من الحكمة أن يدرك أولئك الذين يحضرون دافوس أن بعض رسائل ترامب الشعبوية قد تكون صحيحة.وبالمثل، يجب على الرئيس أن يدرك أن «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» يتطلب من الولايات المتحدة تشكيل العالم بالشراكة مع الآخرين.
ريتشارد هاس

بعد أكثر من ربع قرن من انتهاء الحرب الباردة نجد أنفسنا بشكل غير متوقع في لحظة ثانية مماثلة؛ إنها لحظة مختلفة ومألوفة، فلم تعد هناك قيادة واحدة للعالم كما تعايشنا معها. يُتهم ترامب بأنه مجنون يقود الولايات المتحدة إلى التراجع العالمي، فيما يرى آخرون أن سياسته ليست سيئة وتتسق مع الواقع. ويرى آخرون أن العالم يتطور بطرق لا علاقة لها بترامب، وسوف يستمر هكذا لفترة طويلة بعد رئاسته.

نحن أمام نظام عالمي جديد، تشكله دول مناهضة للديمقراطية والحريات، قوامه القوة المسلحة، لا مجال فيه لحقوق الإنسان والروحانيات وقواعد القانون الدولي. الغلبة فيه للمال والسلاح. لكن كيف تشكل هذا النظام الجديد؟


المجنون

منذ أن أتى ترامب بدا خطابه وسياسته أكثر تخبطًا، لكن مع الوقت بدأت ترتسم ملامح سياسته الواقعية ورؤيته في استعادة المكانة الأمريكية، فهو يرفض التجارة الحرة، ويعارض الهجرة، ويعيد اللاجئين، وينكر تغير المناخ، ويرفض الاتفاق النووي الإيراني، ويهاجم وسائل الإعلام والمحاكم، ويحتضن الحكام المستبدين، حاقدًا على قيم العولمة، داعمًا لإسرائيل إلى أبعد مدى على حساب الحق الفلسطيني، ويطمس النساء، ويتحدث بلغة مشفرة يتردد صداها مع العنصريين والمتطرفين.لا يتوقف الأمر عند هذا الحد حتى تنسحب الولايات المتحدة من بعض منظمات الأمم المتحدة التي مثلت ولعقود أداة الولايات المتحدة لقيادة العالم، فيما يبتعد ترامب عن أصدقائه وحلفائه التقليديين في أوروبا. وتكون القصة أكثر درامية عندما يرتبط الداخل بالخارج، عندما يتهم ترامب بقضايا جنسية، ويحال أعضاء حملته إلى القضاء في تهمة الدعم الروسي، ويصدر زئير التمرد من البيت الأبيض في مقالة تكشف كم أنه مجنون!


حرب باردة ثانية

في ظل سياسات ترامب تحجم دور الولايات المتحدة في ملفات كبرى أهمها في الشرق الأوسط سوريا والعراق، كما أن سعْي أوباما لإيجاد بديل استراتيجي عن الشرق الأوسط لأمريكا في جنوب شرق آسيا لم يعد من أولويات ترامب. رغم ذلك؛ مازال البعض يرى سياسة ترامب الخارجية ليست سيئة، بل أكثر انسجامًا مع الواقع في التأكيد على أن الأمن يأتي فوق حقوق الإنسان والحرية، ويسعى إلى تجارة عالمية متوازنة وليست حرة.

واقعية ترامب إذن لا تعتبر نشر الديمقراطية في العالم أحد أهم أولويات بلاده متعارضًا مع استراتيجيات سابقيه. حلم أمريكا أولًا في عالم يشبه حرب الثلاثين عامًا التي شهدتها أوروبا بين قواها المختلفة دينيًا وسياسيًا، دفع بمساحة حركة أكبر لظهور قوى عالمية وإقليمية تقليدية وجديدة تساعد في إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد لسد الفراغ الذي تركه الدور الأمريكي، وفي ذلك يقول ريتشارد هاس:

في نظام متعدد الأقطاب لا تهيمن فيه السلطة، ولا تتركز فيه القوة حول مركزين دوليين، يمكن أن تكون الأنظمة متعددة القطبية أكثر تعاونًا، حتى على افتراض شكل تناغمي للسلطة، حيث تعمل بعض القوى الكبرى معًا على وضع قواعد اللعبة وتأديب من ينتهكونها. ويمكن أيضًا أن تكون أكثر قدرة على المنافسة، كما أنها تدور حول توازن القوى أو أن تكون صراعية عندما ينهار التوازن.

أدت سياسات ترامب إلى بدء ما يمكن تسميته بالحرب الباردة الثانية، حيث لا يوجد صراع مباشر بين القوى العظمى، لكنها نزاعات بالوكالة تنفذها بعض الحكومات الحليفة، على سبيل المثال السعودية وحلفاؤها وإسرائيل في مواجهة مع إيران، كذلك وجود كيانات غير الدول تشارك في ذلك، مثل الجماعات والميلشيات المسلحة، كما يحدث في سوريا والعراق واليمن.

إذن نحن أمام نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب تتشكل قواعده وفقًا للاعبين التقليديين والجدد معًا، هي قواعد تغذي بعضها البعض، تتجه روسيا والصين إلى تولي الزمام مع وجود الولايات المتحدة، فيما تصعد دول إقليمية أخرى كتركيا وإيران والسعودية وإسرائيل على حساب دول النمور الآسيوية والدول الديمقراطية الحديثة التي كان من المتوقع أن تلعب دورًا بارزًا.

اقرأ أيضًا: اتفاقية بحر قزوين: الطريق لتكوّن كتلة شرقية جديدة


بوتين يصنع نظامه الخاص

أخطأت الولايات المتحدة في تخليها عن روسيا بعد انتهاء الحرب الباردة الأولى حينما انتقلت موسكو إلى اقتصاد السوق، وركزت الولايات المتحدة على الترتيبات الأمنية في أوروبا على حساب تغيرات الداخل في موسكو، حتى نمت قوتها الاقتصادية والسياسية وأصبحت المسئول الأساسي عن إنتاج نمط الحرب الباردة من جديد.

ظلت قيادات الكرملين المتلاحقة ترى في النظام العالمي المهيمن عليه من الولايات المتحدة تهديدًا لروسيا ومكانتها الدولية، ركزت روسيا على الإصلاح الاقتصادي والعسكري واتجهت إلى كسر عزلتها الدولية منذ الأزمة المالية العالمية.

لجأت موسكو إلى كسر أولى قواعد النظام العالمي بانتهاك القانون الدولي وقواعد مجلس الأمن، وبدأت في استخدام القوة ضد جورجيا عام 2008، ومن بعدها الاستيلاء على شبه جزيرة القرم، فيما تدخلت بشكل وحشي لدعم نظام الأسد في سوريا، وتسعى للسيطرة لبناء قوة عسكرية كبرى في مياه الشرق الأوسط.

اقرأ أيضًا: الإصلاح العسكري الروسي: البداية ومآلات النهاية

تتجاوز سياسة روسيا استخدام القوة العسكرية إلى استخدام التدخل المباشر في سياسات الدول كدعم الأنظمة، كما في سوريا أو كما تتهم في تأثيرها على الانتخابات الأمريكية، كذلك خلق تحالفات مع دول أخرى كالصين وإيران، وهي جميعها دول تناهض قيم الحريات والديمقراطية وتنتهك حقوق الإنسان.


التنين الصاعد بهدوء

مثلت الصين خلال العقود الماضية طرفًا مؤثرًا في معادلة العلاقات الدولية، وعلى الرغم من ابتعادها عن استخدام القوة العسكرية وعزلتها السياسية والعسكرية، فإنها أدركت في تحولات ما بعد الكولونيالية والحرب الباردة أن الهيمنة الاقتصادية هي الأولى في تحقيق النمو واستعادة مكانة روسيا، وذلك بالتوازي مع بناء قوة عسكرية ضخمة.

خلال أكثر من ربع قرن صنعت بكين معجزة اقتصادية جلعتها تحتل المركز الثاني عالميًا في الإنتاج الصناعي بعد الولايات المتحدة، وتأسست علاقاتها الدولية على بناء الشراكات الاقتصادية والتجارية حتى وصلت إلى 50 شراكة متخطية شراكات الاتحاد الأوروبي، في نفس الوقت سعت الصين إلى تطوير قدراتها العسكرية حتى احتلت المركز الثاني عالميًا من حيث الإنفاق العسكري متخطية روسيا في 2011.

معجزة الصين الاقتصادية والعسكرية بنيت تحت مظلة نظام سياسي واجتماعي مناهض لقيم الديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة والحريات العامة واستخدام البطش الأمني في مواجهة الأقليات والمعارضة، لذلك ليس من المستغرب أن تبني الصين علاقاتها مع الدول القمعية على أساس من المنفعة التجارية والاقتصادية على حساب منظومة القيم الديمقراطية.

تدخل الصين مؤخرًا على حلبة الصراع مع الولايات المتحدة ومزاحمتها دوليًا، من حيث الصراع على بحر الصين العظيم، وسياسة الولايات المتحدة مع كوريا الشمالية، وأخيرًا الحرب التجارية مع الصين بشكل مباشر. تسعى الصين إلى شن حربها بالتوسع في مناطق نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأفريقيا بعقد شراكات وصفقات اقتصادية كبرى، سواء مع بلدان الخليج أو مصر أو دول شمال أفريقيا.

أيضًا تسعى الصين إلى تحقيق تفاهمات دولية كبرى مع روسيا في ملفات عدة، أبرزها سوريا وأفغانستان، وقضايا أخرى كمواجهة الإرهاب، وكل ذلك من شأنه تقليص مساحة الولايات المتحدة دوليًا.

اقرأ أيضًا: دليل بكين: كن أقوى بحيث لا تحتاج إلى بندقيتك


هؤلاء ضحايا النظام الجديد

قمة هلسنكي جمعت بين رئيسين يُملي كل واحد منهما مصالح بلاده من منظوره الخاص، وكلاهما يعزف على الحنين إلى الماضي الذي يصنعه في خياله.
ماري سلوتر

يسمح النظام متعدد الأقطاب بوجود مساحة أكبر للدول الصغرى في أن تلعب دورًا مهمًا على الساحة الدولية، كذلك يسمح بحرية الانتقال من قطب إلى آخر، وهي دول تتغذى على النزاعات المسلحة والحروب الأهلية والانقسامات السياسية، وتعاني من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

غالبًا ما يعيش النظام متعدد القطبية على عدم الاستقرار وتنامي حدة الصراعات، فيما يسعى اللاعبون الرئيسيون لتحقيق المنفعة العظمى بواقعية وحشية، وتظل الجماعات والكيانات من غير جهاز الدولة هي الضحية الأولى لهذا النظام، تليها الأنظمة القمعية، ومعها يضيع القانون الدولي والأعراف الدولية، وبعد ذلك بعض الدول الكبرى ما لم يتحقق التوازن في النظام.

ويبقى ترامب والولايات المتحدة من أكثر اللاعبين في تشكيل النظام الجديد، لكن ليس بغرض تحقيق التوازن كما كان الهدف قبيل الحرب العالمية الأولى، بل للمنافسة في الحفاظ على المكانة نفسها، وذلك بمحاولة تكسير أجنحة القوى الصاعدة، وهو ما يبرره فشل اجتماعات ترامب-بوتين المتعددة حول عدد من القضايا، وكذلك مناوراته مع الصين وكوريا الشمالية وإيران.

وفي النهاية تتفق رؤية ترامب مع بوتين وبكين في ملامح النظام العالمي الجديد من حيث مناهضة الديمقراطية وعدم إعطاء وزن أكبر للمنظمات الدولية والإقليمية والاعتماد على السيادة المطلقة لكل دولة في فرض حمايتها على نفسها وتحقيق مصالحها، وذلك فيما يخص أوروبا وحلفاءه في آسيا، بينما تتعارض رؤيته مع الصين بشأن التجارة الحرة.