تحكي النكتة الشهيرة أن عددًا من المساجين جمعتهم زنزانة واحدة مع كتاب للنكت، فأخذوا يقرأون الكتاب حتى حفظوه عن ظهر قلب، فصار الواحد منهم يلقي النكتة برقمها، كأن يقول 46، فيعج المساجين بالضحك.وذات يوم جاءهم مسجون جديد، وشهد ما يفعلونه دون أن يفهم، فسألهم عن سر ضحكهم على تلك الأرقام، فأشاروا إلى الكتاب، فعكف المسجون الجديد على حفظ النكات بأرقامها، وعندما أتم الحفظ بدأ يشارك زملاؤه. فيقول أحدهم 78، فيضحكون، ويقول هو 35، فلا يعيره أحد انتباهًا. فعاد ليسألهم: لماذا ﻻ تضحكون على نكاتي؟ فرد عليه أحدهم «يا ابني النكتة مش بكلامها، النكتة بطريقة الإلقاء».


(1)

هل الكوميديا فن؟للوهلة الأولى يبدو هذا السؤال بسيطًا، فقد تكون الإجابة الجاهزة هي أنه بالفعل أحد ألوان الفنون، لكن الغالب على تعاطي الجمهور، وحتى بعض النقاد والمتخصصين، هو النظرة الدونية للكوميديا مقارنة بغيرها من الأعمال الجادة، سواء في السينما أو التلفزيون. فالجمهور ينظر إلى مثل هذه الأعمال على أنها مجرد «عرض» يعتمد بالأساس على «خفة دم» الممثل أو المؤدي الكوميدي. وأن الأفلام والمسلسلات الكوميدية هي لمجرد التسلية والترفيه عن النفس. وهذا الاختزال، في قدرة المؤدي أو الممثل الكوميدي على طرح النكات، يحمل الكثير من الإجحاف بحق الكوميديا كفن، وهي المفارقة التي تشير إليها نكتة المساجين. غير أنه في الحقيقة الأمر أعقد من ذلك بكثير، فالكوميديا ﻻ تتوقف على “النكتة” الجيدة، وﻻ على المؤدي الجيد القادر على “إلقاء” النكتة، وهو ما يحاول هذا المقال التركيز عليه من خلال أحد أهم أنواع الكوميديا وهو «الكوميديا الجسدية».تندرج الكوميديا الجسدية تحت مفهوم «كوميديا دل آرتي Commedia Dell’arte» والتي يتم تعريفها بأنها الكوميديا التي تعتمد على الأسلوب الارتجالي، واستدعاء مخزون من الشخصيات لدى المؤدي أو الممثل الكوميدي، وهو النوع الذي انتشر في إيطاليا في القرنين الـ16، 17 الميلادي وارتبط بالكرنفالات والأعياد الدينية. ويمكننا أن نستخلص من ذلك أن الكوميديا الجسدية هي بالأساس استخدام التعبير الجسدي كوسيط للكوميديا.


(2)

عندما نفكر في الكوميديا الجسدية وفقًا لهذا التعريف، يستدعي العقل مجموعة من أمهر ممثلي الكوميديا في قدرتهم على توظيف التعبير الجسدي، وربما يأتي على رأسهم الممثل الأمريكي الشهير «جيم كاري»، والذي يتمتع بقدرة مبهرة على التحكم في كافة عضلات جسده، والإتيان بحركات غريبة وشاذة ﻻ تملك إزاءها سوى الضحك.

اقرأ أيضًا:رحلة في التمثيل المنهجي: هل حقًا مات «جيم كاري»؟ أول ما يتبادر إلى ذهني عند ذكر اسم «جيم كاري»، هو ذلك العرض القصير الذي قام بتأديته في حفل تكريم الممثل والمخرج الأمريكي المخضرم «كلينت إيستوود» عام 1996، عندما قام كاري بشكل مفاجئ بإلقاء نفسه على ظهره بمنتهى السرعة والقسوة. يمكنكم مشاهدة العرض من خلال هذا الفيديو:

وفي مقال مصور لقناة «Nerdwriter1»، إحدى قنوات اليوتيوب المهتمة بالسينما، بعنوان «روان أتكنسون سيد الكوميديا الجسدية»، يتحدث محرر الفيديو عن الممثل البريطاني «روان أتكنسون»، والذي يعرفه الكثيرون بشخصية «Mr. Bean».أتكنسون هو واحد من أكثر الممثلين الكوميديين موهبة في العالم، ومن أكثر المخلصين لحقبة السينما الصامتة، حيث تخلو أعماله من الحوار إلى حد كبير، أو على الأقل هو نفسه نادرًا ما يتكلم، ويعتمد بالأساس على الكوميديا الجسدية وكوميديا الموقف.

وبالحديث عن السينما الصامتة، بالطبع ﻻ يسعنا أن نتجاهل اثنين من عمالقة هذه الحقبة هما «شارلي شابلن»، و«بستر كيتون». وبالطبع في غياب الصوت/ الحوار، تعتمد الكوميديا بشكل كبير على الصورة والتعبير الجسدي، وهنا يبرز تفرد شابلن وكيتون، خاصة وأن كلا منهما قام بإخراج أفلامه.ومن بين كل تلك الأسماء الكبيرة وغيرها، يمكنني القول إن ملك الكوميديا الجسدية بلا منازع هو الممثل الأمريكي «مايكل ريتشاردز»، والمعروف بشخصية «كريمر» التي أداها في المسلسل الكوميدي «ساينفيلد».


(3)

في أولى حلقات المسلسل الكوميدي الشهير «Friends» وفي أول لقاء بين شخصيتي «روس»، و«رايتشل»، يتقدم روس لتحية رايتشل، فتنفرج مظلته رغمًا عنه، ويضج الجمهور بالضحك. يقول «ديفيد شويمر» (الذي قام بأداء شخصية روس) في إحدى المقابلات التلفزيونية، إنه سعى جاهدًا لدى صناع المسلسل لتغيير هذا المشهد، فعلى حد قوله «لم أفضل مشاهد الكوميديا الجسدية، لم أكن أرى أنها تناسبني».وهو محق في ذلك إلى قدر كبير، فمشاهد الكوميديا الجسدية في مسلسل فريندز بدت وكأنها مشاهد اصطناعية إلى حد ما، فلم تكن ارتجالية على الإطلاق، ولم تخرج من الممثل نفسه، وبالتالي لم تكن حقيقية بالقدر الكافي.

في المقابل، فإن مايكل ريتشاردز اعتمد على الكوميديا الجسدية بشكل أساسي في مسلسل ساينفيلد، حتى أنه اشتهر بمشهد معين وهو دخوله إلى شقة جاره «ساينفيلد»، وهو المشهد الذي تحول إلى ظاهرة في وقت ﻻحق، حيث وصلت عدد المشاهد التي يدخل فيها كريمر من الباب إلى ما يقارب 400 مشهد على مدار حلقات المسلسل التي بلغت 172 حلقة. ويمكنكم مشاهدة جميع هذه المشاهد مجمعة في هذا الفيديو.

أحدهم يدخل من الباب. ما المثير في هذا المشهد ليتحول إلى ظاهرة؟ المثير هو أن ريتشاردز اعتمد على الارتجال في طريقة دخوله، فكان يفتح الباب بطريقة مضحكة ومختلفة في كل مرة. وكان الأمر على درجة من الإبهار دفعت الجمهور -الذي يحضر التصوير بالأستديو- إلى التصفيق لريتشاردز في كل مرة يدخل فيها إلى شقة ساينفيلد، حتى وإن تكرر الأمر أكثر من مرة في نفس الحلقة. وهو الأمر الذي أدى لاستياء باقي أبطال المسلسل، الأمر الذي دفع منتجيه إلى نهي الجمهور عن تكرار هذا الفعل.


(4)

جاءت هذه الجملة في إحدى حلقات البرنامج التلفزيوني «Laughing Matters» الذي قام بتقديمه الممثل البريطاني «روان أتكنسون»، والذي يقوم فيه بشرح مبسط وجميل لمفهوم «كوميديا الصورة». يمكنكم مشاهدة جميع الحلقات في الفيديو التالي:

ويمكننا سحب التعريف السابق لأتكنسون على الكوميديا الجسدية، حيث إن هذا النوع من الكوميديا ﻻ يعتمد على قيام الممثل بحركات بهلوانية تثير الضحك، ولكنه يقوم بأفعال عادية نمارسها في يومنا العادي، ولكن بطريقة مضحكة، وبشكل يتسق مع الشخصية التي يقوم بتأديتها. وهذا تحديدًا ما فعله ريتشاردز في شخصية كريمر.كريمر هو شخص عفوي، ﻻ يستهلك الوقت في التفكير قبل الإقدام على فعل ما. في إحدى حلقات الموسم الثالث، يذهب كريمر إلى المول لابتياع مكيف للهواء، وتدور الحلقة بأكملها حول محاولة الأبطال الأربعة البحث عن سيارة كريمر في مرآب المول الكبير. بنهاية الحلقة، وبعد العثور على السيارة، يحاول كريمر وضع المكيف في خلفية السيارة التي تتسع بالكاد لدخول هذا الصندوق الكبير والثقيل، ولكن لأنه كريمر، فيحاول أن يلقي الصندوق في السيارة على مرة واحدة.

يقول «جيري ساينفيلد» في مقابلة تلفزيونية ﻻحقة، إن النسخة الأصلية من سيناريو الحلقة لم تتضمن هذا المشهد، وأن ريتشاردز هو من ارتجله على هذا النحو، حتى أنه أصيب في أول محاولة لإدخال الصندوق بالسيارة. بالطبع توقف التصوير بعد هذه المحاولة، وعلت ضحكات طاقم العمل، لكن ريتشاردز لم يخرج عن تقمصه لشخصية كريمر، وواجه زميلته «جوليا لوي درايفوس» (قامت بأداء شخصية إيلين)، بينما الدم ينزف من فمه، بقوله: «علام تضحكين يا إيلين؟»عندما يثور الحديث عن التمثيل المنهجي، عادة ما يتبادر إلى الذهن ممثلين مثل؛ «مارلون براندو»، أو «آل باتشينو»، أو «دانيال داي لويس». ولكن هذا المشهد، وأشباهه الكثير في مسلسل ساينفيلد، درس كبير في التمثيل المنهجي من ممثل كوميدي.


(5)

هذا عن كوميديا الشخصية، وليس كوميديا النكتة، والتي ﻻ تعتمد على فعل أشياء مضحكة، ولكن تعتمد على فعل أشياء عادية بطريقة مضحكة.

أثناء هرولته للخروج من المستشفى، وهو ما يزال تحت تأثير المخدر بعد إجرائه لعملية جراحية كبيرة، يصطدم اللمبي (قام بدوره محمد سعد) بأحد الأبواب بشكل عنيف ومثير للضحك.عادة ما يتبادر إلى ذهني هذا المشهد من فيلم «اللي بالي بالك» حينما يأتي الحديث عن الكوميديا الجسدية. محمد سعد الذي بدأ رحلته الفنية بداية مبشرة، اعتمد فيها بالأساس على تأدية مشاهد الكوميديا الجسدية، فقد هذا الكنز الثمين نظرًا لميله لاستنزاف هذا النوع من الكوميديا، والمبالغة في تكرار تنويعات مختلفة لنفس الشخصية (اللمبي)، إلى الحد الذي أفرغها من مضمونها، وتحولت من إثارتها للضحك، إلى إثارتها للشفقة على موهبة صاحبها الضائعة.

وعلي الرغم من تميز السينما المصرية في نوع الأفلام الكوميدية منذ بدايتها المبكرة، إﻻ أنها فقدت الكثير من ثرائها خلال العقود الأخيرة، واستغنت عن مختلف أنواع الكوميديا، من كوميديا الصورة، إلى كوميديا الموقف، إلى الكوميديا الجسدية، واستبدلتها بالكوميديا اللفظية، أو كوميديا النكتة.وبدون أي رغبة في استدعاء مشاعر النوستالجيا، فقد حظت السينما المصرية في عصرها الذهبي بالعديد من ممثلي الكوميديا الذين اعتمدوا على هذه الأنواع المختلفة من الكوميديا، وخاصة الكوميديا الجسدية. ويكفي أن نتذكر إسماعيل يس، وفؤاد المهندس، وحتى محمد صبحي في بعض أعماله. ومن المؤسف أن ينتهي بنا الأمر إلى هذا المنتج الباهت والخالي من أي كوميديا، سواء بمفهومها السطحي الذي يختزلها في الترفيه والتسلية، أو بمفهومها الفني الأعمق. ولم يتبق لنا سوى أعمال «رامز جلال» وأشباهه، والتي يقال لها -تجاوزًا- كوميديا.