تعود بداية كل تلك الأحداث المثيرة إلى إيعاز من محاميين اثنين، قررا التدخل لإنقاذ مسيرة لاعب بلجيكي مغمور، كان يود الانتقال في عام 1990 من نادي «آر إف سي لييج» إلى نادي «دانكيرك» بالدرجة الثانية في فرنسا. أفسد «لييج» الصفقة بطلب مقابل مالي ضخم لا يقدر عليه نظيره الفرنسي، وبدلاً من الاكتفاء ببقاء اللاعب، قرروا معاقبته بخفض راتبه بنسبة 75%، وعندما رفض، تم إيقافه.

ما يبدو أمامك وكأنه أحد مظاهر العبودية، كان يعبر تمامًا عن السلطة التي تمنحها العقود قديمًا للأندية، والتي تصل للتحكم بمصير اللاعبين حتى بعد انتهاء مدة العقد. لكن صاحبنا لم ييأس، وتوجه مع محامييه إلى محكمة غير رياضية من أجل تحدي نظام انتقالات كرة القدم، مستخدمين القانون الخاص بالعمالة الأوروبية.

صدر الحكم في عام 1995، بمنح اللاعب تعويضًا يصل إلى 400 ألف يورو، والإقرار بحق لاعبي كرة القدم في التنقل من نادٍ لآخر بعد انتهاء عقودهم، وهو ما سمي بقانون «بوسمان»، على اسم صاحبنا.

تغيرت خارطة كرة القدم بفضل ذلك القانون، ليس فقط بحرمان عديد الأندية من القدرة على المنافسة -بعد سلبها قدرتها على الاحتفاظ باللاعبين- لكن بتوزيع السلطة بين النادي واللاعب، وهو ما أسفر عن إثارة لا تنتهي في سوق الانتقالات وتجديد العقود، والذي أوصلنا في النهاية للمقاربة بين ما فعله «كيفن دي بروين» و«مروان محسن» في المفاوضات الأخيرة.

من الأذكى؟

ما حدث غير من شكل العقود ودرجة تعقيدها، وساهم في زيادة رواتب اللاعبين تدريجيًا. ومع تطور مداخيل اللعبة وظهور حقوق الإعلانات والصور، زاد التعقيد أكثر فأكثر. وكنتيجة منطقية تحولت طاولة المفاوضات إلى ساحة حرب، يحاول كل طرف إثبات أنه الأذكى.

لا يدور الذكاء هنا حول نيل راتب أساسي عالٍ فقط، لأن النادي قد يحاول استغلال حماسك، وإغراءك بمكافآت مشروطة نظير خفض الراتب. حتى اختيار المكافآت المناسبة سيتطلب بعضًا من الشد والجذب، إذ يمكن لصانع ألعاب جيد أن يحصل على مكافآت نظير عدد معين من التمريرات الحاسمة، لكن بحسبة أخرى قد يربح أكثر إن ربط المكافآت بعدد مرات فوز فريقه.

ومع إصرار كل طرف على إثبات ذكائه، رأينا عددًا من البنود الغريبة في عقود اللاعبين. على سبيل المثال، أفصح والد المهاجم «مويس كين» لصحيفة «توتو سبورت» الإيطالية عن تراجع يوفنتوس في اتفاقه معهم بشأن شراء عدد من الجرارات والآلات التي كان سيستخدمها في زراعة الأراضي التي يملكها في ساحل العاج.

على نفس الخط، وضع برشلونة بندًا في عقد «لويس سواريز» يعرضه لعقوبة ضخمة في حالة عض أحد المنافسين. كذلك وضع ليفربول بندًا يشجع «ماريو بالوتيلي» على السلوك الجيد، إذ كان عليه فقط ألا يُطرَد لعدد من المباريات ليحصل على مبلغ مالي.

اقرأ أيضًا: تعرف على أغرب 5 بنود في عقود لاعبي كرة القدم

دي بروين يقص الشريط

ثم زاد الطين بلة بتكرار حرب الذكاء تلك لعدد أكبر من المرات، بسبب سعي الأندية الدائم لتجنب وصول اللاعبين للعام الأخير في العقد، وبالتالي صارت مفاوضات التجديد تبدأ مبكرًا خاصة مع نجوم الأندية الكبيرة، وكان الجميع يظن أن أي مشكلة تطرأ على تلك المفاوضات ستكون بسبب وكيل اللاعب الجشع، إلى أن جاء «كيفن دي بروين».

مع بداية شهر أبريل لعام 2021، تم الإعلان عن تجديد عقد «دي بروين» مع مانشستر سيتي حتى عام 2025، لكن الكواليس ستضفي المزيد من الإثارة على ذلك الخبر المتوقع. بحسب «سام لي» صحفي شبكة «The Athletic» فإن المفاوضات لم تكن سلسة كما توقع المتابعون، وأن النجم البلجيكي رفض العرض الأول المقدم من ناديه.

رغم الظروف الاقتصادية الناتجة عن جائحة كورونا، أمِل «دي بروين» في الحصول على زيادة براتبه، وهو ما لم يتضمنه العرض الأول. وكما اعتدنا في تلك المواقف، يبدأ وكيل اللاعب بالضغط وتسريب الأخبار عن عدم راحة موكله وإلى آخره. لكن موقف «كيفن» كان مختلفًا لأن «باتريك كوستر» وكيل أعماله كان قد تم القبض عليه في بلجيكا في أغسطس 2020 على خلفية اتهامات بالتزوير وغسيل الأموال.

استعان «دي بروين» بشركة «ATFIELD» كممثل قانوني، وبمساعدتها بدأ اتصالاته مع عدد من شركات تحليل البيانات والإحصائيات، على رأسها شركة «Analytics FC»، وكان المطلوب إعداد تقرير يوضح قيمة اللاعب الفنية.

تمكنت شبكة «The Athletic» من الاطلاع على بعض تفاصيل ذلك التقرير، الذي احتوى على مقارنات بين إنتاج دي بروين (الأهداف المتوقعة، التمريرات الحاسمة المتوقعة، التأثير الإيجابي أو السلبي الذي تحدثه كل لمسة يقوم بها لاعب في مباراة معينة) مقابل أفضل المواهب الأخرى في أوروبا. وقد كان البلجيكي في المرتبة الأولى، يليه جادون سانشو الجناح السابق لمانشستر سيتي.

كما قيّم التقرير فرص مانشستر سيتي في الفوز بدوري أبطال أوروبا مع دي بروين وبدونه، مع توضيح زيادة فرصة المنافسين الذي قد يتحصلون على خدمات اللاعب إن رحل عن السيتي. ثم اكتملت المهمة بتوضيح فارق الأجور بين لاعب الوسط البلجيكي وأقرانه، وقد تبين أنه ينتج أكثر منهم -وفقًا لمقاييس Analytics FC- لكن يتقاضى أقل.

مقاربة لا تقاوم

أمام تلك الأرقام، اضطر مان سيتي للإذعان ومنح لاعب وسط ميدانه الزيادة المالية التي ترضيه، لكن الأهم هو أن «دي بروين» قد قص الشريط وافتتح أول عملية تفاوض لتجديد عقد باستخدام البيانات، في موقف ذكرنا بما فعله «ممفيس ديباي» من قبل عندما استعان بشركة «SciSports» للبيانات والإحصائيات لتحديد الأندية التي تناسب طريقة لعبه، كي يتمكن من إنعاش مسيرته بعد رحلة غير موفقة في مدينة مانشستر.

أخبر أحد علماء البيانات في الدوري الإنجليزي الممتاز موقع «Training Ground Guru» عن توقعه بحذو جميع اللاعبين البارزين حذو «دي بروين» في غضون السنوات الثلاث المقبلة، وبالتالي على الأندية أن تحذر من آخر صيحات البيانات في حرب «من الأذكى؟».

ومع كامل الإعجاب بسابقة «كيفن دي بروين»، لكني لا أخفيك سرًا أن أول ما طرأ بذهني عند قراءة التفاصيل، كان تجديد عقد مهاجم الأهلي المصري «مروان محسن». نعم، الفارق واضح بين أسماء اللاعبين وجودة المنظومة وخلافه، لكن مجرد تخيل استخدام «مروان» للبيانات في مفاوضاته الأخيرة أمر لا يقاوم.

بدأت مفاوضات التجديد مع مهاجم الإسماعيلي السابق بإشاعة تفيد برغبته في الحصول على 9 ملايين جنيه سنويًا، لكن سرعان ما تم النفي، ثم سارت المفاوضات جيدًا لتنتهي بتجديد لمدة 3 مواسم، يرتفع فيها الراتب من 6 ملايين إلى 7 وينتهي بـ 8.

تخيل أن «مروان» قد استخدم البيانات المتاحة في مفاوضاته، وأوضح أنه في الطريق لإتمام عامه الثاني والثلاثين، وقد أحرز 23 هدفًا وقدم 9 تمريرات حاسمة في 103 مباراة -حتى التاسع من مايو 2021- بالقميص الأحمر، ترى كيف سيكون الوضع؟ من كان سيدفع الـ 6 ملايين لمن؟

بالطبع يتجاوز التقييم الفني تلك الأرقام، لكن في مصر يأخذ الأمر بعدًا جديدًا غير مفهوم، في أوله سيبهرك بأرقام التعاقدات السخية، وآخره سيجعلك محاطًا بعبارات رديئة مثل: التجديد على البياض، خير النادي على اللاعبين، وصولاً بالتضحية بالملايين من أجل القميص.

في حالة «مروان» لن تتمكن من تحديد الطرف المضحي؟ وبالمثل في حالة «وليد سليمان» الذي جدد دون أي مشاكل، لتتفاجأ بحصوله على 10 ملايين سنويًا وهو جالس على مقاعد البدلاء، ولا يجرؤ أي مدرب على منحه دورًا أساسيًا في الفريق بعد تقدمه بالعمر وتراجع لياقته.

لو استحضرت مرة أخرى نموذج «دي بروين» وحاولت تخيل الأمر، ستصل لنتيجة مختلفة عما حاول أصحاب الاتفاق إقناعك بها، وهنا ستكتشف أنك بالغت في التخيل، وأن النقلة من لاعب يستخدم البيانات للتأكيد على قيمته الفنية إلى هذا الوضع، نقلة عنيفة ويصعب استيعابها.

لذا سنضطر بالاكتفاء بالتعرف على ما سيتجه إليه المستقبل، وسنحاول بكل أدب ولطف أن نطلب من اللاعبين والمسئولين الحاليين في منطقتنا ألا يعتبروا العقد أو الاتفاق مزادًا، يعبر فيه كل طرف عن زهده في الحياة ومتاعها.

اقرأ أيضًا: كيف يمكن لـ«ديباي» إنقاذ اللاعبين من مقبرة «ميسي»؟