، وفجأة اهتزت الطائرة وبدأت في الصعود والهبوط وعمّ الرعب والفزع الأجواء.

وبينما كان الركاب يصرخون ويبكون وتتداعى منهم الدعوات والصلوات، كان توماس يجلس وسط أجواء الفزع تلك وهو يفكر في شيء واحد فقط، وهو أن الطائرة لو سقطت الآن ومات كل الركاب، فإن الصفحة الأولى في كل جرائد الغد ستحمل صورة جورج كلوني لا صورته هو!

لهذه الدرجة مهووس بالشهرة ولفت الأنظار؟

ربما في الفيلم كان للشخصية دوافع أخرى، فشخصية ريجان توماس لم تكن شخصية مغمورة، بالعكس فقد كان ممثلًا مشهورًا، بطل أحد أفلام الأبطال الخارقين القديمة، خفت نجمه منذ عقود وبدأ الجمهور صاحب ذاكرة السمكة في نسيانه، ولذلك قرّر أن يعرّض كل شيء للخطر ويخاطر بإفلاسه وعلاقته بزوجته السابقة وابنته، من أجل أن ينتج مسرحية عظيمة تجعل الجمهور يتذكره للأبد.

قد يقول أحدهم: بالطبع تلك هي الطريقة التي يفكر بها الممثلون المهووسون بالشهرة ودائرة الانتباه دائمًا. لكن عزيزي القارئ، هل أنت متأكد أن الممثلين فقط هم الذين يفكرون بتلك الطريقة؟

تظن أنك ذو قيمة.. كم عدد متابعينك على تويتر؟

في نفس الفيلم، كان هناك مشهد شجار بين توماس وابنته العشرينية (سام)، ضاقت الابنة بما قال الأب، وقالت في لحظة غضب:

هل تظن أنك ما زلت مشهورًا والجميع يعرفك كما كنت منذ 20 عامًا؟ استيقظ وافتح عيونك للواقع، أنت لا أحد، حتى إنك لا تملك حسابًا على تويتر!

ومن هذه الجملة يمكننا أن نتوقف ونقارن بين مفهوم كون المرء «لا أحد» بالنسبة للأب وبالنسبة للابنة.

في نظر الأب، قيمة المرء ونظرته لنفسه متوقفة على إثباته أنه ممثل عظيم، وذلك الاثبات لا يتم دون أن يقوم بعمل مسرحية عظيمة تعيش في التاريخ أجلًا طويلًا بعد أن يموت. تلك هي وظيفته في الحياة وطريقته في إثبات ذاته، وبالتبعية تُقاس قيمته بما يحقق من إنجازات وأعمال عظيمة.

أمّا الابنة العشرينية، فمثلها مثل كثيرين، مقياس إثبات الذات بالنسبة لها هو وسائل التواصل الاجتماعي، لدرجة أن المرء لو لم يكن يملك حسابًا على تويتر وليس لديه أي متابعين، فذلك يعني أنه لا أحد وليس له أي قيمة أو أهمية!

وكأن الغرض من تلك المشاجرة هو أن يثبت لنا صنّاع الفيلم أن الهوس بإثارة الانتباه ليس مقصورًا على الممثلين والمشاهير فحسب، بل موجود عن كل الناس تقريبًا، وأن كلاً منّا يسعى للحصول على الانتباه بطريقته الخاصة حتى دون أن يشعر هو نفسه.

اقرأ أيضًا: كيف تكتشف الجانب المظلم من شخصيتك؟

هل نعيش في مجتمع تنافسي أم مجتمع سبيستون؟

في كتابه «الإنسان بين الجوهر والمظهر»، يقول الفيلسوف الألماني «إريك فروم»، أن الطفل ينشأ بين حبين: الحب الأمومي غير المشروط، الذي يمثل الرحمة دون متطلبات، دون لوازم، دون أن يضطر الطفل لإثبات ذاته أو إثبات استحقاقيته للحب.

والحب الآخر هو الحب الأبوي المشروط الذي يمثل العدل بمتطلبات، الذي يمكن أن يخسره الطفل أو يكتسبه حسب تصرفاته، وذلك الحب المشروط يضع الطفل في اختبار يومي تقريبًا لإثبات استحقاقيته لذلك الحب.

وبالنسبة للفيلسوف الألماني، تلك هي مشكلة مجتمعنا المعاصر الذي يجبر الفرد دائمًا على الإحساس بأنه لا بد أن يستمد قيمته واستحقاقيته للحياة مما يفعل، مما يملك أو ينتج. بينما من المفترض أن تكون رسالة المجتمع هو أن كل فرد يستحق الحب وله قيمة بغض النظر عمّا يفعل أو يملك.

وهنا يمكنني أن أختلف مع فروم قليلًا، أي مجتمع ذلك الذي رسالته أن كل فرد يستحق الحب مهما كان، أي مجتمع ذلك، مجتمع سبيستون؟

ما أقصده هو أن علينا أن نتوقف عن انتظار المجتمع أن يسد فجواتنا النفسية، أن يُكمل ما ينقصنا، أن يُوفِّر لنا الحب الأمومي الذي يتكلم عنه فروم. المجتمع سيكون دائمًا تنافسيًا من أجل ضمان التقدم والإنتاج، والتاريخ يشهد أن أي محاولة لتغيير ذلك لم تكن سوى حلم يقظة خيالي في رأس صاحبها.

وبالتبعية فإن نتائج أي فلسفة تتبع هذا النهج في التفكير ستكون حتمًا مخطئة، لأنها بُنيت على المقدمات الخاطئة، بُنيت على تجاهل حقيقة أن علينا -على المستوى الفردي- أن نتعامل مع العالم كما هو، لا كما نتمنى أن يكون.

وما يتحدث عنه فروم ليس مسئولية المجتمع من وجهة نظري، بل مسئولية الفرد نفسه، بالطبع المجتمع المعاصر به مشكلات لا حصر لها، لكن لو ظل الفرد بانتظار صلاح المجتمع حتى يعيش حياة سوية، فأخشى أن انتظاره سيدوم حتى يقطعه الموت دون أن يحدث ما طال انتظاره.

إذًا فلو أن مشكلة إثبات الذات والبحث عن الحب الأمومي ليست مشكلة المجتمع فحسب، فما هو دور الفرد بها إذًا؟

قانون التعادل: هل دفعت ثمن ما حدث؟

يسميه الكاتب الأمريكي «مارك مانسون» بقانون التعادل، Equalization Law، وبسببه يسهم العقل في إتعاس صاحبه وحثّه على عيش صراع داخلي طوال الوقت.

لنفترض عزيزي القارئ أنك تسير في أحد الشوارع، وإذ فجأةً أقبل عليك شخص دون مقدمات وصفعك بقوة. تلقائيًا سوف تشعر بالرغبة في صفعه هو الآخر، ضربه، أو حتى إبلاغ الشرطة التي سوف تحبسه أو تجبره على دفع غرامة تعويضية لما اقترف تجاهك.

ومهما كانت الطريقة التي ستعاقبه بها فهي نتيجة لكون مشاعرك مُصمَّمة حسب قانون التعادل، بأن كل شيء يجب أن يكون متعادلاً:

  • الطريف الأيمن = الطرف الأيسر
  • الصفعة = الصفعة المقابلة أو الحبس أو الغرامة

وبالمثل لو أثناء سيرك في أحد الشوارع، أقبل عليك أحدهم فجأة ودون مقدمات وأعطاك 1000 جنيه. إمّا سترفض ماله لعدم وجود تعادل أو مقابل للمبلغ، أو ستقبل منه المال ولكن حينها ستشعر تلقائيًا أنك تدين له بشيء أو بخدمة ما. ستُبالغ في شكره، تحتضنه، تدعو له، تدعوه لتناول الطعام في بيتك. المهم أنك ستحاول بأي شكل تحقيق تساوي طرفي المعادلة حتى تحقق قانون التعادل.

لكن في بعض الحالات، عندما تجد أن تحقيق قانون التعادل مستحيلًا، يبدأ القانون بالعمل إلى الداخل بشكل شخصي.

لنقل إن الشخص الذي صفعك كان شخصًا محل ثقة أو لديه سلطة ما، لو كان أباك مثلًا، حينها من الممكن أن يتغير رد فعلك من أجل تحقيق تعادل الطرفين، ليكون: ماذا فعلت لأستحق ذلك؟

سيظهر رد فعلك بشكل داخلي تجاه نفسك بدلًا من الطرف الآخر، تجاه استحقاقيتك أنت، كون الصفعة نتيجة أو عقاب لفعل مكروه اقترفته. أو أن الـ1000 جنيهًا كان سببهم أنك شخص طيب لم تؤذ أحدًا قط وتستحق كل خير!

نراها كثيرًا في فيديوهات اليوتيوبرز الخيرية، عندما يعطون أموالاً لأشخاص في حاجة ولكن لم يفعلوا شيئًا ليستحقوا تلك المنح الخيرية، وتلقائيًا يعمل قانون التعادل لديهم ويُسبِّب ردود فعل مبالغة في التعبير عن الشكر والعرفان، ثم حين يجدون أن عبارات الثناء ناحية المذيع لن تنجح في تحقيق التعادل، يتجهون ناحية ذواتهم وتعليل تلك المنح بأنهم طيبون أو أن قلوبهم تتمنى الخير للجميع، حتى ولو لم يكن هناك رابط مباشر بين طيبة قلوبهم والحصول على قدر كبير من المال!

كل ذلك بسبب قانون التعادل، الذي تكمن خطورته في أنه لا يقتصر على المعاملات المادية وحسب، بل والمعنوية أيضًا، وهدفه أن يجعل كل حدث يمر به المرء منطقيًا ومحسوبًا، خصوصًا لو تحولت التعاملات الفردية إلى تعاملات مع كيانات ذات سلطة أكبر وثقة مضمونة!

ليست علاقة سامة.. أنا من يستحق ذلك

على سبيل المثال لو دخلت فتاة علاقة عاطفية مع شخص كان يعاملها بشكل سيئ وسام، فتفسير ذلك وفقًا لقانون التعادل لن يخرج من احتمالين: إمّا أن ذلك الشخص سيئ، وإمّا أنها هي السيئة وتستحق تلك المعاملة!

أمّا لو كانت تلك العلاقة السامة مع أهلها، فالأمر برمته يتغير، وغالبًا ستعتقد الفتاة بشكل تلقائي أن العيب فيها، وأنها هي منْ تستحق تلك المعاملة، لأن من غير المعقول أن يكون كيان ذا سلطة مثل العائلة على خطأ وهي على صواب!

وقد تستمر تلك الفتاة المسكينة في اعتقاد ذلك لبقية عمرها، أنها لا تستحق الحب ولا المعاملة الطيبة، وستظل تنجذب لتلك المعاملة السيئة والسامة في كل علاقاتها بعد ذلك. أو من الممكن أن تُكمل بقية حياتها وهي تحاول إثبات العكس دون أن تشعر يومًا أن مجهوداتها كافية، أو مثل حالات كثيرة مع الأسف، تقضي بقية عمرها لإثبات صحة معتقد أهلها حتى تُساوي الطرفين وتحقق قانون التعادل!

كل ذلك لأن مصدر الحدث جاء من طرف/كيان ذي سلطة ومن المفترض الثقة به. لكن ماذا لو كان مصدر الحدث أكبر من مجرد عائلة وأهل، ماذا لو كان مصدر الحدث هو العالم نفسه؟

العالم بطبيعته كيان أكبر من الفرد وله سلطة من المفترض أنها محسوبة، فعندما يقع حدث سيئ أو جيد، يكون أول تفسير يخطر على بال الفرد أن العيب في العالم، فالحياة صعبة وغير عادلة… إلخ.

لكن عندما يتكرر الحدث أكثر من مرة، يبدأ الفرد في اتخاذ رد الفعل الثاني، وهو إلقاء اللوم على نفسه، تلك الأشياء حدثت لي لأني أستحقها، سواء جيدة أو سيئة. وبمرور الوقت يبدأ في تصديق تلك التفسيرات والتعامل معها كأنها حقائق لا شك بها وبديهيات غير قابلة للنقاش، وربما أيضًا يفني عمره في إثبات صحتها.

لأن قانون التعادل من الضروري أن يتحقق، ولو كانت الكفتان هما الفرد تجاه العالم، فغالبًا ستميل كفة العالم وافتراض صوابيته ولو على حساب الفرد، حتى لو كان الحدث ليس من الضروري أن يكون به طرف على صواب وآخر على خطأ، حتى لو ما يحدث لك في الحياة ليس له علاقة بالاستحقاقية!

اقرأ أيضًا: لماذا تحدث الأشياء السيئة للأشخاص الجيدين؟

كفتا الحياة غير متعادلتين: مشكلة الإنسان الأزلية

كل هذا الحديث عن تجربة أو عدة تجارب يمر بها الفرد دون استحقاق، لكن ماذا لو كان عن حياة كاملة بأسرها؟

لو كنت ستشعر بالتقصير تجاه 1000 جنيه أعطاها لك شخص دون أن تستحقها، فماذا لو استيقظت صباحًا ووجدت أنك قد وُهبت حياة طويلة وجسدًا سليمًا وأهل تقيم بينهم وبلد تعيش بها؟

هل هناك شيء يمكن أن تضعه في الطرف الأيسر لتُعادل الكفتين؟

هنا تبدأ الأزمة داخل كل فرد في المجتمع، أزمة إثبات الذات، أزمة إثبات استحقاقية الحياة التي جاءت له دون سعي، للصحة التي أتت له دون استحقاقها وغيره لم يولد بها، للعمر الذي وُهبه، والحياة التي ظفر بها وجعلته يشعر بالمسئولية تجاه وجوده غير المستحق.

في حالات عديدة تتحول مشاعر عدم الاستحقاقية إلى شعور حاد بالذنب والعار واستحقار الذات، كل ذلك من أجل معادلة الكفتين. بينما في الحالات العادية، يتحول كل منّا دون أن ندري إلى نسخة مصغرة من شخصية ريجان توماس بطل فيلم Birdman.

يحاول كل فرد دون أن يشعر إثبات استحقاقيته للحياة، إثبات ذاته، فعل كل ما بوسعه لكي تتساوى الكفّتان (كفة إعطائه الحياة، وكفة ما فعل بها)، كل ذلك من أجل تحقيق قانون التعادل.

وفجوة إثبات الذات تلك يمكننا وصفها كحالة إنسانية Human Condition، يتشارك بها البشر جميعًا بدرجات متفاوتة، حتى وصل الأمر بعالم النفس «آلفرد آدلر» أن يطلق عليها لقب «عقدة النقص» التي تدفع البشر للقيام بمعظم نشاطات حياتهم من وجهة نظره.

وكل شخص يحاول أن يملأ فجوته ويتغلب على عقدة النقص بطريقته الخاصة. هناك منْ يعمل بجد ليثبت استحقاقيته للحياة، وهناك منْ يصلي ويتعبّد ليوازن الكفتين، وهناك منْ يختزل تعبيره عن الامتنان في مساعدة الغير ووهب حياته للأعمال الخيرية، كل هؤلاء يحاولون ملء الفجوة بداخلهم بالطريقة الأنسب لهم.

لكن يبقى السؤال الصعب: هل يمكن لتلك الفجوة أن تمتلئ من الاساس؟

هل من الممكن أن ينجح المرء في تحقيق قانون التعادل حقًا؟

هل وصل أحدهم لمرحلة تساوي كفة وجوده في الحياة وكفة استحقاقيته للوجود؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.