تسعى الرواية مع كل نص جيد وجديد إلى إعادة كشف الواقع بطرقٍ مختلفة، وإلقاء الضوء على عدد من القضايا والمشكلات الراهنة، سواء تم ذلك من خلال استدعاء التاريخ، أو الاعتماد على الحكايات الواقعية مباشرة، وإعادة تصويرها وإنتاجها بشكل أدبي، يحذب القارئ من جهة، ويضع فيه الكاتب رؤاه وأفكاره وتصوراته للمجتمع، وما ينبغي أن يكون عليه، أو ينتقد من خلاله عددًا من الممارسات غير المقبولة. 

 في رواية «شلة ليبون» لهشام الخشن نجد قصة تبدو تقليدية تدور حول سبعة أصدقاء يفترض أن يمثلوا المجتمع، ولكنهم في الحقيقة يمثلون شريحة واحدة خاصة في المجتمع المصري، وهي الطبقة الراقية بتنوعاتها، حتى حينما أراد أن يضع بينهم صديقًا من طبقة بسيطة سرعان ما حالفه الحظ والثراء فأصبح الكاتب الكبير، لذا كان طبيعيًّا أن يكون مقر تجمعهم في الزمالك، وتحديدًا في «عمارة ليبون » الشهيرة التي عُرفت بإطلالتها المميزة على النيل، وكانت سكن عدد من نجوم الفن والمجتمع في قاهرة الستينيات وما بعدها.

أمين الذي أصبح ثريًا فجأة بعد وفاة والده الذي كان محترفًا للعبة البوكر، يجمع أصدقاءه من حوله، “عزيز” بطل كمال الأجسام الذي يصبح مسؤولاً عن شركات والده، وكريم أستاذ الجامعة المتفوق والمحب للعلم، وإبراهيم الكاتب الذي يصبح مشهورًا بين عشية وضحاها، مع هدى الفنانة المرموقة وناديا المعالجة النفسية وعايدة التي واجهت تجربة الاغتراب وأن تصبح زوجة لرجل أعمال خليجي، ثم استطاعت أن تتخلص منه وتعود لأصدقائها، يجتمعون كلهم مرة أخرى في ليلة رأس سنة 2010 ويتذكر كل منهم طرفًا من سيرته ومواقف حياته التي انتهت بهم في انتظار الجائزة التي سيمنحهم إياها أمين في نهاية اللعبة.

صورة الطبقة الارستقراطية

 تسعى الرواية بشكلٍ كبير لكي تكون معبرة عن الطبقة الارستقراطية في مصر في الفترة من الثمانينيات إلى 2010، وتبدو المساحة الزمنية الكبرى التي تناولتها الرواية واحدة من عثراتها، إذ إن التغيرات السياسية والاجتماعية في هذه الفترة كانت كبيرة فعلًا، يمكن أن يدور حولها ودار فعلًا عدد من الروايات، ولكن المشكلة أن التناول هنا يتم بشكلٍ سطحي عابر، ستجد مثلًا حوارًا بين هؤلاء الأصدقاء الارستقراطيين  حول الحجاب، لأن هدى الفنانة عُرض عليها الأمر ورفضته، ورغم أن الفكرة جيدة جدًّا، وكان من الممكن أن تكون محورًا قويًّا في الرواية، فإن الأمر تم تناوله من خلال حوارات عابرة لا تعدو أن تكون بين أصدقاء مختلفين على فيس بوك، وقل مثل هذا مع تناول قضية شائكة كالمثلية التي واجهها “كريم” مع ابنته في إنجلترا، والتي انتهت بانسحابه تمامًا وترك عمله وزوجته وابنته والعودة للقاهرة، هذا بالإضافة إلى عدد من المواقف التي يمر بها الأبطال في سبيل صعودهم وتحولهم إلى رجال أعمال أثرياء بالصدفة!

السؤال الذي يطرحه قرائي حين يلتقونني في الندوات: من أين جاءتك فكرة الرواية؟ لو استطعت لدعوتهم جميعًا ليشهدوا تلك اللحظة، هنا تكتب رواية نفسها دون أن يجهد كاتبٌ قلمه، كلما أمعنت في تفاصيل المشهد رأيت عناصر رواية متكاملة تشخص أمامي، سبعة آدميين يجمعهم تاريخ مشترك، شخصياتهم متباينة، ولكل منهم قصةٌ ذات خيوطٍ تتشابك مع قصة أخرى لشخصٍ آخر. تملكتني الفكرة وبدأت الأفكار والمشاهد تتوالى في ذهني. لم أعد أفكر في البداية ولا شغلتني النهاية بقدر ما سيطر عليَّ هذا الخط درامي وكيف سيسرده كل شخصية من وجهة نظرٍ مختلفة.
شلة ليبون _ هشام الخشن

 خلطة الرواية الرائجة

منذ نحو ست سنوات كتب الناقد الكبير جابر عصفور مقالاً ينتقد فيه عددًا من الأعمال الروائية التي وصفها بأنها “رائجة” وهو التعريب الذي اتخذه لظاهرة “بيست سيللر” التي غزت الكتابة الأدبية في مصر منذ سنوات مع صعود أسهم وكتابات عدد من الكتَّاب بدءًا بعلاء الأسواني في “عمارة يعقوبيان”، ويبدو أنها ظاهرة مستمرة وآخذة في الصعود، ويبدو أيضًا أنها تستقطب الكثير من الكتَّاب، إذ نجد لديهم ذلك النوع من الكتابة المعتمد على التشويق والإثارة، فيما تفقد الرواية خصائص أساسية مهمة، مثل بناء الشخصيات، والذي يؤسس لمواقفهم وتصرفاتهم وردود أفعالهم داخل الرواية، ولا يجعلهم محض “عرائس ماريونت” يحركهم الكاتب كما يشاء يمينًا ويسارًا!

هذا ما يجده القارئ بوضوح في شخصيات وأحداث «شلة ليبون »، فرغم أن سرد الرواية متماسك، والانتقال بين الأبطال جيد إلى حد بعيد، فإن هناك عددًا من التغيرات والمواقف المتلاحقة التي تحدث للأبطال فجأة، بدون تمهيد أو مبرر درامي، فنحن لا نعرف – على سبيل المثال – لماذا كان موقف عزيز البطل الرياضي حادًّا ومتزمتًا تجاه خطيبته الفنانة هدى، ولماذا يحضر ابن عم ناديا فجأة ليكون وصيًّا عليها وعلى عائلتها، مما يضطرها للهرب لخارج مصر لأنها ستكون مطاردة أمنيًّا! كما لا نعرف تحديدًا كيف وصل إبراهيم “الكاتب الشبح” إلى أن أصبح كاتبًا كبيرًا مرموقًا وتخلص من الكاتب الكبير الذي سرق روايته ومجهوده!

ثغرات داخل البناء المتماسك

ثغرات عديدة في بناء الشخصيات وعالمها ربما لا يتوقف عندها القارئ كثيرًا، لأنه سيواصل القراءة على أمل التعرف على الحقائق أو كشف الألغاز والأسرار في نهاية الرواية، ولكن اللعبة الأخرى التي يلعبها الكاتب معه، بمهارة ربما تكون أكبر من مهارة الأصدقاء في لعبة “البوكر”، هي أنه يترك الخيوط كلها فجأة، ويترك الرواية في نهايتها مفتوحة فلا نعرف إلى أين أو كيف انتهى بالأصدقاء الحال، بعد أن ألقى بعض الرسائل المضمنة في الرواية التي تعرفنا ببعض المصائر والنهايات.

تذكرنا شلة ليبون بعدد من الروايات الرائجة التي تحقق قدرًا من المتعة والتشويق للقارئ ولا شك، ولكنها ينتهي أثرها بمجرد انتهاء القارئ منها، فهو لم يتفاعل بقدرٍ كافٍ مع شخوصها وعالمها، بل لم يتعرَّف عليهم بصدق، وربما هذا ما أشار إليه جابر عصفور في مقاله الذي ميز فيه بين الرواية الرائجة والقيمة.

الرواية الأصيلة التي أضعها فوق قمة درجات سلم القيمة هي الرواية التي تصنع منحًى خاصًّا بها في مجرى الإبداع الروائي، منقطعة عن التيار السائد، مجسدة إضافة كمية وكيفية، أما المعيار الثاني فهو أن تضع الرواية أو تصنع بصمة خاصة بها حتى في داخل التيار الذي تمضي فيه، ولا أنسى في هذا المجال معيارًا قرأته، ذات مرة، لروائي عالمي مرموق، يقول: «إن الرواية ليست إعادة تسخين لطبق سبق طهوه»… بعبارة أكثر فجاجة الرواية ليست طعامًا «بايتًا» أو مطهوًّا منذ فترة، كأن كل ما يفعله الروائي هو إعادة تسخينه، فمن المؤكد أن الطعام الذي نقوم بتسخينه ليس له طعم الطعام الطازج الذي نقوم بصنعه.
جابر عصفور، الرواية الرائجة والقيمة

من صفحات الرواية إلى شاشة السينما

لا شك أن «شلة ليبون» استطاعت أن تجذب القارئ من بداية أحداثها إلى نهايتها، ولكن سيبقى أيضًا أنها ستذكره بالكثير من التجارب الروائية التي جمعت أكثر من بطل/شخصية في مكان واحد، وحاولت أن تعكس من خلالهم التغيرات التي حدثت في مصر، فمنهم من نجح في ذلك واستطاع أن يقدم رواية واقعية متقنة، ومنهم من لم يحالفه الحظ في ذلك!

في النهاية حققت الرواية النجاح الذي تصبو إليه، واستطاعت أن تجذب إليها فئة كبيرة من القراء، ويبقى أن الفكرة وتعدد الشخصيات، وربما اختيار الطبقة الارستقراطية تحديدًا، كلها عوامل جاذبة لعالم السينما، بل ربما يتجاهل المشاهد بعض ثغرات بناء الشخصيات أو المواقف طالما كانت الأحداث متلاحقة ومشوقة، من هنا ربما كانت الرواية محفزة لكتاب السينما الذين رأوا فيها «وصفة» الفيلم السينمائي الذي سيحوز على إعجاب الجمهور، لذا أعلن المنتج «وليد مصطفى» شراء حقوق الرواية، وأن السيناريست «تامر حبيب» سيكتب لها السيناريو والحوار، وسيكون من إخراج «ساندرا نشأت»، وبطولة  أحمد عز وأحمد السقا وماجد الكدواني ومنة شلبي وغادة عادل وغيرهم. من المنتظر أن يتم عرضه في عيد الأضحى القادم.