منذ الجاهلية عرف العرب طريقة معتمدة لتخليد موتاهم، ومحاولة الإبقاء على ذكراهم حاضرةً دومًا مهما بعدت بينهم السنون، فكتبوا قصائد هامة مطوّلة في الرثاء كانت من أصدق وأجمل ما كتب في الشعر العربي، خاصةً وأن هذه القصائد تشتمل على سيرة أصحابها وتعدد فضائلهم. وبرز من بين شاعرات العرب «الخنساء» التي لم تُعرف في تاريخ الأدب العربي بشيءٍ أكثر من رثائها لأخيها صخر، واستمرت «المرثيات» حتى الشعر الحديث فقرأنا وحفظنا رثاء «حافظ إبراهيم» لأمير الشعراء أحمد شوقي، وغيرها من التجارب الشعرية المعروفة.

أربع سنواتٍ مرت على وفاة «رضوى عاشور» أهم روائية مصرية معاصرة، التي تعلق بأدبها وكتابتها بل وبحكاياتها الشخصية الكثير من القراء والشباب في مصر والعالم العربي، لا سيما أنها كانت أستاذة جامعية محبوبة، وناشطة ثقافيًا وسياسيًا بشكل ملحوظ. أحبها كل من اقترب منها، سواء من خلال كتاباتها وروايتها ذات الأسلوب الأدبي المميز والشيق، أو من خلال علاقتها بالناس الذين كانوا يعدونها أمًا ثانية لهم، لذلك كله كان رحيلها حدثًا مفجعًا للجميع، بكاها الجميع وتأثروا برحيلها تأثرًا كبيرًا، فكيف يكون الحال بمن عاش مع كتابتها يومًا بيوم ومن تقاربت حكاياته الشخصية بحكايتها وبمرضها حتى وفاتها الأليمة؟

اقرأ أيضًا: «رضوى عاشور»: مريمة وشمس وأخريات

قاد القدر الكاتبة والباحثة «سارة قويسي» لتكون شريكة أحداث حياة «رضوى عاشور» من على البعد. من مكانها في الإسكندرية كانت تتابع كتابات رضوى عاشور وتتعايش معها وتتأثر بها، حتى وقع اختيار أحد مشرفيها في رسالة الماجستير على أن تدرس روايات عاشور فكانت تلك فرصة أخرى لمعايشةٍ من نوعٍ آخر، معايشة أبطال حكايات رضوى من حجر دافئ وثلاثية غرناطة حتى رقية الطنطورية، وغيرهم من أبطال الروايات التي نسجت تفاصيلهم بكل دقة حتى أصبحوا أبطالاً حقيقيين في ذهن وحياة كل من قرأ هذه الروايات، هذا من جانب ثم جاءت تفاصيل مرض والدتها ووالدها لتتشابه مع مرض «رضوى عاشور» وما حكته في كتابها الأخير «أثقل من رضوى» من آلام.

لم تكتب «سارة» مرثية في «رضوى عاشور»، بل اختارت أن تنقل لنا الحكاية كاملةً حتى وإن لم تكن الحكايات لتكتمل، مهما حاولنا أن نضيف من تفاصيلها الواقعية فيما نكتبه، يبقى دومًا الكثير والكثير من المشاعر والمواقف والأحداث والأحاسيس التي لا يمكن للكلمة والجملة أن تنقله، ولكنها سعت، وحاولت في كتابها «صندوق مريمة» أن تحكي أطرافًا من تلك العلاقة الخاصة جدًا التي جمعتها «برضوى عاشور» والتي بدت في النهاية كشهادة على تجربة لجيلٍ بأكمله، تعلق بكتابة رضوى عاشور وأحبها، وسار معها من شوارع غرناطة إلى ميدان التحرير.

أتدرين يا رضوى كم من الحكايا أخفيتها؛ كي أسردها على مسامعك، وأنا أجلس بين يديك أقرأ ما كتبت لكِ عن أعمالك؟ كنت أود أن أحكي حكاياتي عن اختيارك موضوعًا للبحث، كيف أتت تلك الفكرة إليّ بعدما عكفت على قراءة موضوع آخر لأكثر من ستة أشهر… فجأة جئت أنت من بين الجميع، بحث عن الرواية النسائية بنموذج مختلف لا يشبه كتابات النساء المنتشرة على الساحة، التي تصدع رؤوسنا بحكاياتهن مع الرجال الأوغاد، والصراع الدائر على عجلة المساواة بين الذات والآخر، والقهر والحرية، والموت والحياة. كان قلمك قلمًا مغردًا خارج الصف يحمل هم الأمة، ويحكي عن معاناة الناس في فترات الانهيار. امرأة عربية ولدت في عام 1946م ترى حياتها بين سقوط القدس وسقوط بغداد. حياة كاملة من البحث عن الأمل وسط خراب الهزيمة، ومحاولة الكشف عن أسباب السقوط. أعمالها تبحر بنا في رحلة ما بين الأندلس وبغداد، حياة تحمل بين جنباتها الهزائم كلها.

حتى إن كان في «صندوق مريمة» طرف من سيرة صاحبته الذاتية، إلا أن سارة تجيد اللعب على أوتار الحكاية، وتعرف كيف تنتقل ببراعة في طرق الحكي بين فصلٍ وآخر، فإذا بها تتخفف من ثقل الفصحى لتحكي جزءًا من ذكرياتها وتفاصيل حياتها الشخصية بالعامية البسيطة، ولا شك أنها تدرك تمامًا الفارق بين العالمين، وتدرك أن بعض التفاصيل والحكايات يروق لنا أن نحكيها كما نقولها لأصدقائنا، وهي وإن كانت تلجأ إلى العامية في ذلك الفصل إلا أن الأمر لا يطول بها حتى تعود مرة أخرى لرضوى عاشور وتفاصيل عالمها.

كما تلجأ للشعر مرة مستشهدة بمحمود درويش، ومرة أخرى متقمصة حالة الفتاة التي تنتظر حبيبها بين الكتب في قصيدة نزار قباني «شؤون صغيرة» التي تنقلها كاملة دون أي إضافة أو تعقيب، وكأنها ترسم بها حالة الكاتبة وعلاقتها بالناس والأشياء من حولها، وتبثنا بعضًا من مشاعرها ومشكلاتها العاطفية في قصة منفصلة متصلة بعنوان «انتظار»، أو تنتقل بنا إلى حكاية فيلم شاهدته وترى أن فيه تشابهًا مع حكايتها الشخصية في «Joy وأشياء أخرى»، وهي بين هذا كله تحافظ على اتصال حالة الكتاب بحالتها وعلاقتها بحكايات رضوى عاشور وكلماتها المتناثرة التي تستحضر أجزاءً كثيرة منها أيضًا.

تضع سارة قويسي كباحثة أكاديمية متمرسة في نهاية كتابها ببليوجرافيا كاملة تضم سيرة ذاتية شاملة لرضوى عاشور، وكل ما استطاعت أن تصل إليه مما كُتب عنها، وهو ما يعد أمرًا شاقًا لا شك أنه استغرق منها الكثير من البحث في الدوريات والمجلات المختلفة التي تناولت دراسة وأعمال «رضوى عاشور» في سنوات عديدة، وهو ما يضيف للكتاب قيمة أخرى كونه مرجعًا هامًا لكل من يسعى للبحث عن دراسات ومقالات تناولت أعمال رضوى عاشور.

هكذا حكت الحفيدة -كما تسمي نفسها- حكاية الجدة، وحققت أحلام الجميع، واستطاعت وهي الفتاة الصغيرة أن تسجل الكثير من التفاصيل والحكايات الهامة التي تجذب الأسماع وتوثق ليس فقط حكاية «رضوى عاشور» ولكن حكاية هامة تخص مصر والمصريين في هذه الفترة التي شهدتها وعاشتها سارة في طريق إعدادها لرسالة الماجستير غير العادية تلك.

لا شك أن الحديث عن «رضوى عاشور» وعالمها حديث ممتع ذو شجون كثيرة، وقد أجادت سارة قويسي في كتابها هذا الدوران حول ذلك العالم الجميل، وفي عرض طرفٍ من تجربتها شديدة الخصوصية مع «رضوى» ورواياتها، ولا شك أن كتابها سيثير لدى القارئ الكثير من الذكريات والشجون، لا سيما من قرأ «رضوى عاشور» وتأثر بها. في النهاية لا نجد أفضل مما قاله تميم الابن عن والدته الجميلة بالعامية المصرية:

رضوى عاشور اقتراح بوجود بشر أحسن . بسمتها بتقول يا ناس .. جربتها وأمكن لو يخذلوها أشوف .. وش الصباح يحزن وابوس إيديها أشوف إيد الصباح تنباس!
رحمة الله على رضوى عاشور .. وسلام طيب لروحها ووردة.