كانت السياسة الخارجية وما زالت أحد أهم ملامح تجربة العدالة والتنمية في تركيا، وأحد أهم أسباب اهتمام العالم العربي بها. ولعل من ضمن أسباب ذلك تميزها في بعض المراحل، والتحديات التي واجهتها في مراحل أخرى، ومدى تشابكها وتداخلها مع قضايا المنطقة، فضلًا عن ارتباطها الشديد مع المشهد السياسي الداخلي في تركيا.

الارتباط بين السياسة الداخلية والخارجية أمر ثابت نظريًا، لكنه أكثر وضوحًا وثبوتًا بالممارسة العملية للعدالة والتنمية منذ تأسيسه ووصوله للحكم. فقد ارتبطت المحطات المفصلية في السياسة الخارجية التركية غالبًا بمدى قوة المشهد السياسي الداخلي، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك موقف تركيا من الثورات العربية التي تزامنت مع وصول الحزب لذروة قوته في الداخل، بعد أن تجنب «الانقلاب الإلكتروني» في 2007 والحظر والإغلاق في 2008، وبعد حصوله على %49.5 من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية عام 2011.

البروفيسور برهان الدين ضوران، المدير العام لمركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التركي (سيتا)، كان قد لخص المراحل الثلاث التي مرت بها السياسة الخارجية التركية في عهد العدالة والتنمية تبعًا للتحولات الفكرية – الأيديولوجية إن شئتم- للحزب مع الوقت في المؤتمر الذي نظمه مركزه في ذكرى تأسيس الحزب في آب/أغسطس الفائت.

أردوغان، تركيا، بوتين
أردوغان في لقاء صحفي جمعه بالرئيس الروسي، مارس/آذار 2017

في المرحلة الأولى، مع التأسيس، عرّف الحزب نفسه كحزب «ديمقراطي محافظ» على طريقة الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا كناية عن الرغبة في دخول الاتحاد الأوروبي والتزام المعايير الأوروبية، مثل الديمقراطية والحرية وسيادة القانون، مع الانعكاسات الواضحة لذلك على سياسة تركيا الخارجية.

بينما حملت المرحلة الثانية شعار «مدنيّتنا» أو «حضارتنا»، التي تزامنت مع الثورات العربية، بحيث قدم الحزب خطابًا يتعلق بالأمة والمنطقة والتاريخ، وتبلور ذلك بشكل واضح في موقف أنقرة من الثورات. أما المرحلة الثالثة فقد قدمت سردية «الموقف الوطني والمحلّي» كناية عن الاهتمام بالشأن الداخلي أكثر، وقد تزامنت بدايات تلك المرحلة مع التحديات التي واجهتها تركيا في السنوات الخمس الأخيرة بدءًا من أحداث «جزي بارك» عام 2013 وصولًا للانقلاب الفاشل وما بعده.

ويمكنني القول، تفاعلًا مع طرح الدكتور ضوران، إن هذه المرحلة الثالثة وصلت ذروتها عام 2015 مع التدخل الروسي في سوريا، والذي كان ضمن أهم العوامل التي ساهمت في مراجعات وتراجعات السياسة الخارجية التركية عمومًا، وفي سوريا على وجه الخصوص، وهو التغير الذي قدمته حكومة بن علي يلدرم في 2016 تحت شعار «تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم».

تلك الفترة الممتدة بين عام 2013 الذي شهد أحداث جزي بارك و «الانقلاب القضائي» وعام 2016 الذي شهد المحاولة الانقلابية الفاشلة، وما بينهما من محطات انتخابية وانهيار عملية التسوية مع العمال الكردستاني وعودة العمليات الإرهابية وتقدم المشروع الانفصالي الكردي في سوريا، أدت إلى متغيرات مهمة في السياسة الخارجية التركية.

أهم معالم هذه المتغيرات كان التحول تدريجيًا نحو استخدام القوة الخشنة مثلًا للعمليات العسكرية والقواعد خارج الحدود، وزيادة وتيرة الصناعات العسكرية، والبحث الدائم عن شراكات، لكن يبدو أن هناك متغيرًا أيضًا على مستوى الرؤية والنهج.

اقرأ أيضًا: الصناعات العسكرية التركية تشهد طفرة في ظل العدالة والتنمية

رأت أنقرة فيما يبدو أنها تصدت وتصدرت – مع الربيع العربي وسواه – دون أن يكون لديها الأدوات والإمكانات الكافية للحسم وصناعة الحدث، ما دفّعها الثمن بتعبير بعض الساسة الأتراك، وهو ما دفَعها مؤخرًا لتغيير ذلك، وهو الاتجاه الجديد الذي ألحظه في السياسة الخارجية التركية مؤخرًا.

باتت تركيا أحرص على عدم التصدر للقضايا الشائكة بمفردها، وأقرب لتحصين موقفها بموقف دولي أعم وأشمل، حتى ولو كانت هي صاحبة الشأن أو المبادَرة في القضية. رأينا ذلك في قضية نقل السفارة الأمريكية للقدس، وفي الأزمة مع الولايات المتحدة الأمريكية بما فيها انعكاسها على الأزمة المالية الداخلية، وفي محاولات تركيا لمنع عملية عسكرية للنظام وروسيا في إدلب؛ في كل هذه المحطات كانت المبادرة من قِبل تركيا، لكن الأخيرة دعّمت موقفها وأعطته غطاءً دوليًا أتى في المقام الأول من الدول الأوروبية، وخصوصًا ألمانيا وفرنسا.

ولعل قضية الإعلامي السعودي جمال خاشقجي أوضح مثال على هذا التوجه التركي مؤخرًا. إذ القضية في الأصل ثنائية بين أنقرة والرياض، حيث فـُقِدَ مُواطن الثانية على أرض الأولى، وحيث هناك احتمال لتورط قنصلية الثانية في العملية بما يعني اعتداءً على سيادة الأولى وخرقًا للتعامل الدبلوماسي بين الدول.

لكن بالنظر إلى التعامل السياسي والإعلامي مع القضية نجد أن تركيا حرصت على عدم التعامل معها كأزمة مباشرة مع المملكة العربية السعودية، وإنما كأزمة دولية وقضية رأي عام بامتياز. فبعد اليومين الأولين اللذين تخللهما الصمت وشيء من اضطراب المعلومات والتصريحات، اتضحت معالم المنهجية التركية في التعامل مع القضية، عن طريق:

أولًا: التعامل بهدوء وتروٍّ مع الملف الشائك، وتجنب المسئولين للتصريحات الصدامية أو السقف العالي، أو توجيه الاتهامات المباشرة وتأكيد أهمية انتظار نتائج التحقيق.

ثانيًا: ضبط عملية تدفق المعلومات وحصر التصريحات الرسمية حول القضية بالرئيس التركي ووزير الخارجية حتى الآن، وفي مرات قليلة جدًّا أغلبها ردًّا على استفسارات الصحفيين.

ثالثًا: تعمد تسريب بعض التفاصيل المهمة أو التي تحمل أبعادًا خطيرة – المتعلقة بسردية التعذيب والقتل مثلًا – للصحافة العالمية، وخصوصًا الأمريكية وليس الإعلام التركي، لتحريك الرأي العام العالمي ولفت الأنظار أكثر للقضية.

رابعًا: إمداد صانعي القرار في بعض العواصم المؤثرة، وخصوصًا واشنطن، ببعض تفاصيل التحقيق، ما ساهم – إضافة لعوامل أخرى – باهتمام دولي لافت بالقضية، ومطالبات عالمية بضرورة التوصل للحقيقة الكاملة حول ما حصل.

اقرأ أيضًا: من التالي بعد خاشقجي؟ أبرز 5 معارضين سعوديين في الخارج

بالنظر لكل ما سبق، وبغض النظر عما سيتوصل له التحقيق وما سيعلن عنه في الرواية الرسمية التركية في نهاية المطاف، تمثل قضية الإعلامي جمال خاشقجي أمامنا كنموذج بارز على الاتجاه الذي برز مؤخرًا في السياسة الخارجية التركية نحو تجنب الصدامات وتصدر القضايا الشائكة بشكل منفرد وتحصين الموقف التركي بحماية دولية، وهو الاتجاه الذي سيحتاج بعض الوقت ليثبُتَ إن كان تلقائيًّا ومؤقتًا أم مقصودًا ومستقرًا في سياسات أنقرة الخارجية على المدى البعيد.