التاريخ يعيدُ نفسه. لقد تعبَ التاريخ ومؤيدو تلك العبارة، ورافضوها، من تكرار الاستشهاد بها في مواطن عديدة من سلاسل تاريخ الأمم وتقلُّباتها، لكنَّ العبارة نفسَها لا تتعب، وتحمل الجميع حملًا على الاستشهاد بها، فالبعضُ يحاولون إعادة تجسيد تاريخ قد مضى، وآخرون يحاولون ألا يدوسَ التاريخ وجودَهم وكيانَهم بينما هو منهمكٌ في إعادة نفسه كما اعتاد. والآن نعود إلى عنوان هذا المقال.

غزة.. أكتب هذه السطور الآن في نهاية أسبوعٍ حافل كانت صواريخ المقاومة تنطلقُ فيه حقيقةً لا مجازًا من أحشاء غزة المُحاصَرة إلى عنان السماء، لتحاصرَ أقوى دولةٍ في الشرق الأوسط في الغُرَف المحصنة، وزنازين الرعب في الصدور، كرد على محاولة الكيان الغاشم تسريع مخططات تهويد القدس عبر نزع الأحياء العربية الحيوية فيها مثل حي الشيخ جرَّاح، وزرع المستوطنين داخلها، وهم رأس حربة الكيان في التمدد السرطاني والتهام ما بقي من فلسطين التاريخية.

أما الموريسكيون، فهو الوصف الذي حمله مسلمو الأندلس بعد سقوطها في قبضة الإسبان الذين لم يدَّخروا جهدًا على مدى أكثر من  120 سنة، بين عامي 1492م (897هـ) و 1614م (1023هـ)  إلى أن نجحوا بسقف مفتوح من التعصب والإجرام، في انتزاع 8 قرون أندلسية فريدة من كتاب التاريخ، وذوَّبوا الملايين من المسلمين الأندلسيين عربًا وبربرًا ومُولَّدين، أحفاد من كتبوا ذلك التاريخ، بين قتيلٍ غادر العالم بما فيه، ولاجئ انغمس في منفاه، ومهزوم مُدجَّن فمتحول. وبذلك تبخرت القضية الأندلسية من كل وجدان ووجود، إلا من ذاكرة متأخرين أمثالنا يضربون بها المثل فيما يجب تجنب حدوثه مهما كان الثمن من الملاحم والآلام.

وليس المقصودُ من عنوان المقال هو الانتقاص من الموريسكيين وملاحمِهم ومأساتهم الكبرى، إنما محاولة الانتصار لهم بعد قرونٍ من مأساتهم، وذلك باستيعاب دروس تلك الملحمة المؤلمة، فنتمكَّن من تجنب تكرار وقوعها، لا سيَّما في أكثر مكان مرشح – أو كان مرشحًا – لهذا التكرار الأليم، وهو فلسطين.

الأندلس بعد السقوط: ثورات فاشلة، وتذويب، وتهجير

المتتبع لما فعلته إسبانيا للتخلص من الوجود الإسلامي الأندلسي شخوصًا ومعنى، سيشعر وكأنَّ الكيان الصهيوني في خلال المائة السنة الماضية قد قرأ تاريخ النموذج الإسباني الاستئصالي، واستلهمه رغم اختلاف الوقائع.

قصة سقوط الأندلس واندثارها لا تقتصر على القرن والربع التاليين لسقوط آخر معاقل الأندلس، غرناطة، عام 1492م (897 هـ)، بل بدأت قبل هذا التاريخ بأكثر من 4 قرون، عندما سقطت الدولة المركزية في الأندلس ودخلت الجزيرة في عصر ملوك الطوائف، وانقسمت على نفسها إلى  أكثر من 22 دويلة متناحرة، ما مكَّن المسيحيين المتمركزين في الشمال من الانسياح جنوبًا بالحرب وبالسياسة، حتى نجح ألفونسو السادس ملك قشتالة عام 1085م (478هـ) في انتزاع طليطلة، أولى الحواضر الكبرى سقوطًا. 

في 150 عامًا تالية خضعت الأندلس لحكم دولتي المرابطين ثم الموحدين المغاربيَّتيْن، لتحتميَ بجيوشهما ضد خصومها بعد أن فقدت المبادرة الذاتية. ورغم نجاح المغاربة في تأخير سقوط الأندلس لعقود، فقد شهد النصف الأول من القرن السابع الهجري تداعيَ دولة الموحدين، لينجح المسيحيون في انتزاع قواعد الأندلس الكبرى، قرطبة فبلنسيَة (فالنسيا) وإشبيلية وجيَّان … إلخ.

تقلَّص الوجود الإسلامي في دولة بني نصر في غرناطة أقصى الجنوب، والتي نجحت في الدفاع عن نفسها بحبلٍ من استغلال كبوات العدو، وحبلٍ من الدعم المغاربي لحوالي 250 عامًا، حتى حدث تطور سياسيٌّ تاريخي في الربع الأخير من القرن الخامس عشر الميلاي (التاسع الهجري) بتوحُّد مملكتيْ قشتالة وأراجون بزواج الملكيْن الكاثوليكيَّيْن المتعصبيْن إيزابيلا وفرناندو، لتتكون بذرة إسبانيا العظمى التي ستظل القوة الأوروبية الأبرز لحوالي قرنٍ من الزمان.

 كانت أولويَّتهما الأولى هي افتتاح حصن الحمراء المنيع الذي يحمي غرناطة، وإتمام حرب الاسترداد المسيحية، ونجحا في استغلال صراعات الحكم في بلاط غرناطة، وما أحدثته بها من وهَن، وفرضا الحصار الأخير على غرناطة، والذي رغم الدفاع الأسطوري من مئات المقاتلين المسلمين، آل إلى تسليم غرناطة، مقابل ضمان أمن وسلامة أهلها وحريتهم الدينية الكاملة، وهو ما لن يصدقَ فيه الملكان المتعصِّبان إلا بضع سنوات، لا سيَّما وأن الكنيسة كان لها نفوذ هائل في إسبانيا، فضغطت كثيرًا على حكام إسبانيا أن يُخيِّروا رعاياهم المسلمين بين التنصر أو الرحيل. 

اقرأ: مراثي الأندلس .. ملاحم الشجن الخالد.

يمكن تلخيص خطة الفناء الأندلسي في تلك النقاط السريعة المتتالية زمنيًّا (أبدعت الكاتبة الراحلة رضوى عاشور في عرض تلك المأساة كاملة بشكلٍ قصصي متميز في روايتها الشهيرة « ثلاثية غرناطة»).

  • في الشهور الأولى، باع الكثير من  أهل الأندلس خصوصًا أغنياءَها ممتلكاتهم إلى الإسبان، ورحل الآلاف طواعيةً إلى المغرب الإسلامي، حتى لا يعيشوا تحت حُكمٍ مسيحيٍّ متعصب، ولم يعرفوا أن المد الإسباني سيلاحقهم في العقود التالية عندما يحتل معظم الساحل الغربي الجنوبي للمتوسط.
  • حاولت الكنيسة والقساوسة في السنوات الأولى استخدام التبشير بالوعظ والترغيب المادي بخفض الضرائب، لمن بقي في الأندلس من المسلمين واليهود، وللأسف استجاب قلة من الأعيان والأمراء وتنصَّروا.
  • عندما فشل الترغيب بشكلٍ ذريع، جاء أوان الترهيب عام 1498م. وكانت البداية بإغلاق المساجد، وتحويل كبارها إلى كنائس، ومنع دروس الدين الإسلامي، ودعوة الفقهاء إلى التنصُّر بالوعد والوعيد، لينقاد خلفهم العامة.
  • بأمر أسقف طليطلة، جُمعت الآلاف من المصاحف والكتب العربية من جميع المجالات وأُمر بحرقها في الميادين، واستمرَّت الحرب على المؤلَّفات العربية سنين، وأُنزلَت عقوبات صارمة بمن يُعثَر بحوزته عليها. وحُظرت كل الأعياد والطقوس ذات الصلة بالإسلام.
  • اشتدَّت عمليات التنصير الفردي والجماعي منذ عام 1500م، واضطر عشرات الآلاف إلى التظاهر بالاستجابة لتجنب الموت والتعذيب.
  • قوبلت ثورات المسلمين في غرناطة، وجبال البشرات، وبلنسية وغيرها، بعنفٍ شديد رادع، وحُسمَت لصالح الإسبان للفارق الكبير في التسليح والتدريب العسكري. أما الثوار الأكثر صلابة ومقاومة، فقد عُرِض عليهم تسهيل خروجهم إلى المغرب الإسلامي. وقد اتصفت معظم تلك الثورات بالعفويَّة وسوء التنظيم والإعداد.
  • التشديد في منع السلاح بكل أنواعه من الوصول للموريسكيين، حتى السكاكين.
  • أُحرِقَ الآلاف بأمر محاكم التفتيش الكنسية، بتهم الإلحاد وفساد العقيدة، وممارسة الشعائر الدينية القديمة سرًّا، أو إلقاء الشعر العربي … إلخ.
  • استكملت عملية المحو الثقافي بحظر الأزياء واللغة العربية، ومنع استخدام الحمامات العامة، وإخضاب اليد بالحناء، والأمر بفتح أبواب البيوت أيام الجمع والأعياد الإسلامية للتأكد من عدم ممارسة الطقوس الإسلامية سرًّا. والإلزام بتعلم اللغة الإسبانية، وارتداء الملابس الإسبانية، والتسمي بأسماءٍ غير عربية. واشتدت تلك الإجراءات منذ عام 1567م.
  • أرسل الإسبان رُسلًا إلى السلطان المملوكي في القاهرة نجحوا في إقناعه أن المسلمين في إسبانيا يُعاملون جيدًا، وذلك بعض أن راسله بعض الموريسكيين يستنجدونه.
  • وجود الدولة العثمانية كإمبراطورية إسلامية كبرى في النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي، ونجاحها بعد معارك بحرية وبريةٍ طاحنة في تحرير أجزاءٍ من ساحل المتوسط من الاحتلال الإسباني والصليبي كطرابلس 1551م وتونس 1574م، والجزائر قبلهما، قد عادلَ تأثيرَه العلو الإسباني الكبير لا سيَّما في دولة الإمبراطور الكاثوليكي المتعصب شارل الخامس 1516م – 1556م، الذي هيمن على جُلِّ أوروبا الغربية والوُسطى، كما تفوَّقت الأساطيل الإسبانية والأوروبية على العثمانية لا سيَّما في الحوض الغربي للبحر المتوسط الذي تطل عليه الأندلس الذاهبة بحزنٍ مقيم.
  • فوجئ الإسبان بالثورة الكبرى التي اندلعت عام 1569م وقادها أمير موريسكي أموي الأصل اسمه محمد بن أمية، والتي شملت معظم أراضي مملكة غرناطة، إلا أنها فشلت نظرًا للصراعات بين قادة الثورة، إذ قتل بعضهم بعضًا، إلى جانب القمع الإجرامي الشديد من القوات الإسبانية. وقد أمر دون خوان أخو ملك إسبانيا بتهجير الموريسكيين من غرناطة تحديدًا – والذين تعاطف الكثيرون منهم مع الثورة – إلى أنحاء متفرقة في إسبانيا لتشتيت قوتهم.
  • بدأ  الفصل الأخير  سبتمبر عام 1609م (1018 هـ)، بصدور مرسوم التهجير النهائي لمن بقي من الموريسكيين رغم تنصُّرهم، حيث توجَّست منهم السلطات لتنامي ثرواتهم، وزيادة أعدادهم – حوالي 300 ألف – واتهام بعضهم بممارسة طقوس الإسلام سرًّا، ومحاولة التواصل مع الدول الإسلامية الأخرى. وقد  اكتملت آخر حلقات الطرد بعد 5 أعوام (عدد سكان مملكة غرناطة الإسلامية قبل سقوطها كان يقدَّر بـ 4 ملايين). 

والآن بعد 4 قرون من هذا التهجير اللاإنساني يسكن في دولة إسبانيا المعاصرة أكثر من 46 مليون إسباني، وليس هناك أي وجود سكاني يُذكَر لأحفاد الموريسكيين. وفي خطوة يمكن اعتبارها استفزازًا تاريخيًّا سنَّ البرلمان الإسباني قانونًا عام 2015 يسمح لأحفاد اليهود الذين طُردوا من الأندلس قبل 5 قرون (كان هؤلاء اليهود المطرودون بين 40 و100 ألف) أن يعودوا إلى إسبانيا كوطنٍ لهم. ماذا عن أحفاد مئات الآلاف من الأندلسيين المسلمين؟

اقرأ: الأندلس في مرآة الشعر .. شذرات من رحلة الصعود والهبوط.

والآن ننتقل إلى غزة المأزومة، والتي رغم ذلك تمتلك المفتاح الأبرز لئلا تكون فلسطين أندلس الشرق الذاهبة.

غزة: سلاحٌ وأجساد

كل شبرٍ في فلسطين عزيزٌ، والقدس وأقصاها هما المبدأُ والمُنتهى. لكن في العِقدَيْن الأخيريْن أصبحت غزة المُحرَّرة هي عاصمة الوجود الفلسطيني، حيث الوجودُ هنا هو نقيض العدم والفناء. وأصبحت بطنُ أرضها حقيقةً لا مجازًا حبلى بالورقة الأهم في تجنب مصير الفناء الأندلسي، وهي سلاح المقاومة الرابض في المواقع والمخازن والأنفاق في رحابة أعماق أرض القطاع الضيق المُحاصَر.

https://twitter.com/awni_inwa/status/13957

بعد الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من غزة عام 2005م، والذي شمل سحب الجنود والمستوطنين، مع الإبقاء على حصارٍ جويٍّ وبحري، أصبح قطاع غزة، ومساحته 366 كم مربعًا، أرضًا محررَّة رغم حصارها، لا سيَّما بعد ما عُرف بالحسم العسكري في يونيو 2007م، حيث استولت حركة حماس المنتخبة عام 2006م على القطاع بعد صداماتٍ مع السلطة التي ترفض الانصياع للحركة. ورغم تشديد الحصار على القطاع بعد هذا الحسم، فإنه أتاح حرية كبيرة لحماس والجهاد وغيرها من التنظيمات أن تراكم قوتها العسكرية، لتتحول غزة رغم الألم والصعوبات إلى قاعدة عسكرية كبيرة تحوطها حاضنة شعبية تضم ما يقارب مليوني إنسان، متكدسين في مساحة ضيقة تجعل القطاع من أعلى الكثافات السكانية في العالم، مما يجعل منهم غطاءً سكانيًّا فعالًا. وتلك النقطة الأولى في معركة دفع مصير الفناء .. سلاحٌ وقرار شبه مستقل، وحاضنة شعبية.

وتخبرنا الإحصاءات أن أكثر من 63% من سكان قطاع غزة تحت سن 24 عامًا، وحوالي 50% في سن العطاء، من 16 حتى 54 عامًا، وهذه النسب تعني أنه لا عجب أن نجحت غزة – وإن بثمنٍ فادح – في الصمود أمام 4 هجمات إسرائيلية كبرى (2008م – 2012م – 2014م – 2021م) اشتمل اثنتان منها على اجتياحٍ بريٍّ كبير فشل في احتلال غزة، بعكس ما فعلت إسرائيل في حرب 1967، عندما اجتاحت غزة والضفة والقدس وسيناء والجولان، وهزمت 3 جيوش عربية نظامية كبرى، وفي لبنان 1982م، عندما  احتلت نصف لبنان حتى بيروت، وهزمت جيوش منظمة التحرير الفلسطينية، وحلفاءها من القوى الثورية والاشتراكية، والقوات السورية في البقاع.

اقرأ: بيروت 1982: حين استجدى «الإسرائيليون» الانسحاب

اقرأ: بشير الجميل و50 كجم TNT غيرت الشرق الأوسط

اقرأ: الجيش العربي السوري .. تاريخ العار لحماة الديار.

وفي السنوات الأخيرة خلقت المقاومة لنفسها غزةً أخرى في أعماق الأرض، عبر شبكة معقدة من الأنفاق، تجلَّت كفاءتها في تلك الحرب الأخيرة، إذ بمجرد انتهاء الغارات الليلة المكثفة التي تدك المناطق المفتوحة التي يتوقع العدو وجود الأنفاق أسفلها، تبدأ رشقات الصواريخ في الانطلاق من قلب الأرض. 

إذًا، فعكس مسار تاريخ الموريسكيين المنحدر، فإن إمكانات المقاومة والتمرد وحفظ الوجود، وعلى رأسها القوة العسكرية لغزة، تتصاعد من حربٍ إلى التي تليها رغم مصاعب الحصار، وكذلك قدرتها على إيلام عدوها وتوسيع دائرة استهدافه، فشهِدنا في حرب 2021 تغطية صواريخ غزة لمعظم أراضي فلسطين المحتلة من حيفا شمالًا إلى قرب إيلات جنوبًا.

وثقافيًّا، يحافظ معظم أهل غزة على ثقافة عربية إسلامية متفجرة بالمقاومة والتمرد على ما يفرضه العدو، وكان لمشهد أذان الفجر يدوي من مآذن غزة خلال الحرب الأخيرة، فيعلو صوته على أصوات القصف الإسرائيلي الليلي المرعب، رمزيةً ثقافية ومعنويةٍ كبرى.

كذلك فقد تسبَّبت مبادرة مقاومة غزة بالتدخل هذه المرة دعمًا للقدس، في التفاف عموم فلسطين وفيهم فلسطينيو الداخل حول المقاومة، حتى احتفل بعض هؤلاء بسقوط الصواريخ قرب بيوتهم، أكدت هذه الوحدة وإن كانت مؤقتة، أن مشاريع التدجين والتذويب لا سيَّما لفلسطينيي الداخل والضفة، ليست بالسهولة التي يتصورها العدو.

وختامًا، فإن كل رصاصة، وقذيفة، وصاروخ، وآية قرآنية، وركعة، وسجدة، وبيت شعر، وحجر، وكوفية، وزيجة، وولادة، ورقصة شعبية، وأكلة محلية، وزي تقليدي، وجلسة تأهيلٍ نفسي، ولبس عيد، وضحكة تحت القصف، وعلامة نصر تحت الركام، وسلعة مهربة في الأنفاق في غزة، تبعدها وتُبعد فلسطين كلها عن مآسي الاستئصال والفناء البطيء.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.