رجلٌ مقنع بزي أسود، يخفي كامل جسده وأمامه «سانتا كلوز‌» راكعًا ومقيد اليدين، ورسالة تهديد كتبت بالإنجليزية والفرنسية والألمانية تقول «قريبًا في أعيادكم»

تهديدات قائمة، تحذيراتٌ وإجراءاتٌ أمنية مشددة، يتبعها تفكيك عدد من الخلايا الإرهابية. ثم بعد ذلك تنتهي الأعياد بمآسي الانفجارات وفقدان الأطفال هنا أو هناك في أعياد الميلاد. تلك هي أجواء الاحتفال بأعياد «بابا نويل» والميلاد، التي باتت محفوفة أكثر بالذعر والتوتر. فلماذا تنجح الجماعات في خططها؟ وتفشل الأنظمة في إجراءاتها؟

سيل من رسائل التهديد توالت نهاية نوفمبر/تشرين الثاني من قبل تنظيم الدولة، واعدةً بتحويل أوروبا إلى بركٍ من الدماء، وتحويل أعياد الميلاد إلى جحيم مقيت، فما بين نيويورك وموسكو توالت التحذيرات بعدم السفر إلى المدن الأوروبية في أعياد الميلاد خشية وقوع هجمات إرهابية، فما هي دلالة تلك التهديدات، وما هي المدن التي قد يخيم بها شبح الإرهاب في أعياد الميلاد، وما هي أخطرها؟


داعش يهدد: فهل يجب أن تخشاه أوروبا؟

تأتي تلك التهديدات في ظل سياقات خانقة يعاني منها تنظيم الدولة، على رأسها هزائمه – في بلاد الشام – التي اعترف بها في إصداره «لهيب الحرب 2» ، والتي ستدفعه بشكل عاجل إلى تغيير استراتيجياته القتالية والتخلي عن سياسة الاستحواذ على الأرض إلى الجهاد في الميادين المفتوحة. كما أنها تترافق مع عودة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم وهو ما يزيد من احتمالية تحول تلك التهديدات إلى واقع مؤلم.

دلائل عدة حملتها تهديدات داعش فهي وإن جاءت على شكل ملصقات وليست تسجيلات صوتية أو مصورة فقد كانت أكثر وضوحًا ومباشرة من حيث تحديد الأهداف والسلاح المستخدم ووضوح الرسائل. كما أن بثها ونشرها عبر تطبيقات الرسائل – «الشبكة المظلمة» أو الـ «دارك نت» أو وسائل التواصل الاجتماعي، وليس عبر وكالات الأنباء المحسوبة على التنظيم – يزيد من فرضية دور «الإرهاب الفردي». وبينما تأخذ تلك التهديدات حيزًا من الاهتمام يثير البعض مسألة تعددها وكثرتها مما يقلل من أهميتها، فهدفها دعائي ليس إلا، إلا أن الشواهد التاريخية تنسج رواية أخرى حول جديتها.

في باريس حينما تتحول أعياد الميلاد إلى جحيم

في صورة أخرى، حشدٌ من الناس تعلوه يدٌ تحمل سكينًا، تتقاطر منه الدماء في وسط شارع «الشانزلزيه» الشهير في باريس، ورسالةً أخرى كتب فيها «سنجعل أعياد رأس السنة جحيمًا»

رسالة داعش هذا العام إلى باريس أكثر وضوحًا من حيث تحديد المكان في شارع «الشانزلزيه»، كما أنها توضح آلية التنفيذ وهي الطعن. ربما يريد التنظيم تشتيت الانتباه بوضوحه إلى ما هو أبعد من ذلك. إرث التنظيم في باريس وقدراته المتراجعة تُبين مدى جدية تلك التهديدات، فليست المرة الأولى التي يهدد أو يقوم التنظيم بتنفيذ عمليات داخل باريس، فكانت هجمات باريس الستة المتزامنة في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 الإعلان الأول لسلسلة هجمات متلاحقة في باريس كان من بينها هجوم نيس 14 يوليو/تموز 2016.

هجمات باريس الأوسع إذ عبرت حينذاك عن قدرات التنظيم في التجنيد والتخطيط والتنفيذ وكذلك القدرات التسليحية العالية، وهي قد ارتبطت بقدراته في الشام، بينما سلاسل الهجمات اللاحقة في باريس وغيرها فعبرت عن انعكاسها لتراجع قدراته واعتمدت بشكل أكبر على الدهس والطعن وإطلاق النار عشوائيًا.

إلى لندن: سندمر دولتكم كما دمرتم دولتنا

«سندمر دولتكم كما دمرتم دولتنا» لافتة أخرى على ساعة «بيج بن» في العامة البريطانية لندن وأخرى لشارع « أكسفورد» الشهير

ارتبطت تهديدات داعش لبريطانيا بموقف لندن المساند للحرب عليها في الشرق الأوسط،ففي أعقاب هجوم باريس 2015 وبروكسل 2016 هدد التنظيم بأنه سيفتح لندن مقيمًا بها ولايته في أوروبا، وفي وقت لاحق أحبطت بريطانيا أكثر من ثلاث عشر ة عملية إرهابية في لندن، في حين نجح التنظيم في 22 مارس/آذار الماضي في تنبي عملية الدهس والطعن التي نفذها خالد مسعود على جسر «ويستمنستر» أمام مبنى البرلمان في لندن.

وبالرغم من الخصوصية الجغرافية لبريطانيا ، تواجه لندن نوعين من الهجمات المحتملة؛ الأول يتمثل في إمكانية استهداف رحلات الطيران الخاصة بها، أما الثاني، فيمثله منفذو الهجمات الفردية على المناطق الرخوة مثل الأسواق التجارية أو الفنادق والحانات أو أماكن العبادة.

سوف نحرق ألمانيا

ألمانيا هي الأخرى كانت على موعد مع تهديدات داعش حيث نشر التنظيم ملصقًا كتب عليه «سنحرق ألمانيا»، وتتعقد المسألة الألمانية حيث تعاني من التطرف المتبادل؛ تطرف اليمين الألماني، وتطرف اللاجئين المسلمين في برلين. العنف المتبادل في ألمانيا وهو وإن كان فرديًا إلا أن له جذورًا سابقة لما قبل الربيع العربي، وهو وإن خفت إلا أنه عاد للواجهة مع صعود اليمين المتطرف وتبنيه خطابًا معاديًا للاجئين، وهو ما يتوجه ما قام به التونسي «أنيس العامري»، عندما خطف شاحنة في برلين وقام بدهس حشدٍ في سوق لهدايا عيد الميلاد.

روما الأخرى تنضم إلى خريطة المدن المهددة، حيث أصدرت مؤسسة الوفاء الإعلامية التابعة لتنظيم الدولة ملصقًا لذئب منفرد يهدد فيه باستهداف مبانٍ بساحة بيتر، سبق هذا الملصق رسالة أخرى ترسم شخصية ملثم يقود نحو كنيسة القديس بطرس مع بندقية وحقيبة على ظهره داخل سيارته.أعلى الملصق كتب نص رسالة «دم عيد الميلاد» مع خط «حتى الانتظار» مكتوبة باللون الأحمر تحتها.


إرهاب المناسبات العامة: لهذا يجب أن تحذر

مسارات تحليلية عدة تكتنف تلك التهديدات بعضها يذهب إلى أنها تظل محل اهتمام وذات مستوى شديد الخطورة، والبعض الآخر يذهب إلى ما هو أبعد حيث يتم وضع تلك التهديدات في موضع التشتيت للجهود الاستخباراتية. ولكن دليل آخر يشير إلى أن تلك التهديدات قائمة بجميع مساراتها وهو « إرهاب المناسبات العامة».

بالرغم من أن العمليات الإرهابية دومًا ما تكون مخططة وفجائية غير متوقعة ويصعب التنبؤ بها أو تفاديها، إلا أن خرائط «الجهاد» منذ سنوات تأسيسه تعطي مؤشرًا على حرص الجماعات على تنفيذ عملياتها في أوقات معينة كحضورها الكثيف في المناسبات العامة. وفي محاولة لدراسة العلاقة بين تزايد النشاط الإرهابي والنطاق الزمني «المناسبات العامة»، أجرت مؤسسة «راند» دراسة إحصائية للعمليات الإرهابية التي حدثت أثناء تسع عشرة مناسبة سنوية في أمريكا وأوروبا خلال الفترة من 1970 إلى 2013.

الدراسة أكدت فرضية تزايد الهجمات بكثافة في أزمان الاحتفالات بالأعياد والمناسبات العامة، وتأتي مناسبات أعياد الميلاد على رأس تلك الإحصائيات؛ فتأتي أعياد 7 يناير/ كانون الثاني في المقدمة بنصيب 15 هجومًا، تليها أعياد رأس السنة 31 ديسمبر/ كانون الأول بواقع أحد عشر هجومًا. قد يكون زمن تقرير راند توقف عند 2013، لكن ظلت هجمات الجهاديين في أعياد الميلاد متتالية. فكانت تفجيرات «فولجرجراد» الروسية 2013 بمثابة انطلاقة لسلسلة هجمات جديدة توالت في 2015 في سوريا، وأخيرًا هجمات في برلين وإسطنبول في 2016.

اقرأ أيضًا: هل تقع العمليات الإرهابية في سلاسل زمنية منتظمة؟

وبالرغم من ذلك فإن البعض يذهب إلى أن العمليات الإرهابية ليس بالضرورة حدوثها عشية المناسبة، ولكن قد تأتي سابقة لها بأيام أو فترة زمنية قصيرة، وهو ما يمكن أن يؤكده تبني داعش لتفجير كنيسة «كويتا» الباكستانية في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول الحالي، تلك الفرضية تبنى أنها تضمن للجماعات الإرهابية استغلال حالة الارتخاء الأمني وتحقق الهدف المرجو منها وهو إفساد أجواء تلك الاحتفالات.و يأتي تركيز الجماعات المتطرفة بتنفيذ عملياتها في تلك المناسبات حيث تحقق لها عدة أهداف. فإرهاب المناسبات العامة يتركز بالأساس حول استهداف الجماعات والمناطق الرخوة – مثل المقاهي والنوادي والفنادق والأسواق التجارية وأماكن العبادة من كنائس وأديرة – والتي تحقق الهجمات بها ضررًا أكبر بين الجموع المحتشدة وتخلق فضاءً ورأيًا عامًا أوسع وذعرًا مخيفًا. الخسائر البشرية والمادية أيضا والتي قد تتكبدها تلك الجماعات جراء عملياتها في تلك المناسبات تكون أقل أو معدومة إذا ما قورنت بخسائرها في مواجهات مع أهداف صلبة «الجيش والشرطة».


القاعدة تتربص: أخطر ما يجب أن تخشاه أوروبا

ومن الفرص التي يجب أن ينبغي انتهازها في استهداف الأمريكيين هي حالة الارتخاء الأمني التي تكون عليها البلدان التي لم نقم فيها بأي عمل.
أسامة بن لادن

احتفالات أعياد الميلاد هذا العام أكثر استثناء فهي تأتي في سياقات دولية أكثر تعقيدا وتشابكا، تجعل من احتمالية وقوع هجمات إرهابية عشية الاحتفالات أكثر حضورا. تتزامن الاحتفالات مع تأجيج مشاعر المسلمين في أعقاب إعلان القدس عاصمة لإسرائيل قبيل نهاية العام،وهو ما أثار ضجر الجماعات الجهادية وعلى رأسها تنظيم القاعدة الباحث بدأب عن صعود يمكنه من قيادة الجهاد العالمي بعد خفوت نجم داعش.

مخاوف وقوع هجمات تنفذها القاعدة في أعياد الميلاد باتت أكثر طرحا من السنوات السابقة، وذلك يعود إلى محورية قضية تحرير الأقصى ومحاربة أمريكا «رأس الكفر» في فكر القاعدة، وهو ما دفعها دوما إلى تنفيذ عمليات كبرى ضد المصالح الأمريكية في الداخل والخارج منذ تأسيسها في نهاية القرن المنصرم، كما أن الجعبة التاريخية للقاعدة تحفل بعديد من العمليات التي نفذت في بلاد الغرب أثناء المناسبات العامة المختلفة.

اقرأ أيضًا:من رحم الوثائق: رحلة في عقل «أسامة بن لادن»

خطورة تنظيم القاعدة تكمن في أنه لا يعتمد بشكل أساسي على «البروباجندا» الإعلامية السابقة لتنفيذ عملياته، ولا يعتمد على كثافة وعدد العمليات التي يقوم بها في فترة زمنية قصيرة. بينما يركز على الهجمات الكبيرة ذات الكثافة النوعية، كأحداث الـحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وهجمات إسبانيا 2004 وبريطانيا 2005 وهجوم شارلي إيبدو 2014 في فرنسا.

وعلى النقيض من داعش تعمل القاعدة على انتقاء الجماعات المستهدفة من قِبلها وهي تتركز بشكل أكبر حول الأجانب «المشركين» سواء من الأهداف الصلبة أو الرخوة، وهي تركز بشكل أكبر على تنفيذ عملياتها داخل وسائل المواصلات واستهداف القوافل السياحية والفنادق والحانات.

نيويورك تواجه إذن تهديدات محتملة من قبل كل من القاعدة وتنظيم الدولة، سواء كانت تلك التهديدات في داخل نيويورك أو واشنطن، أو حتى ضد سفاراتها ومصالحها وجنودها خارج الحدود الجغرافية، خاصةً في جنوب شرقي آسيا ومنطقة الشرق الأوسط.