لطالما اعتقدت بأن الغاية الأهم للسينما هي أن تجعلنا قادرين على معاينة حيوات أخرى لم نعشها. السينما قادرة على اعتصار تفاصيل حياة طويلة في شريط مُصور يُعرض لمدة قصيرة في ظلام دور العرض، نفارق في هذا الظلام حياتنا بتفاصيلها، نستنشق هواءً جديدًا، نعاين أفكارًا وأسئلةً جديدة، ثم نعود.

ولطالما أيضًا مثّل عقل الإنسان لغزًا كبيرًا ومعقدًا، حاول العلماء والفنانون حله، كل بطريقته. وفي إطار هذا التداخل بين العلم والفن،بين الطب والسينما، شهدت مدينة الإسكندرية في الثاني والعشرين من إبريل/نيسان الظهور الثاني للنسخة الأولى من مهرجان MEDFEST في مصر، حيث سبق هذا بأيام ظهور أول في القاهرة لهذا الملتقى العربي الأول عن الطب في الأفلام.

المهرجان يمثل محاكاة لمهرجان MEDFEST الذي يقام في ربيع كل عام في المملكة المتحدة، حيث تُعرض أفلام قصيرة عن موضوعات طبية ثم يُتاح النقاش عن هذه الموضوعات من خلال لجنة متخصصة من الأطباء وصناع السينما، يتلو ذلك تعليقات ومشاركات من الجمهور.

في التقرير التالي نقدم رؤيتنا لما طرحه اليوم من تساؤلات، اليوم الذي شهد عروضًا لأحد عشر فيلمًا، ومناقشات ثرية ضمت أساتذة متخصصين في الطب النفسي، وصناع سينما شباب، وجمهور كبير ذو طابع شبابي.


الافتتاح: فيلمان من مصر

اختارت اللجنة المنظمة للمهرجان فيلمين من مصر؛ هما «سليم العقل» أو Compos Mentis للمخرج محمد شوقي حسن، و«خمسة جنيه» للمخرج محمد أديب.

افتتح «سليم العقل» الجزء الأول من اليوم وشهد الفيلم -كما اعتدنا من مخرجه محمد شوقي حسن- رؤية جديدة للتعامل مع موضوع المرض النفسي. اعتمد حسن في شريط الصوت الخاص بالفيلم على مزج مقاطع صوتية متعددة؛ منها مقاطع إذاعية قديمة من برنامج قال الفيلسوف، مقاطع صوتية من فيلم «بئر الحرمان» للمخرج «كمال الشيخ» والذي يدور حول امرأة مصابة بانفصام الشخصية، ومقاطع صوتية كتبها وسجلها بنفسه عن امرأة لا تضحك إلا وحيدة داخل غرفتها.

أما على مستوى الصورة فقد مزج «حسن» بين صور قديمة بالأبيض والأسود، ومقاطع حديثة مصورة لعروض سيرك، مشاهد تعميد أطفال داخل كنيسة، ومقاطع من مهرجان الموتى الذي يقام في المكسيك وتتراقص فيه عرائس على هيئة هياكل عظمية.

مشاهدة الفيلم كانت مربكة لمعظم الحضور خصوصًا أنه تعمد عدم تناسق شريطي الصوت والصورة في الكثير من الأحيان، ولكنني وجدتها -على مستوى آخر- تجربة جديدة تحاول ترجمة الاضطرابات النفسية لصورة بصرية سينمائية. في حين اعتبر د.خالد علي (المنسق الدولي للملتقى) أن الفيلم يمثل كتالوجًا للإضرابات النفسية لذا وقع الاختيار عليه لافتتاح اليوم.

أما «خمسة جنيه» – الذي افتتح الجزء الثاني من اليوم- للمخرج محمد أديب، فقد تناول قصة سينمائية قصيرة عن مرض «ألزهايمر»، قام ببطولة الفيلم الممثلة المصرية الكبيرة «صفية العمري»، والنجم المصري الشاب «أحمد الفيشاوي». الفيلم من إنتاج «مختبر الإبداع» وهو متاح للعرض على قناتهم على يوتيوب.


مفاجأة سعيدة: فيلمان من السودان

جاءت مفاجأة اليوم السعيدة من خلال فيلمين سودانيين قصيرين؛ هما «زيو» و«ستوديو»، من خلال صورة سينمائية صادقة وحكايات إنسانية بسيطة استطاعت جذب انتباه الحضور ولمس أرواحهم.

فيلم «ستوديو» للمخرج السوداني أمجد أبو العلاء ومن إنتاج عام 2012، تدور أحداثه حول رجل عجوز ووحيد يبدو أنه يعاني من أعراض ضعف الذاكرة. يبحث الرجل عن عائلة تؤنس وحدته من خلال بحثه في وجوه أطفال وشباب وشيوخ داخل أحد ستوديوهات التصوير الفوتوغرافي. أثناء نهاية الفيلم نشاهد اسم المخرج الإيراني الكبير الراحل «عباس كيارستمي» كمشرف على تنفيذ الفيلم وحينها نشعر بأن كل هذا الجمال لم يكن مجرد صدفة.

أما فيلم «زيو» للمخرج السوداني الشاب سيف الربيع والذى عُرض في مهرجان السودان للسينما المستقلة في بداية عام 2016، تدور أحداثه حول شاب سوداني تعرض لصدمة نفسية أثناء الطفولة أدت لإصابته بالتلعثم، تستمر الحكاية حتى نفاجأ بالطريقة الفريدة التي استطاع بها هذا الشاب تخطي أزمته من خلال الغناء.

سماع صوت هذا الشاب السوداني -الذي يعاني من التلعثم- وهو يغني بطلاقة بالغة «على طريقة الراب» كان كفيلاً بدفع جمهور المهرجان للتصفيق، ليصبح الفيلم في النهاية ضمن أكثر الأفلام المحتفى بها داخل اليوم.


الأجمل: ثلاثة أفلام للرسوم المتحركة

تحقق المستوى الأعلى من المتعة الفنية فى اليوم من خلال ثلاثة أفلام للرسوم المتحركة، بإبداع مدهش على مستوى الصورة وفرصة لالتقاط الأنفاس على مستوى شريط الصوت.

Au Revoir Balthazar

من الفيلم السويسري وداعا بالتزار

«وداعا بالتزار» هو الفيلم الحائز على جائزة الفيلم السويسري لأفضل فيلم رسوم متحركة في عام 2016، الفيلم للمخرج «رفائيل سومرهالدر» وتدور أحداثه حول قصة قطة خشبية تحلم بسماع صوت البحر وتظل تطارد هذا الحلم طوال رحلتها أثناء الفيلم.

الفيلمعبقري على مستوى الصورة لدرجة أنه جعلنا نرتبط بقطعة خشب تتحرك ونعاملها وكأنها كائن يشعر ويحب ويحلم، وعلى مستوى الصوت فيرافقنا صوت البحر ويخلو الفيلم تمامًا من أي كلمات. قد يرى البعض هذه الرحلة وكأنها تعبير عن إضراب الوسواس القهري، وقد يرى البعض الآخر، ومنهم د.نبيل القط، استشاري الطب النفسي وأحد أعضاء لجنة المناقشة الخاصة بالمهرجان، أن الرحلة تعبير عن الأحلام التي نظل نطاردها طوال حياتنا، أو نحلم بمطاردتها حتى ولو لم نغادر أماكننا في النهاية.

To this day

«حتى يومنا هذا» فيلم للمخرج الكندي «شاين كويسزان»، تدور أحداثه حول حكايات الأطفال الذين يتعرضون للمضايقة والتحرش أثناء الطفولة وبالخصوص داخل المدارس. تستمر الحكاية لتخبرنا أن الندوب التي يتعرض لها الأطفال في هذه المرحلة تظل باقية مهما طال الزمن.

استخدم المخرج رسومًا متحركة متداخلة وسريعة مع شريط صوت يحمل خطابًا حماسيًا مليئًا بالكلمات الصادمة والمحفزة. استطاع الفيلم أن يقدم رسالته بشكل واضح للغاية وانتزع إعجاب معظم الحضور لهذا السبب.

Father and Daughter

«أب وابنته» هو فيلم من إنتاج بريطاني للمخرج الهولندي «مايكل دودك دو فيت». مثّل الفيلم درة أفلام اليوم على المستوى الفني ولم يكن هذا غريبًا كونه الفيلم الفائز بجائزة «أوسكار» لأفضل فيلم رسوم متحركة قصير في عام 2000.

يحكي الفيلم قصة أب يترك ابنته عند نهاية عمره لتبدأ الابنة رحلة حياتها وهي تتذكر أباها في مختلف مراحل هذه الرحلة. وصف د.ماجد موريس، استشاري الطب النفسي وأحد أعضاء لجنة الحوار الخاصة بالهرجان، الفيلم ببراعة حينما قال «إننا رأينا في دقائق معدودة رحلة الحياة وهي تمر أمام أعيننا في خلفية موسيقية تشبه معزوفة شتراوس الدانوب الأزرق».


تجربتان شخصيتان – فيلمان نفسيان

رسوم متحركة، وداعا بالتزار، الطب والسينما
من بين العروض ظهر فيلمان قصيران نفسيان، وكأنهما دروس تعليمية عن الإضرابات النفسية؛ وهما الفيلم الإنجليزي Outside والفيلم الكولومبي Regression.

الفيلم الإنجليزي للمخرجة «دولي سين» ويدور عن مرض «الذهان»، خصوصًا حينما يشعر المرء بالارتياب من كل من حوله، يقدم الفيلم شكلاً سينمائيًا قديمًا ومباشرًا يستطيع ببساطة إظهار أعراض الاضطراب للمشاهد، في حين يدور الفيلم الكولومبي للمخرج «إسماعيل إيجوي» عن لحظة معينة في الماضي يستمر الطبيب النفسي فى دفع مريضته نحوها حتى تتذكرها؛ لأنه يعتقد أن إدراكها لهذه اللحظة سيجعلها قادرة على تخطيها.

على جانب آخر ظهر فيلمان تسجيليان قصيران وكأنهما دروس واقعية عن المرض النفسي وكيفية التعايش معه؛ وهما الفيلمان الإنجليزيان «Irene» و«Notes from inside».

نتابع حياة جدة عجوزة مصابة بمرض الزهايمر مع ابنتها وذلك بعدسة حفيدتها المخرجة «ليندسي جودال» في Irene، ونتابع معهم مصاعب المرض ونضحك معهم سخريةً من الحياة. أما في Notes from inside فنتابع كيف يحاول الموسيقي وعازف البيانو الإنجليزي «جيمس رودز» استخدام الموسيقى كوسيلة للعلاج من المرض النفسي، كيف أنقذته الموسيقى من الانتحار، وكيف دفعه هذا لعزف موسيقاه أخيرًا داخل أكبر مصحة للأمراض النفسية في المملكة المتحدة.


انتهى اليوم وبدأت نقاشات وأسئلة جديدة حول المرض النفسي، السينما، وعلاقة كل منهما بالآخر. وسط تجربة جديدة نتمنى تكرارها عمل عليها فريق عمل مجتهد نذكر منهم د.مينا النجار رئيس الملتقى، د.خالد علي المنسق الدولي للمتلقى، د.حاتم علاء، وكافة فريق التنظيم. بالإضافة للجنة الحوار والنقاش الثري للغاية من أساتذة الطب النفسي «د.نبيل القط، د.ماجد موريس، د.جيداء فاروق»، وصناع السينما؛ السيناريست أيمن الأمير، والكاتب والمخرج السكندري شريف زهيري.