عبر أكثر من عقدين من الزمن شهدت الساحة العراقية العديد من التغيرات السياسية والاقتصادية محليًا وإقليميًا، أبرزها التمدد الإيراني في الداخل العراقي، وسلخ المشروع العراقي العروبي لصالح الطائفية الدينية والعرقية، فعبر العديد من الجماعات الميلشياوية العراقية المدعومة إيرانيًا نجحت إيران في السيطرة على القرار العراقي.

وفي ظل هذا التمدد يأتي تيار الصدر كأحد أبرز الجماعات الدينية والسياسية التي تحاول أن تعيد إحياء المشروع القومي العراقي الخالص، ومغردًا بعيدًا عن الطائفية الطهرانية التي تنفذها الميلشيات الشيعية، فما هي ماهية موقف التيار الصدري من طهران؟، ولماذا يريد التغريد بعيدًا عن الدرب الإيراني؟.

لفهم طبيعة وخصائص هذا العلاقة والمحددات التي تحكمها، لا بد من قراءة أهم التحولات في بنيته السياسية والتنظيمية للتيار الصدري في ضوء السياقات الظرفية التي مارس فيها التيار نشاطه السياسي والاجتماعي.


التيار الصدري: من الاغتيال إلى الاحتلال

كانت بدايات انطلاق التيار الصدري كتيار ديني وسياسي قائمة على الجهود الفكرية والدينية للمرجع الشيعي والأب الروحي للتيار «محمد باقر الصدر»، الذي عرف بمعارضته الشديدة للنظام العراقي وحزب البعث الحاكم آنذاك، وبعد اغتياله عام 1980 حمل ابن أخيه «محمد صادق الصدر» ولاية التيار الوليد.

عمل محمد صادق الصدر على وضع الأسس التنظيرية والحركية للتيار الشيعي، ففي البدء حاول تنشيط ما أسماه بالحوزة الصامتة «المؤسسة الدينية الشيعية» وتحويلها إلى حوزة ناطقة، فيما عمل وتياره على محاولات تغيير الواقع العراقي واهتم بالقطاعات الفقيرة والهامشية في المجتمع العراقي، فيما سعى إلى إنتاج خطاب تجديدي قومي يستوعب كافة طوائف الأمة .

وتشير بعض الاتجاهات إلى أن علاقة المرجعية الصدرية بالنظام العراقي في ذلك الوقت اتسمت بالاستقرارية والثبات، وذلك لرغبة الرئيس العراقي آنذاك من أن تكون مرجعية الحوزة عربية، ولكن تبدو أن هذه العلاقة لم تستمر كثيرًا خاصة بعد مشاركة الصدر في الانتفاضة الشعبانية التي قادتها بعض الأحزاب الكردية والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية بالعراق ضد النظام العراقي في 1991. وجاء عام 1999 ليُغتال محمد صادق الصدر واثنان من أبنائه.


مقتدى الصدر: كيف أعاد إحياء التيار من جديد؟

ارتكز مقتدى الصدر في إحياء تياره على الصبغة والنشاطية الاجتماعية والمقاومة المسلحة للاحتلال الأمريكي والدعوة إلى تأسيس قومية عراقية خالصة في مواجهة الطائفية.

عانى تيار الصدر من حالة من الركود والتراجع السياسي فيما بعد اغتيال «محمد صادق الصدر» وفي ظل القبضة الاستبدادية للنظام العراقي، ولكن ومع الأيام الأولى لنجاح الغزو الأمريكي للعراق في 2003 استطاع ابن محمد صادق الصدر والملقب بمقتدى المصدر من العمل على إعادة إحياء التيار الصدري، متخذًا من الحوزة الناطقة منهاجًا دينيًا وسياسيًا في مسيرته، كذلك عمل على إضفاء صبغة اجتماعية بتأكيده على مناصرة الجماعات الفقيرة المهمشة.

كذلك نجح مقتدى الصدر في كسب تأييد جماعات محلية وإقليمية كثيرة وذلك بموقفه من مقاومة الاحتلال الأمريكي، ورفض المقاومة السلمية التي كان يرى أنها لا تجدي نفعًا، لذلك قام بتأسيس «جيش المهدي» وانطلق بمواجهة القوات الأمريكية في 2004 بالنجف.

يذكر أن أولى المنضمين لجيش المهدي كانوا من الكويت والمملكة العربية السعودية، كما حصلت قوات جيش المهدي على تدريبها على يد قوات حزب الله اللبنانية.

لم تكن مقاومة الاحتلال عسكريًا وحدها الوسيلة التي اتخذها مقتدى الصدر وتياره لإثبات وجوده وقوته الشعبوية، ولكنه عمل على تواجده البرلماني. ففي عام 2005 نجح في كسب ثلاثين مقعدًا بالبرلمان العراقي، وقاد تياره بعض الوزارات آنذاك.

ولكن وفيما بعد 2005 اتهمت التقارير الدولية والمحلية مقتدى الصدر وجيش المهدي بتنفيذ عمليات نوعية وتصفية ضد السكان السنة تقوم بها وحدات «فرق الموت»، ولكن حدثت نقطة التحول الأساسية الأخرى في 2007 حينما شهدت كربلاء مواجهة الجيش المهدي وقوات كتائب بدر الشيعية، وهو ما دفع إلى حدوث انشقاقات عدة داخل جيش المهدي.

توجه مقتدى الصدر إلى إيران في 2008 ليقيم بـ «قم»، وهناك عمل على توجيه وإدارة ما تبقى من جيش المهدي تحت لوائه، ولكن تلك الفترة شهدت «عملية الفرسان» التي قادتها القوات العراقية البالغ عددها، وفقًا لتقرير جامعة ستانفورد، إلى أكثر من ثلاثين ألف جندي إبان حكومة المالكي ضد قوات جيش المهدي.

ولكن وبواسطة إيرانية توقفت الأعمال القتالية بعد مقتل أكثر من 2000 من أبناء جيش المهدي، وهنا عمل مقتدى الصدر على تحويل بعض من قوات جيش المهدي إلى تقديم الخدمات الاجتماعية بدلاً من العمل العسكري في العراق.


الربيع الصدري: القومية العراقية في مواجهة الطائفية

ظل مقتدى الصدر يدير جيش المهدي من إيران، ولكن ومع التغيرات الإقليمية التي شهدتها المنطقة العربية فيما عرفت بثورات الربيع العربي، عاد مقتدى الصدر أكثر قوة وشجاعة إلى العراق، ويبدو أن الرجل أراد أن يحلق بعيدًا عن التبعية الطهرانية، وهنا عمل على تبني منهاج الإصلاح السياسي والاجتماعي، ومناهضة الطائفية والتي تقودها جماعات أو مليشيات محلوية أو إقليمية.

وعمل الصدر على تبني النهج السلمي والاحتجاجي للضغط لإجراء عمليات الإصلاح السياسي والاجتماعي في العراق، وكذلك عمل على بناء ودعم قومية عراقية لا تدخل فيها للخارج وهي التي يجب أن تحكم العراق، كما ظل معاداته للتدخلات الأمريكية في موضعها بالرغم من دعوته للانفتاح على العالم الخارجي وإقامة حوار حضاري مع بقية الدول.

منذ عام 2010 وحتى تاريخ كتابة هذه السطور يبدو أن الخط الإصلاحي السياسي والاجتماعي يأتي في مقدمة أولويات مقتدى الصدر، وهو ما تبرزه نتائج انتخابات 2010 بفوزه بـ 40 مقعدًا بالبرلمان، وقدرته على الحشد ضد حكومة المالكي وسياساته الطائفية، وكذلك الضغط على حكومة العبادي لتحقيق الإصلاحات السياسية المتتالية.


التيار الصدري: التحليق بعيدًا عن الدرب الإيراني

تتسم العلاقة بين تيار الصدر وطهران بالمد أحيانًا وبالجزر أحيانًا أخرى، ويدور أغلبها في فلك التصريحات النارية والعقلانية التي يطلقها مقتدى الصدر بين الحين والحين، فعلى نقيض علاقات إيران بالجماعات والتنظيمات الشيعية القوية تأتي علاقاتها بمقتدى الصدر وتياره بشيء من اللاستقرارية والثبات. وتتعدد مسببات ومحددات هذه العلاقة في ضوء فترتين زمنيتين كالتالي:

الفترة الأولى: دعم محدود

وتمتد هذه الفترة من تاريخ تأسيس التيار الصدري وحتى قيام ثورات الربيع العربي، ويلاحظ خلال تلك الفترة وجود علاقة وإن كانت غير واضحة وغير معلنة، وذلك لموقف الأنظمة الحاكمة آنذاك من وجود دعم إيراني لأي من الجماعات الشيعية، لذلك كانت العلاقة آنذاك محدودة إن وجدت.

كذلك شهدت تلك الفترة في البداية بعض الخلافات نتيجة الإرث التاريخي والمرجعية الدينية التي أسسها «محمد باقر الصدر» ومحاولته إقامة صلاة الجمعة مخالفة لقواعد إقامتها الخمينية، كذلك دعوات تعريب رئاسة «الحوزة» وتجديدها، وهو ما دفع إلى وجود محاولات من النظام العراقي لاحتواء مثل هذه التوجهات في مواجهة المد الشيعي الإيراني.

ظلت العلاقة في فترة حكم صدام مرتعشة وخائفة من بطش نظامه ضد الشيعة، إلا أنه ومع سقوط النظام في 2003 سارع مقتدى الصدر للذهاب إلى إيران حيث تلقى تعليمه هناك، وحيث يمكث هنا مرجعيته الشيخ «الشيرازي الحائري»، وبعد عودته أكد على أنه لابد وأن يحكم في العراق عراقيًا خالصًا.

كذلك تحددت علاقة مقتدى الصدر وطهران في تلك الفترة في ضوء مساندته لما يعرف «بمحور الممانعة» والذي قادته إيران وسوريا وحزب الله، وهو ما يمكن ان يبرر ما ذهب إليه تقرير جامعة ستانفورد إلى دعم إيران لقوات جيش المهدي وتدريبه على يد قوات حزب الله اللبناني، وكذلك إيواؤه في الفترة ما بين 2008 غلى عام 2011، والتوسط بينه وبين المالكي لوقف إطلاق النار بعد بدء عملية الفرسان في 2008، كما عملت على ضمه إلى تحالف المالكي الحكومي في 2010 بعد فوز حزبه بـ 44 مقعدًا من أصل 325 مقعدًا بالبرلمان.

الفترة الثانية: التغريد خارج السرب

وتبدأ هذه الفترة منذ عودة مقتدى الصدر إلى العراق في 2011 ، ودعوة الصدر للتمسك بالقومية العراقية على حساب الطائفية المدعومة من إيران، وتفاقم الخلاف حينما أصر مقتدى الصدر على تشكيل تحالف عابر للطائفية بمشاركة «سعود البارزاني وأياد علاوي» لسحب الثقة من رئيس الوزراء نوري المالكي، الوكيل الأول لإيران في العراق، ورفض الخضوع لأوامر إيران بعدم سحب الثقة، وبالرغم من فشله في سحب الثقة إلا أنه قاد مسيرات واحتجاجات لرفض تمديد ولاية ثالثة للمالكي.

وفي ضوء تشكيل الحشد الشعبي ومشاركة قوات «سرايا السلام» التابعة للتيار الصدري في البدء، إلا أنه ومع صعود الخط السياسي والعسكري للحشد الشعبي ناهض مقتدى الصدر طائفيتها ودعا إلى عدم إدماجها رسميًا ضمن قوات الجيش العراقي.

فيما استغل أنصاره أثناء الاحتجاجات بالمنطقة الخضراء إلى رفع شعارات مناهضة لإيران «إيران برا برا»، وبالرغم من اعتذار مقتدى الصدر عن تلك الشعارات إلا أن تصريحات مقتدى الصدر تظهر حالة اللاستقرار في العلاقة بين الطرفين، خاصة في ظل دعوة مقتدى الصدر لتنحي الرئيس السوري بشار الأسد المدعوم إيرانيًا، وفي ظل انفتاح التيار على المملكة العربية السعودية.


الصدر وروحاني: هل من علاقة جديدة؟

الرجل أراد أن يحلق بعيدًا عن التبعية الطهرانية، فتبنى منهاج الإصلاح السياسي والاجتماعي، ومناهضة الطائفية.
إن الشعب يحتاج الى نظرة أبويّة لكي يحصل على مقومات العيش الرغيد التي حُرم منها بسبب الحصار الدولي المفروض عليه.
مقتدى الصدر

يأتي انتخاب الإصلاحي «حسن روحاني» لولاية ثانية لرئاسة الجمهورية الإسلامية، في ظل تغيرات إقليمية ودولية أوسع تتحدد من خلالها مواقف طهران الداعمة للجماعات والتنظيمات الشيعية، ومن ضمن تلك المتغيرات هو إصرار مقتدى الصدر على تنفيذ مشروعه الإصلاحي والضغط على حكومة العبادي من خلال قاعدة شعبية واسعة النطاق، ومناهضته لقوات الحشد الشعبي في الداخل، وهو ما من شأنه الحفاظ على حالة الاحتقان بين الطرفين ثابتة.

لكن لا يبدو موقف التيار الصدري قويًا في موقفه مع طهران ثابتًا، خاصة في ظل ما يعانيه التيار من ضعف إمكانايته وموارده المادية، وهو ما دفعه إلى صرف نصف المرتبات لكل العاملين في مفاصل التيار الصدري باستثناء الشهداء والعاملين في المرقدين.

عقلانية وبراجماتية مقتدى الصدر مرتبطة أكثر بطموحه الشخصي والسياسي، ومن ثم فإن تبنيه خطابًا محايدًا ومنفتحًا ورؤية عراقية خالصة، إنما قد يدفعه إلى مزيد من التعقل والبراجماتية في مستقبل علاقاته الخارجية وذلك لمواجهة موجات الانشقاق والتصدع بين صفوف تياره والتي يعاني منها منذ عام 2008 في ظل صعود قوى شيعية أخرى تملك زمام الأمور مثل الحشد الشعبي المدعوم إيرانيًا وخارجيًا، وكذلك لمواجهة مشاكل تياره المادية.

تصريحات وموقف مقتدى الصدر حول السياسات الإيرانية في المنطقة وما أطلق عليه المهاترات السياسية وأنها ما جلبت إلا الويل والثبور عليها وعلى المنطقة العربية، ودعوة إيران للانفتاح على الغرب وعلى دول المنطقة ما هو إلا تماشيًا مع بعض سياسات روحاني الإصلاحي.

المراجع
  1. mahdi army, stanford university ,
  2. نجاح محمد علي، مقتدى الصدر وإيران: الاغتيال أم العشق الممنوع، القدس، 12 مارس 2016
  3. , Ali Omidi,Is Iran about to cut Muqtada al-Sadr loose? , al-monitor
  4. مايكل نايتس ، إيران في العراق: دور مقتدى الصدر، معهد واشنطن، 8 فبراير 2011
  5. ? MICHAEL DAVID CLARK, RENAD MANSOUR, Is Muqtada Al-Sadr Good For Iraq