لفترة طويلة بدا أن المسافة بين عالمي الرياضة والأدب شديدة البعد، بل تكاد تكون نقاط التقاء العالمين منعدمة، وذلك على الرغم من أن محبي ومتابعي «الساحرة المستديرة» في العالم من الكتّاب والقراء بل والأدباء كثيرون، ولكن أحدًا منهم لم يسعَ للتقريب بين العالمين، أو استكشاف ما في عالم كرة القدم من خصوصية أدبية عن طريق الكتابة له وعنه، ولعل ذلك الاهتمام بالعالمين وهذا الشغف الخاص ما دفع المترجم الشاب «محمد الفولي» أن يخوض غمار تجربة جديدة في عالم الترجمات، ويركز بشكل خاص على ترجمة ما كُتب في الغرب مما يطلق عليه «أدب كرة القدم».

من أمريكا اللاتينية حيث أحد أهم معاقل تلك اللعبة الجماهيرية الأثيرة، ومن «الأرجنتين» تحديدًا بلد الشاعر العالمي الكبير «بورخيس» ولاعب كرة القدم الأشهر «مارادونا»، يقدّم الفولي عددًا من المختارات القصصية التي تنتمي لعالم كرة القدم بما فيه من ملاعب وشخصيات وما يدور حوله من مغامرات، ذلك العالم الذي تدور في كواليسه الكثير من المشاعر والمواقف ويبرع الأدباء في وصفها ورصدها بشكلٍ أدبي جمالي فريد.

خمس عشرة قصة قصيرة لستة أدباء على اختلاف توجهاتهم واهتماماتهم، يرصد المترجم هذه المرة أولاً من خلال كتابتهم كيف تمكنوا من التعبير عن عالم «كرة القدم»، وكيف استطاعوا أن يدمجوا في القصة الواحدة بين مشاعر قد لا يتسنى للكثير من الكتّاب رصدها لا سيما حول عوالم هذه اللعبة.

كيف تجمع قلوب ومشاعر الجماهير، كيف تكون مؤثرة بحق في تفاصيل حياتهم، كيف يبقى أثرها لفترة زمنية تطول منذ فورة الشباب وحماسه حتى وقار المشيب ورزانته. كل ذلك وأكثر منه يرصده هؤلاء الأدباء من خلال هذه القصص التي تجعل القارئ جزءًا من اللعبة حتى لو لم يسبق له أن كان من هواتها أبدًا.

تبقى هناك طوال اليوم، ليلاً ونهارًا، تحت الأضواء الصناعية دائمًا، مدفونًا وأنت على قيد الحياة، لكن في الوقت نفسه مطمئن. تستمع إلى الهدير العالي القادم من المدرجات الموجودة فوقك والصراخ والصافرات، بل وأحيانًا _أقسم لك أن الأمر مذهل _ اهتزاز الطبقة الإسمنتية، رعشتها كأنها زلزال، أو كأن تلك الكتلة الخرسانية المكونة من الطوب الإسمنت ستسقط وتنهار معها آلاف وآلاف الأشخاص فوق رأسك! أعترف أنه عمل مجهول، بل وربما مجهولٌ للغاية، أحلم دائمًا بأن الاتحاد الأرجنتيني سيقرر يومًا إدراج أسماء عمّال الغرف حينما يُعلن تشكيل الفرق، أو عرضها فحسب بأحرف صغيرة على اللوحة الإلكترونية، ولو بأحرف أصغر من تلك التي تُعرض بها أسماء اللاعبين والمدربين والبدلاء، كل ما يهم أن تُعرض فحسب!
من قصة «حكاية عامل غرف» لـ «روبرتو فونتاناروسا»

سرعان ما يتعرف القارئ بين قصةٍ وأخرى على الأساليب المميزة لهؤلاء الكتاب، ولا شك أن عاملاً أساسيًا من عوامل نجاح تلك المختارات يكمن في تنوعها واختلاف كل قصة منهم عن الأخرى، وعرض وجهات نظر مختلفة وكواليس غامضة وغير معروفة مؤثرة في خلفيات هذه اللعبة وعالمها، إذ لم يعد الأمر مقتصرًا على الحكاية عن صعود لاعبٍ ما واستعراض مهارته في اللعبة، بل نجد قصصًا عن العمال البسطاء والمحكمين المغلوبين على أمرهم، وجمهور المشجعين، وغير ذلك.

اقرأ أيضًا:أشهر 10 كتب في عالم كرة القدم

من جهةٍ أخرى تبرز في المجموعة ملامح عامة مشتركة بين القصص، لا سيما وأنها تدور بين أروقة الملاعب وبين أرجل اللاعبين، فيما نجد تميزًا في الكتابة والصياغة لدى بعض الكتاب الذين يبرز منهم بشكل خاص الكاتب «إدواردو ساتشيري» الذي يحرص في كل قصصه على كسر إيهام القارئ بالقصة أو الحكاية التي يرويها، وذلك من خلال التوجه لمخاطبته مباشرةً سواء كان بطل القصة مشاركًا في تفاصيلها، أم كان راويًا خارجيًا يحكي القصة من واقع خبرته ومعرفته بأبطالها، يسحب الكاتب الحكاية ليضعها أمام القارئ متحدثًا عن تفاصيل وطريقة الكتابة نفسها:

إن العقبة الأولى التي أتعثّر فيها هي اختيار من سيحكي القصة، أو بكلماتٍ أُخَر، الإشكالية السعيدة لصوت الراوي. من سيقص الأحداث التي تنتهي عند العجوز وحركته الأخيرة؟ قد يقصها العجوز بنفسه، لأنه توجد أمور بعضها مهم للغاية وتضيف معنى لهذه القصة لا يعرفها أحدٌ سواه، لكن نهاية القصة يجب أن ترتبط بالذهول، باندهاشه الذي لا نهاية له، وحينها يُمكن لهذا الرجل أن يقص ذهوله؛ لأن الذهول لا تتماشى معه الكلمات..
من قصة عجوز ينهض واقفًا لـ «إدواردو ساتشيري»

يفعل ذلك أيضًا في قصة «الحياة التي نظنها» والتي تُروى من خلال بطلة القصة التي يصطحبها جدها لأول مرة لكي تحضر مباراة، فبينما تحكي قصتها مع الجد تتوجه بخطابها للقارئ لتوضح له أنها لا صلة لها بعالم كرة القدم مرة، أو أنها تفضل استخدام كلمات معينة بدلاً من أخرى، وغير ذلك.

وعلى الرغم أن أحد كتّاب هذه المجموعة ليس له إلا قصة واحدة، هي القصّة الأخيرة، لكنها تبدو كمسك الختام للمجموعة ككل، وتحمل تميزًا خاصًا إذ نجد فيها توقعًا للمستقبل ورؤية فانتازية لما يمكن أن يكون عليه «عالم بدون كرة» وهو عنوان قصة «غوستابو لومباردي» التي يحكي فيها تجربة فريدة افتراضية لعالمٍ يعيش بعد 450 عامًا من آخر مرة كانت فيها الأرجنتين بطلة للعالم، وكيف أصبح العالم بعد أن استغنى عن اللاعبين وعن الشغف بهذه اللعبة، ورغم أن القصة تنتهي بسرعة وبنهاية مفتوحة إلا أنها لا شك ستترك في نفس القارئ العديد من الأفكار والتأثير الكبير.

هكذا يتعرف القارئ في هذه المجموعة القصصية المميزة على عدد من الكتاب والأدباء المتخصصين في كتابة فنٍ ونوعٍ أدبي ربما يغيب عن كتاب الأدب في العالم العربي، كما يمنح نفسه فرصة اسكتشاف عالم «كرة القدم» بعيدًا عن ضوضاء المدرجات وصيحات المشجعين، إلى عالم فريد يمكن ضمه بين صفحات كتابٍ وقراءته والدخول فيه ببساطة واقتدار، ولا شك أنه سيجد في تفاصيله الكثير من المتعة والإبداع والتميز.

ربما بدا «أدب كرة القدم» غريبًا وسط عالم الكتابة الأدبية بشكلٍ عام، وربما يبرز بين الأدباء اسم «إدواردو غاليانو» بصفة خاصة الذي كتب عنها كتابًا خاصًا شهيرًا يعود إليه الكثير من محبي هذه اللعبة بشكلٍ خاص ويستشهدون بمقولاته هو كتاب «كرة القدم بين الشمس والظل»، إلا أن المترجم والكاتب محمد الفولي استطاع أن يضع يديه على أصول هذا النوع من الكتابة وبداياته، لا سيما في الكتابات الغربية مع «ماريو بينتديتي» في قصة «مهاجم الجهة اليُسرى» عام 1959 من مجموعته القصصة «أهالي مونتفيديو».

وأخذ في تتبع ظهور عوالم «كرة القدم» في الكتابات والأعمال الأدبية، ويرصد في مقاله المنشور في مجلة الفصيل كيف تحول الاهتمام بهذا النوع من الكتابة، وكيف تغير الأمر من النظر بازدراء إلى «كرة القدم» واعتبارها من مظاهر الجهل والتخلف الشعبي إلى الاهتمام برصدها والتعبير عنها أدبيًا في عدد من الأعمال، بل وأصبحت «الأرجنتين» رائدة في مجال كتابة الأدب الكروي والأغزر إنتاجًا.

تجدر الإشارة إلى أن كتاب «حكاية عامل غرف» هو الكتاب الأول في سلسلة تعزم دار النشر «مسعى» على إصدارها تباعًا، حتى أنها خصصت لها اسم «صافرة» سيكون كل تركيزها على «ثقافة الرياضة»، صدر منها هذا الكتاب، وكتاب آخر اسمه «أغرب الحكايات في تاريخ المونديال» من تأليف «لوثيانو بيرنكي» ولنفس المترجم «محمد الفولي».