يبدو العالم الذي يرسمه الروائي البيروفي «سانتياغو رونكاغليلو» في روايته «أشد ألم»، شديد القرب والشبه بكثيرٍ من أحداث العالم الثالث، إذ تتشابه الظروف السياسية والسيطرة العسكرية التي عاشت فيها «بيرو» وجارتها «الأرجنتين» مع كثيرٍ مما يحدث في دول الشرق الأوسط، وما يدور داخل أنظمتها العسكرية الشمولية من قمعٍ وظلمٍ وتسلط.

في الرواية الصادرة حديثًا عن دار مسعى بترجمة عربيةٍ متقنة للكاتب والمترجم محمد الفولي، نحن أمام شخصية الموظف البسيط «مساعد الأرشيف» الذي يعمل في وزارة العدل ويقوده حظه السيئ وعدد من مصادفات الحياة العابرة إلى التورط في علاقات بكبار المسؤولين، بل والكشف عمن كان يظن أنهم عملاء وخونة يعملون ضد مصلحة الوطن العليا، مما يغير حياته ويحولها رأسا على عقب.


لا نجاة في ظل القمع

تبدو خطب السياسيين واحدة، تختلف الأزمنة والأماكن، من الشرق للغرب ومن دول العالم الثالث إلى دول العالم الأول المتحضر، ولكن تبدو السياسات متشابهة، ويبدو القمع واحدًا أيضًا. هكذا ينقل «سانتياغو» القارئ إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية الصعبة والمعقدة التي كان يعيشها الناس في ذلك الوقت، والتي تعكس قدرًا كبيرًا من تغول السلطة وقمعها، وكيف أصبح القتل والاعتقال على أبسط الأسباب من أيسر وسائل السلطة للحصول على ما تريد.

نتعرّف في الرواية على عائلة «فليليكس تشاكالتانا» ذلك الموظف الذي يحيا حياة بسيطة، بلا آمالٍ عريضة ولا أحلام أكبر من أن يحصل على رضا حبيبته الصحفية «سيسيليا» التي يقف بينه وبينها تلك العقبات المعتادة في البداية من شخصٍ بسيط، ولكنها لا تلبث أن تتعقد مع تلك الأحداث الغريبة التي يمر بها. كما نتعرّف على صديقه «خواكين» الذي يفاجأ بمقتله ويسعى لمعرفة قاتله، مما يورطه في سلسلة من المواقف والأحداث ويعرفه على الكثير من الأمور التي لم يكن يعرف شيئًا عنها. كما نتعرف على مديره غير المبالي الذي يتابع مباريات كرة القدم بتركيز واهتمام متجاهلاً كل المهام الرسمية التي يتوجب عليه القيام بها.

اقرأ أيضًا:حكاية عامل غرف .. الأدب بين أروقة ملاعب كرة القدم

استطاع الكاتب أن يرسم شخصية أبطاله بكل دقة، وأن يعبّر عنهم ببساطة، لا سيما مع استعانته بتقنية «الراوي العليم» الذي يعرف أبطال الحكاية كلها، ويقدّم المعلومات عنها في الوقت المناسب تبعًا لتطور الأحداث.

ورغم أن الرواية بوليسية حافلة بالأحداث الشيقة، فإنه استطاع أن يعكس من خلالها أيضًا واقع الحياة الاجتماعية بأبطال روايته، بمختلف فئاتهم وطبقاتهم الاجتماعية، وأن يرسم صورةً واقعية، شديدة المأساوية لما يتعرضون له من قمعٍ وقهر في كثيرٍ من الأحيان، وكيف يمكن أن يتحوّل البسطاء إلى أدواتٍ في أيدي السلطة القمعية الغائمة يستغلونها لتحقيق مصالحهم بدعوى الحفاظ على الوطن والأمن العام للبلاد.


كرة القدم.. في الخلفية

هذا الأحد تبدأ بلادنا مرحلةً جديدة، بعد عشر سنوات ومرحلتين لحكومتين عسكريتين، سنعود لنظام الأحزاب السياسية والرؤساء المدنيين. بعيدًا عن عرقلة هذه العملية أو التشبث بالسلطة. تدفع قواتنا المسلحة نحو العودة للديمقراطية بل وتضمنها… اختارت منطقتنا الاستمرار في المسار العسكري. نحترم هذا القرار، لكن لم نتخذ مثله، نحن في الجيش البيروفي لدينا شجاعة ثابتة وصافية لن تتراجع عن إتمام هذه العملية… هذا لا يعني أننا تغلبنا على أعدائنا الرئيسيين، الصراع ضد التخريب والهدم ما زال قائمًا هذا صراع دولي، الشيوعية أشبه لعنكبوتٍ يعشش في كل دول منطقتنا.

على الرغم مما تبدو عليه كرة القدم من كونها لعبة شعبية تجمع الجماهير ويتم اعتبارها واحدة من أدوات التسلية الكبرى، فإن أحداثًا عالمية مثل تنظيم كأس العالم والمشاركة في مباريات المونديال لا شك يتدخل فيها سياسات كبرى للدول، وتجعل الدولة المستضيفة محط أنظار العالم، بل وربما يدفع بعض السياسيين لاستغلال تلك الأحداث الجماهيرية للقيام ببعض التجاوزات التي ربما لن تفلت أنظار العامة في ذلك الوقت.

ولعل هذا ما دفع الكاتب الروائي سانتياغو لأن يجعل أحداث الرواية تدور بينما يقام مونديال كأس العالم الذي فازت به الأرجنتين عام 1978، في الوقت نفسه الذي تستعد فيه دولة بيرو لانتخابات تزعم أنها ديمقراطية في ظل حاكمها الديكتاتوري الذي يحبس كل فكرٍ مختلف ويعتقل كل صوتٍ معارض، ولعل هذه اللعبة الذكية كانت واحدةٍ من عوامل الجذب في الرواية، إذ كانت التعليقات على مشاهد المباريات بمثابة الموسيقى التصويرية التي يتركها الكاتب كل مرة بينما تدور أحداثٌ أخرى بين أبطال الرواية في المقدمة.

تتصاعد وتيرة الأحداث مع نهاية الرواية، ويكتشف القارئ الكثير من الأسرار الغامضة التي لم تكن واضحة، ومعها تتسارع حدة اللعب في المونديال، وينتظر الناس بكثيرٍ من التشويق والإثارة تسديد الأهداف التي تحسم بطل المونديال في ذلك العام، فتضيع صيحات طلب النجدة والنجاة من الموت مع صرخات وهتافات المشجعين في كل أنحاء البلاد، وتبدو كرة القدم خير وسيلة بالفعل لإلهاء الشعوب عن كل ما يدور في كواليس السياسة من حولهم.

بدون خطابية زاعقة، ومن خلال مواقف وأحداث متلاحقة يتعاطف معها القارئ بكامل كيانه، ومن خلال مشاهد مرسومة بشكل سينمائي متقن، استطاع الكاتب أن ينقلنا إلى أحداث روايته وعالمه، وأن يدين بشكلٍ بالغ قوى الظلم والتسلط العسكرية الغاشمة. كما كان لصياغة الرواية بشكل بوليسي تشويقي عامل مهم في جذب انتباه القارئ وتركيزه لمواصلة قراءة الرواية ومعرفة ما فيها من مفاجآت، وهو الذي نجح فيه «سانتياغو» إلى حدٍ كبير، مما يجعله على قائمة الكتاب الذين يجمعون بين التشويق والمتعة، وبين الكتابة الأدبية الرصينة التي تعبّر عن المجتمع الغربي وآلامه بصدق وشفافية.

تجدر الإشارة إلى أن «سانتياغو رونكاغليولو» روائي ومترجم بيروفي شاب حائز على ست جوائز أدبية أبرزها جائزة «ألفاغوارا» عام 2006 عن روايته «إبريل أحمر». صدرت روايته «أشد ألم» عام 2014 ووضعته حينها صحيفة «وول ستريت جورنال» ضمن ستة مؤلفين يسيرون على خطى جابريل غارسيا ماركيز. وهي الرواية الأولى التي ترجمت له بالعربية.