تطبيع مرتقب للعلاقات المصرية التركية بعد 8 سنوات من القطيعة بين البلدين، الأمر الذي يلقي بظلاله على جماعات المعارضة التي منحتها سنوات الخصام فرصة لإيجاد مأوى آمن لأفرادها فضلًا عن مساحة لممارسة نشاطها بحرية تامة استغلالًا لأزمة لم يكن من المتوقع انتهاؤها بهذا السيناريو.

كولن في القاهرة

مصر رحبت بنا ورفضت تسليمنا أو غلق مدارسنا كما فعلت دول عربية أخرى.
إسحاق إنجي، رئيس تحرير جريدة «زمان» التابعة لحركة فتح الله كولن

كثيرون تحدثوا عن المعارضة المصرية في إسطنبول وفي قلبها الإخوان المسلمون كونها الأعلى صوتًا والأكثر تأثيرًا، لكن ما لا يعرفه البعض هو أن القاهرة تستضيف هي الأخرى المئات من معارضي أردوغان الذين فر أغلبهم بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في صيف 2016.

أغلب هؤلاء ينتمون لحركة الخدمة التي يقودها الداعية الصوفي فتح الله كولن الذي يعيش في منفاه بولاية بنسلفانيا الأميركية، السلطات المصرية وفي ضوء خلافها مع أنقرة قررت التعامل بالمثل فاتحة أبوابها أمام هؤلاء المعارضين الذين طاردتهم تركيا بكل ضراوة في الداخل والخارج، لتسهل إقامتهم في القاهرة وتسمح لهم بممارسة أنشطتهم الدعوية والسياسية.

حركة الخدمة تمتلك عددًا من المؤسسات في مصر، تأسس أغلبها قبل فترة الأزمة لكنها نجحت في الحفاظ عليها واستمرار أنشطتها، وهو الأمر الذي لم يحدث في دول أخرى عديدة فضلت الاستجابة لرغبة أنقرة وأغلقت هذه المؤسسات أو حولت إدارتها للسلطات التركية وفي بعض الأحيان سهلت القبض على القائمين عليها وتسليمهم إلى بلدهم.

أبرز هذه المؤسسات هي مراكز ثقافية تركية في القاهرة والإسكندرية وطنطا والمنصورة، إضافة لمدارس «صلاح الدين» الدولية التي عهدت الحركة برئاسة إدارتها لمفتي مصر السابق علي جمعة الذي تربطه علاقة وطيدة بكولن، كما تملك دار النيل للطباعة والنشر التي تهتم بترجمة كتب كولن ونشرها.

هذا إلى جانب إصدار النسخة العربية لصحيفتها «زمان» من القاهرة رغم صدور حكم من القضاء التركي بوضع الجريدة تحت تصرف الدولة، ومجلة «نسمات» التي يشرف عليها مصريون مؤمنون بأفكار الداعية التركي.

مصر كانت من الدول القليلة التي فتحت أبوابها لحركة الخدمة، ووصل الأمر حد اقتراح نواب وإعلاميين مقربين من النظام استضافة كولن نفسه في القاهرة إبان محاولات تركية لإقناع الولايات المتحدة بترحيله، كما نجح إعلامي مصري في إجراء حوار مع الداعية التركي في مقر إقامته شمل انتقادات للسلطات التركية في مقابل أحاديث إيجابية عن مصر التي تفتخر الحركة بوضع صورة رئيسها عبد الفتاح السيسي في مدارسها ومؤسساتها في مصر.

الإخوان في إسطنبول

بالحديث عن صور السيسي، فإن جماعة الإخوان المسلمين هي الأخرى تضع العلم التركي في مؤسساتها بإسطنبول، في إشارة من كلتا الجماعتين للامتنان الذي تكنه كل منهما للبلد المستضيف وتقديرها لقيادتها السياسية.

المعارضة المصرية بشقيها الإسلامي والعلماني تملك هي الأخرى قنوات فضائية إلى جانب جمعيات ومراكز تقوم على خدمة أفرادها حيث يقدر عددهم بعشرات الآلاف الذين فروا من مصر بعد الثالث من يوليو 2013.

هؤلاء المعارضون يترقبون أحاديث المصالحة بكثير من القلق حيث يعيش أغلبهم بإقامة سياحية تُجدد كل عام، ويمكن للسلطات التركية إنهاؤها في أي لحظة ليجدوا أنفسهم في  وضع غير مضمون.

كلتا الجماعتين باتت على أعتاب خسارة أرض مهمة لصالح النظام الذي تناوئه، وذلك عندما يجلس وفد تركي بقيادة نائب وزير الخارجية مع نظيره المصري في القاهرة خلال الأيام القليلة المقبلة، كما يتوقع أن يلتقي رئيسا مخابرات البلدين، لبحث تفاصيل المصالحة التي تضمن بلا شك تقليم أظافر المعارضة المصرية في إسطنبول والتركية في القاهرة.

هذا إلى جانب مساعي البلدين لإنشاء لجنة صداقة برلمانية مشتركة وهو الطلب الذي قدمه حزب العدالة والتنمية التركي ويأتي للمصادفة بعد أشهر قليلة من جلسة برلمانية مصرية نتج عنها تفويض السيسي في التدخل العسكري بليبيا لمواجهة تركيا.

أعضاء الجماعتين يخشون مصيرًا غير معروف، القاهرة تطلب حتى الآن تسليمها عددًا محدودًا من المعارضين الذين تعتقد أن ثمة صلات تربطهم بحركات العنف السياسي التي انشقت عن الإخوان المسلمين، أي أنها تتجاوز مطلبها الأول الذي يتمثل في إغلاق القنوات المعارضة التي تبث من إسطنبول، والتي تلقت بالفعل لأول مرة تعليمات تركية صريحة بمراجعة محتواها السياسي الأمر الذي أدى لتوقف أبرز برامجها «مصر النهاردة» و«مع معتز».

لكن في حال استجابة أنقرة للطلب الجديد فإنه قد يفتح الباب لتسليم غيرهم وهو ما يثير رعب المعارضين هناك، الأمر الذي بدا واضحًا في توجه بعضهم لمحاولة المغادرة صوب دول أوروبية قد يجدون فيها أمانًا غير مشروط.

في المقابل يتوقع أن تطلب أنقرة من مصر إيقاف أنشطة حركة الخدمة والتضييق على أعضائها، فهي لم تتساهل مع هذا الملف في أي بلد، صغيرًا كان أو كبيرًا، إلى حد لجوئها أحيانًا للقيام بعمليات استخبارية تتضمن خطف هؤلاء المعارضين من دول مثل ماليزيا وكوسوفو.

رغم ذلك يبدو أن الطريق نحو التقارب بين البلدين لن يكون مفروشًا بالورود، إذ تدفع عوامل مثل التناقض بين منظومتي الحكم فضلًا عن إرث الخصام والعلاقة الشخصية المضطربة بين رئيسي البلدين، إضافة إلى تضارب المصالح والتحالفات الإقليمية إلى توقع أن العلاقات بينهما وإن كانت في طريقها للتحسن إلا أنه من المبكر تصور أن النظامين قد يصبحان حليفين في وقت قصير.

وربما يعزز ذلك رفض تركيا تصنيف الإخوان كجماعة إرهابية وإصرارها على كونها حركة سياسية ما يعني أن أنقرة لا تود الذهاب بعيدًا في التضحية بها، ولدى أنقرة خبرة سابقة في الحفاظ على مصالحها مع أطراف متناقضة.

لعل أقرب مثال هو استضافتها نحو 40 ألفًا من لاجئي الإيجور في الوقت الذي تتوطد فيه علاقتها مع بكين لدرجة التوقيع معها على اتفاقية لتسليم المجرمين ومدح أردوغان لإجراءات الصين القمعية في إقليم شينجيانج.

رغم ذلك يبقى التقارب المرتقب إثباتًا جديدًا على كون مصالح الدول فوق كل اعتبار وأنها وحدها التي تقود دفة الأمور، فيما يتبقى هامش صغير للمواقف القائمة على المبادئ أو الأخلاق بل وأحيانًا الأيديولوجيات نفسها.

كل التملق الذي مارسته جماعات المعارضة سواء للقيادة السياسية في مصر أو تركيا لن يشفع لها عندما تتلقى ضربة قاصمة بحرمانها من المساحة الأكبر أو الوحيدة التي مُنحت لها في أعقاب الأزمة بين البلدين، وسيبدو وكأن كلًا منهما لم يكن سوى أداة في يد النظم السلطوية للنكاية في بعضها أولًا ثم لإتمام المصالحة بينهما ثانيًا.

فيما ستواجهان ومعهما أطياف أخرى من المعارضة تحديًا صعبًا للعمل في ظل هذه السياسة الجديدة التي يتوقع أن تحظر كثيرًا من أنشطتهما وتقيد حركتهما، فيما يبدو مكسبًا معقولًا لكلا النظامين في مصر وتركيا.

اقرأ أيضًا: «حركة فتح الله كولن»: قصة الحركة التي يحاربها أردوغان