وراء كل رجلٍ عظيم امرأة.

هكذا تكلّم المثل العربي، ولكن «سلمى أنور» ترى أن وراء كل إنسان في هذه الحياة، ليست امرأة واحدة بل جماعة من النساء يؤثرن فيه سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن هنا تنهض فكرة وتفاصيل كتابها الجديد «ماتريوشكا» الذي سمته على اسم الدمية/العروسة الروسية التي تتكوّن من عدة دمى متداخلة بأحجام أصغر، في رمزيّة واضحة يبرزها العنوان الجانبي للكتاب «نسـاء داخل نساء».

تبدأ «سلمى» كتابها من الخاص الذاتي القريب منها، إلى العام حيث العالم الذي عرفته وتعرفت عليه خلال سنوات عمرها القليلة المليئة بحكايات النساء ومواقفهن المؤثرة، وهي إذ تنطلق نحو ذلك إنما تعتمد على إرثٍ طويل قديم ومعاصر من الكاتبات والحكاءات اللاتي استطعن تجاوز عتبات الصمت ومناطق التحريم وانطلقوا للتعبير عن أنفسهن بكل قوة وجرأة وشجاعة.

أنا الأخرى لديَّ أشياء كثيرة ساكتة عنها، لكني لا أملك شجاعة «نفيسي» أو ربما لا أملك سنوات عمرها التي تقارب السبعين، إنها ولا شك سنوات البوح النسائي بلا ارتعاش، بالمرأة الشرقية تحترف الخوف من كل الأشياء، منذ أن يتفتح جسدها ووعيها لابد لها من لحظةٍ زمنية تكف فيها عن الخوف، بينما يذبل الجسد الذي ربّى لها الهواجس، بينما يكون أكثر من تحكموا بها أو طمعوا فيها غالبًا بين يدي ربهم! .. أنا الأخرى لديَّ أشياء كثيرة ساكتة عنها، لكن عمري الذي لم ينتصف بعد لا يسمح لي إلا بالقليل فقط من الحكي .. على الأقل إلى حين.

بداية بكتاب الشاعرة المصرية «إيمان مرسال» عن «الأمومة وأشباحها»، مرورًا بالتركية «إليف شافاق» في «حليب أسود»، وصولاً إلى الإيرانية «آذار نفيسي» ومذكراتها «أشياء كنت ساكتة عنها»، حتى تصل إلى الكاتبة التشيلية الكبيرة «إيزابيل الليندي» وما كتبته في «أفردويت» تحديدًا، تسعى «سلمى أنور» إلى الكشف عن الطرق المختلفة التي استطاعت بها المرأة من بيئات مختلفة وعلى فترات متباينة أن تعبر عن نفسها، وتخرج عن الأطر والتقاليد التي تحيط بها وتمنعها من التعبير عن نفسها بجرأة وصراحة، وهي إذ تفعل ذلك كله، إنما تمارس طريقتها الأولى في تدليل نفسها بالكتابة، بعيدًا عن كل الرقابة الذاتية والمجتمعية وغيرها.


العجائز: حكايات لمواجهة الحياة

تقسّم «سلمى أنور» كتابها إلى قسمين، تخصص الأول «للماتريوشكات» العائلة من حولها، حيث تركز فيه الحديث عن أمها وجدات عائلاتها، وكيف كانت الحكاية طريقتهم للتغلب على المخاوف، وتربية بنات العائلة على مواجهة صعوبات الحياة مهما كانت شاقة وعسيرة.

في هذا الجزء تمزج «سلمى» بين حنين ذكرياتها إلى الماضي والطفولة وما فيها من حكايات، وبين الملامح التربويّة التي شكّلت وجدانها سواء من حكايات الجدات أو الصديقات والأقارب وصولاً إلى العصر الحالي وما يجري فيه من حولها من مواقف وأحداث.

اقرأ أيضًا:اكتشاف الذات: قراءة في ثلاث روايات نسائية

سيجد القارئ نفسه بين هذه الحكايات، خاصة وإذا صادف أن كان مثل الكاتبة من مواليد الثمانينات إذ ستصحبه في جولة سريعة إلى عدد من ذكريات الطفولة المصرية الخالصة سواء كان ذلك من خلال ذكريات التلفزيون وما يصاحبها، أو حتى الأحداث الكبيرة التي أثرت في العالم حينها بدءًا من حرب الخليج، مرورًا بالزلزال ومذبحة الدير البحري بالصعيد وحتى الثورة المصرية 2011.

تركز في الجزء الأخير من هذا القسم على «حكايات العجائز» وكيف استكشفت من رصدها وجمعها من بلدان مختلفة أنهم يجتمعون دومًا في فكرة واحدة تتمثّل في مواجهة خوفهم من الحياة بكل صلابة، فلم تعد الحياة ترهبهم لفرط ما عرفوا وما تعرفوا من خلالها من قصص ومواقف وأحداث واقعية ينطبق عليها مقولة «يشيب لهولها الولدان»، من هنا أصبحت تلك الحكايات وسيلتهم للمرور على كل الأحداث مهما كانت غريبة ومخيفة وصعبة، لذا فلا غرابة أن يحادثوا الأشباح ويحكوا عن حوادث الموت بكل بساطة وأريحية!


نســاءٌ سعين لتغيير العالم

في الجزء الثاني من الكتاب «ماتريوشكات من هنا وهناك» تلقي الكاتبة الضوء على نماذج خاصة من السيدات حفل بذكر بعضهن كتب التاريخ مثل «فرح ديبا» زوجة شاه إيران والمصادفة التي جمعتها بامرأة كانت من أعدائها لكي يجمع بينهما المنفى في الفيلم الوثائقي الذي حكى حكايتها «الملكة وأنا».

وكيف استطاعت مخرجة الفيلم أن تقنع الملكة بعد سنوات الشتات والغربة أن تحكي حكايتها التي تحوّلت إلى مأساةٍ من نوع خاص، وكيف اجتمع ألم المخرجة المناضلة اليسارية بألم الملكة التي كانت تسعى في يوم من الأيام لإسقاط حكم زوجها، وكيف دارت بهم الأيام!

كما تتحدث عن «عجائز يهوديات» اجتمعن في إحدى الولايات الأمريكية وقررن افتتاح معرض مصوّر يحكين فيه ويكشفن للعالم كيف أن من أنقذهن من «الهولوكست» ومذابح النازي في أربعينيات القرن الماضي كانوا رجالاً مسلمين، كانوا موظفين عربًا وفرسًا في سفارات بلادهم في أوروبا سهلوا تهريب من استطاعوا من أطفال اليهود ونسائهم عن أعين رجال النازي!

كما تفرد فصلاً خاصًا عن أميرة القلوب «الأميرة ديانا» مستعرضةً جوانب من حياتها وكيف استطاعت أن تجمع قلوب الناس حولها حتى رحيلها المفجع في الحادث عام 1997. وغير ذلك من حكايات النساء الهامة والغريبة والمثيرة للتأمل والدهشة التي تعرضها «سلمى أنور» بأسلوبها الشيق الممتع حول هؤلاء النسوة التي ترى أنهن أصل الحياة، أو كما تقول؛

تمزج «سلمى أنور» في هذا الجزء بين الحكايات التاريخية وما قرأته وسمعته من الصحف والكتابات المعاصرة، وبين ما شاهدته من أفلام وما قرأته من روايات وكتب صوّرت المرأة أو كان للمرأة دور كبير ومؤثر فيها فتعيد قراءة الفيلم أو الرواية من وجهة نظرها الخاصة موضحةً كيف يمكن ضم تلك الشخصية وغيرها إلى «ماتريوشكات» هذه المجموعة المميزة.


النسويّة .. كتابة وتحليلاً

أصل الحياة وروحها ووقودها، من أجل هؤلاء ومثيلاتهن على الدول أن تعمل، وأن تذلل الصعبات وأن تتعاون وتنصت، وتعيد إنتاج القوانين والمعاشات والمبادرات والجمعيات والمدارس والمستشفيات، من أجلهن دون سواهن، لأنهن جديرات بما هو أكثر من المؤتمرات النسويّة ذات الشعارات الرنانة التي لا تحضرها إلا المتأنقات!

لا يبدو أمر الكتابة عن النساء والدوران حولهن عند سلمى أمرًا عابرًا أو ثانويًا، بل على العكس يبدو كمنهج بحث واستقصاء تركز عليه في كتابتها بشكل خاص، هادفة إلى الكشف طوال الوقت عن المسكوت عنه في عالم النساء الثري في شتى جوانبه.

لعل هذا ما دفعها للذهاب لأكثر مناطق سيطرة الرجال، وبسط نفوذهم في مصر وهي «الصعيد»، لتكشف وترصد حكايات النساء هناك في كتابها السابق «الصعيد في بوح نسائه» حتى في روايتها الأولى «نابروجادا» الصادرة عام 2015 حرصت سلمى على التركيز على صور مختلفة للنساء كما شاهدتهن هناك في الغرب مع اختلاف حالاتهن وبيئاتهن.

اقرأ أيضًا:بين «بنت المصاروة» و«الصعيد في بوح نسائه»: الفن يقاوم

وهكذا فهي تسعى من خلال كل بحثٍ أو كتابة إلى التركيز على دور المرأة، والكشف عن جوانب دور النساء في المجتمع والحياة، ويبدو أنها تنجح في ذلك إلى حدٍ بعيد.

ومن هنا لا تمثل «ماتريوشكا» مجرد سيرة ذاتية لصاحبته، الروائية والباحثة التي تجاوزت الثلاثين بأعوام قليلة، ولكنه بحثٌ وسعيٌ دؤوب نحو استثارة المزيد من الحكايات والشجون، والنبش عن المسكوت عنه والمتراكم في الذاكرة والتاريخ للعديد من النساء اللواتي أدمنّ الحكي، وأصبحت لديهن حصيلة كبيرة من التجارب والمعارف والمواقف التي جعلتهن على هذا النحو من القوة والصلابة والقدرة على مواجهة الحياة، ولكنهن في الوقت نفسه آثرن السلامة والاحتفاظ بهذه الحكايات على عظم شأنها لأنفسهن، أو لمن شاءت له الأقدار من البنات والأولاد أن يسمعوا تلك الحكايات ويسعون إلى تدوينها مرة أخرى وإعادة صياغة وتدوين سيرة هؤلاء النسوة من جديد.