في المقال الأول من السلسلة تناولنا مفهوم المنتظر الموعود في عدد من الأديان المشرقية والأساطير الغربية، وفي المقال الثاني سلطنا الضوء على مفهوم المهدي المنتظر في الدين الإسلامي على وجه الخصوص، حيث رأينا جدلية النزاع على ادعاء صفة المهدية بين أصحاب السلطة والحكم من جهة، وأعدائهم من الثوار وطالبي الملك من جهة أخرى.

في هذه المقالة والتي تليها سوف نعرض لنموذجين مهمين، يمثلان نسَقين مختلفينِ لفكرة المهدي المنتظر، وهما محمد بن الحسن العسكري مهدي الشيعة الإثناعشرية، ومحمد بن تومرت مهدي الموحدين.


التحدي والاستجابة

تُعتبر نظرية التحدي والاستجابة للمؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي (1899-1975م) من أهم النظريات المفسِّرة لحركة التاريخ الإنساني، حيث اعتقدَ توينبي أن التاريخ الإنساني هو نتاج لفعلين متناقضين، وهما «التحدي» الذي يطرأُ على جماعة أو فئة أو مجتمع معين من قبل جهة خارجة ومنفصلة عنه، مما ينتج عنه بالضرورة (استجابة) تنشأ كرد فعل تلقائي، وما بين الفعل ورد الفعل تظهر إلى الوجود أشكال مختلفة من النشاط البشري، الذي يتم استثماره بشكل أو بآخر في سبيل صناعة الحضارة والعمران.

وقد قسم توينبي أنواع الاستجابة، إلى نوعين أساسيين متمايزين، النوع الأول، وهو ما أطلق عليه اسم «الاستجابة الانطوائية»، وفيها يقتصر رد الفعل على الانكماش على الذات والرجوع للماضي والقبول بالأمر الواقع، أما النوع الثاني فهو ما أطلق عليه اسم «الاستجابة الانبساطية»، وفيها يكون رد الفعل إيجابيًا، فيتم الاعتراف بالأمر الواقع، والعمل بعدها على تغييره وتعديله بكل وسيلة ممكنة.

ربما كان لابد من هذه المقدمة؛ لتوضيح أسباب اختيارنا النموذجين اللذين سنعرض لهما، فالنموذج الأول الذي نتعرض له هنا، هو نموذج تتجلى فيه شكل «الاستجابة الانطوائية»، بينما يجسد النموذج الثاني مثالًا ممتازًا لتجلي «الاستجابة الانبساطية».


خلفية تاريخية

ظل الشيعة الإمامية الإثناعشرية منذ بداية نشأتهم كطائفة وفرقة متمايزة عن باقي طوائف وفرق الشيعة الأخرى يروّجون لفكرة الإمامة باعتبارها امتدادًا روحيًا للنبوة والرسالة التي انتهت إلى الأبد بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم [1]، حيث اعتقدوا أن سلطة الرسول قد انتقلت بتمامها وكليتها لابن عمه علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – الذي نقلها عند وفاته لابنه الحسن، لينقلها بدوره إلى أخيه الحسين، وهو الذي انحصر الأئمة في عقبِه وحده، فقد تولى ثمانية من أبنائه تلك المكانة الروحية العظيمة التي تضمن لصاحبها السلطة المطلقة على عقول وقلوب أتباعه ومناصريه.

ومنذ فترة مبكرة من ظهور الشيعة الإمامية على الساحتين الفكرية والسياسية في الإسلام، تم التسويق والترويج لفكرة معينة مرتبطة بمسألة الإمامة، ألا وهي أن عدد الأئمة هو اثنا عشر إمامًا، واعتقد بذلك أغلب الشيعة الإمامية، بحيث عُرفوا باسم «الإمامية الإثناعشرية» للتمييز بينهم وبين غيرهم من الشيعة، الذين وإن كانوا قد اعتقدوا بأفكار الإمامة نفسها، لكنهم في لحظة تاريخية معينة اختاروا أن يتبعوا خطًا قياديًا مختلفًا فنُسبوا إليه، وعُرفوا بالإسماعيلية.

حاول الإثناعشرية – قدر جهدهم – أن يثبتوا عدد الأئمة الاثني عشر بكل وسيلة ممكنة، فاستندوا لبعض الأحاديث النبوية التي وردت في كتب أهل السنة [2]، كما استشهدوا بعدد أسباط بني إسرائيل، وإلى غير ذلك من الروايات والقصص التي تتضمن مجموعة من الرموز المبطنة، والتي تُعطي قدسية خاصة لرقم اثني عشر.

محاولة الإثناعشرية الأوائل للتأكيد على عدد أئمتهم الاثني عشر، جاءت وفق سياق فكري جمعي يعتقد بقرب ودنو البشرية من لحظة قيام الساعة ويوم القيامة وانتهاء الحياة من الأرض، ولم يشذوا في ذلك عن غيرهم من الفرق والجماعات المحيطة بهم، فالكثير من الروايات التاريخية تذكر لنا أن العقل الجمعي للمسلمين في القرون الأولى على وجه الخصوص، كان يؤمن بقرب ساعة النهاية.

المشكلة التي لم يلتفت إليها الإثناعشرية أن عجلة الحياة قد دارت على نهجها الطبيعي، فتعاقبت الأجيال، وفي كل جيل كان يظهر إمام جديد يُكمل الخط الفكري والعقائدي الذي ابتدأه أسلافه وأجداده، حتى حل عام 260هـ.

ففي ذلك العام توفي الإمام الحادي عشر الحسن العسكري [3]، ووقعَ العقل الشيعي في مأزق عندما وجد الإمامية أنفسهم بلا إمام جديد.

فأغلب الروايات التاريخية تذكر أن الحسن قد مات دون وريث، وأنه قد قُسم ماله بعد موته بين أخيه جعفر وأمه، بينما ترفضُ الروايات الشيعية ذلك الأمر، وتؤكد أن له ابنًا اسمه محمد، وأن الحسن قد أخفى ابنه عن أعين الناس بهدف حمايته من بطش الخلفاء العباسيين المتربصين، وحرصًا على سلامته من كيدهم وغدرهم.

والحقيقة أن المعلومات التاريخية المتوافرة لدينا لا تتيح لنا فرصة تأكيد الوجود التاريخي لمحمد بن الحسن العسكري من عدمه، وإنما ما يهمنا في هذا المقام أن نبين الخلفية التاريخية التي سبقت ظهور فكرة المهدية بشكلها «الشيعي الإمامي الإثناعشري».


الغيبة والمظلومية والرجعة

حاول الإثناعشرية أن يثبتوا عدد الأئمة الاثني عشر، فاستندوا لبعض الأحاديث النبوية التي وردت في كتب أهل السنة، كما استشهدوا بعدد أسباط بني إسرائيل

نستطيع أن نلاحظ عددًا من المكونات والعناصر الرئيسة التي دخلت في تشكيل فكرة المهدي عند الإمامية، بحيث أفرز تداخل تلك العناصر مع بعضها البعض، نتاجًا فكريًا جديدًا، وهو نموذج «المهدي الغائب»، الذي يختلف بشكل تام وكامل مع أي نموذج سابق أو لاحق له.

على أنه حين ظهرت مشكلة وفاة الإمام الحادي عشر خرجت إلى الوجود فكرة تعتقد بأن ابنه قد هرب من السلطات العباسية المتعقّبة له، وأنه قد اختفى في مكان لا يعرفه أحد، وتم الاتصال بين المهدي وأتباعه المخلصين، عن طريق عدد من الوكلاء، الذين ادعوا أن الإمام قد أوكلَ إليهم وحدهم أن يكونوا همزة الوصل بينه وبين شيعته.

فكرة الغيبة لم تكن بالفكرة الجديدة في الفكر الشيعي، إذ سبقها الكثير من الأفكار الشبيهة في العهود السابقة، بدءًا بالاعتقاد بغيبة علي بن أبي طالب ونهايةً بغيبة جعفر الصادق

وفي الفترة الممتدة (260-329هـ) تعاقب أربعة وكلاء، زعم كل منهم أنه يلتقي بالمهدي فيشاهده ويسمع منه وينقل تعليماته ويتصرف عن أمره، وفي 329هـ حدث تطور لافت، عندما أعلن الوكيل الرابع علي بن محمد السمري أن المهدي قد أخبره بقرب ساعة وفاته، وأنه سيدخل في مرحلة جديدة من الغياب، تلك المرحلة التي ستشهد انقطاعًا تامًا بينه وبين الشيعة، وأن تلك المرحلة سوف تستمر حتى يأذن الله تعالى، فيخرج المهدي، ويعلن إمامته ومهديته، فيتبعه المؤمنون ويدخلوا في معارك متواصلة مع قوى الشر، حتى تتحقق العدالة على الأرض.

وتعرف الفترة الأولى من الغيبة، والممتدة (260-329هـ) باسم «الغيبة الصغرى»، أما الفترة الثانية، والتي بدأت منذ 329هـ وما تزال مستمرة حتى عصرنا هذا، فتعرف باسم «الغيبة الكبرى».

وينبغي ملاحظة أن فكرة الغيبة لم تكن بالفكرة الجديدة في الفكر الشيعي، إذ سبقها الكثير من الأفكار الشبيهة في العهود السابقة، بدءًا بالاعتقاد بغيبة علي بن أبي طالب ونهايةً بغيبة جعفر الصادق مرورًا بغيبة ابن الحنفية وغيره من الشخصيات المهمة عند الشيعة، ولكن «غيبة المهدي» تم التنظير لها بشكل مختلف، بحيث تمت مراعاة النصوص الضابطة والحاكمة لمسألة المهدية، وتم وضع وتأويل بعض النصوص الأخرى، بهدف الاتساق والمواءمة مع فكرة الغيبة، كما تم تأطير تلك الفكرة داخل السياق العقائدي الشيعي الجمعي.

ومن المهم أيضًا أن نلاحظ أن فكرة غيبة المهدي كانت فكرة متماشية مع انفضاض الشيعة الإمامية عن السياسة، ورفضهم للتدخل في مسائل السلطة؛ فالشيعة الإمامية والذين اتخذوا مسلكًا مسايرًا للدول التي يعيشون في أراضيها، حاولوا قدر جهدهم أن يبتعدوا عن العنف والثورة والخروج على السلطة، فكانت ثورة الحسين ومقتله في كربلاء عام 61هـ، حدثًا مفصليًا بين فترتين متمايزتين في التاريخ الإمامي، الفترة الأولى شهدت اهتمامًا كبيرًا واسعًا مِن قِبل الأئمة الثلاث الأوائل بالسياسة، أما الفترة الثانية فقد تميّزت ببُعد الأئمة عن الشأن السياسيّ عموماً، وما يرتبط به من ثورات وحركات وانقلابات.

فكرة المهدية عند الإثناعشرية ظهرت في الأصل لتبرير ظرف تاريخي معين؛ يتمثّل في عدم وجود إمام مؤهّل لتولي منصب الإمامة.

وقد ظلَّ الانفصام بين المجالين الفكري العقائدي من جهة، والسياسي من جهة أخرى، السمةَ السائدة للمذهب الشيعي الإمامي، على مدى ما يقربُ من قرنين من الزمان (61-260هـ)، ولما كان منصب الإمام، في الأساس منصبًا دينيًا-سياسيًا، فقد عمل الأئمة وتلاميذهم على إذكاء شعور المظلومية، وترجموا ذلك من خلال اعتقادهم بأنه سيأتي اليوم الذي تشهد فيه الأرض القصاص الحق من هؤلاء الذين ظلموا الأئمة وغصبوهم حقهم وقتلوا بعضهم.

فكرة القصاص إذًا ارتبطت بالتبعية بفكرة «المهدي المنتظر» الذي سينتصر للحق ويقيم العدل ويمحق الظلم والجور. ولما كان القصاص يجب أن يحدث في الدنيا قبل الأخرة؛ فقد ظهرت فكرة أخرى مرتبطة، ألا وهي فكرة «الرجعة» التي يؤمن أصحابها من الشيعة الإمامية بأن الله عز وجل سوف يُعيد أقوامًا إلى الدنيا بعد موتهم، فيعزّ فريقًا منهم وينتصف لهم، بينما يذل فريقًا آخر ويقتص منه [4]، فالمهدي هو الذي سيشرف بنفسه على تحقيق هذا القصاص العادل القادم!

نستطيع القول إن فكرة المهدية عند الإثناعشرية قد ظهرت في الأصل لتبرير ظرف تاريخي معين؛ يتمثّل في عدم وجود إمام مؤهّل لتولي منصب الإمامة، ولكن تلك الفكرة –المهدية- سَرعان ما احتواها العقل الشيعيُّ الجمعي، فتماشى معها، وخضع لها، وضمَّها إلى أُسُسِه الأصيلة، بسبب كونها قد تماشَت مع جو المظلومية، والاعتقاد بالقصاص النهائي في أخر الزمان.

وما بين التبرير للأمر الواقع من جهة، والتماشي معه من جهة أخرى، يمكن القول: إن محمد بن الحسن العسكري «مهدي الشيعة الإثناعشرية» هو النموذج الأكثر اتساقاً مع فكرة توينبي عن الاستجابة الانطوائية للتحدي.


[1] الصدوق، الاعتقادات، ص93.[2] على سبيل المثال: البخاري (رقم/7222) ومسلم (رقم/1821).[3] محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي، ص199.[4] الصدوق، الاعتقادات، ص60؛ محمد رضا المظفر، عقائد الإمامية، ص70.