كان عام 2022 مليئًا بالأحداث الساخنة في الضفة الغربية المحتلة؛ فقد وصف تقرير صادر عن الأمم المتحدة هذا العام بأنه الأكثر دموية في الضفة منذ عام 2005، نظرًا لعدد القتلى المرتفع وما شهده من مصادمات.

وقال الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في تقرير له إن عدد الشهداء الفلسطينيين خلال العام حتى تاريخ 26 ديسمبر/كانون الأول بلغ 224، منهم 171 في الضفة الغربية، وفقًا لسجلات وزارة الصحة الفلسطينية.

وأكد مركز الإحصاء التابع للسلطة الفلسطينية أن قوات الاحتلال في عام 2022 وحده دمرت 1058 مبنى في الأراضي الفلسطينية، منها 353 مبنى سكنيًّا، وتصدرت القدس عمليات الهدم بنسبة 29 في المائة، كما تصاعدت “اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه على السكان الفلسطينيين في تجمعات سكنهم كافة، من مصادرة لأراضيهم وهدم منازلهم والاعتداء عليهم”.

فيما بلغ عدد الأسرى في سجون قوات الاحتلال “٤٧٠٠ أسير، حتى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وفق بيانات هيئة شئون الأسرى والمحررين، من بينهم 34 أسيرة، ونحو 150 قاصرًا، و835 معتقلًا إداريًّا من بينهم ثلاث أسيرات، وأربعة أطفال”.

سياسة العصا والجزرة

منذ موقعة سيف القدس التي وقعت في 2021 بسبب الاعتداءات الإسرائيلية على القدس، حاول الاحتلال اتباع سياسة العصا والجزرة التي تعني توفير مزايا – ولو صغيرة – للفلسطينيين كبديل عن تقديم حلول سياسية للمشاكل المزمنة، وبدأت مفاوضات مع السلطة الفلسطينية لحل مشاكل عالقة منذ سنوات تتعلق بالأوضاع المعيشية للفلسطينيين، كتسهيل إجراءات تنقل الأفراد والسلع ولم شمل العائلات على جانبي الخط الأخضر، وتعديل ظروف العاملين داخل إسرائيل، وبحث تفعيل الملحق الاقتصادي لمعاهدة أوسلو المبرمة عام 1993، والسماح لذوي معظم أسرى غزة بزيارتهم في رمضان بعد أكثر من 7 سنوات من الانقطاع.

ولم تشن إسرائيل غارات على قطاع غزة ردًّا على صاروخ تم إطلاقه من هناك في 22 أبريل/نيسان، بل اكتفى الاحتلال بغلق معبر بيت حانون/إيريز ليومين فقط مع التأكيد على أن استمرار فتحه رهن بالتزام الهدوء وعدم شن هجمات أخرى.

لكن المواجهات الفردية لم تتوقف في الصفة الغربية والقدس على خلفية موضوع اقتحامات المسجد الأقصى واعتقال المقاومين، وهجمات المقاومة الخاطفة، مما أدى إلى تصاعد التوتر وانفجار الوضع في أغسطس/ آب عندما شنت تل أبيب عدوانًا على غزة استهدف حركة الجهاد الإسلامي، وقالت قوات الاحتلال إن الهجوم كان عملية استباقية لمنع هجوم وشيك بعدما اعتقلت إسرائيل، القيادي في حركة الجهاد باسم السعدي، من مخيم جنين بالضفة الغربية واعتدت على أسرته، لكن حركة حماس لم تشارك في المعركة وتم احتواء التوتر سريعًا.

فبعد الدمار الضخم الذي نال القطاع خلال معركة مايو/أيار 2021، تجنبت حماس الدخول في مواجهة عسكرية مع تل أبيب من أجل إعادة إعمار القطاع، خاصة مع انتشار البطالة وتدهور الحالة الاقتصادية لأهل غزة، وامتدح الأمين العام لحركة الجهاد، زياد النخالة، حماس لكونها “وفرت بيئة مناسبة لعمل المقاومة”.

ومع إدراك الجميع لهشاشة الوضع وقابليته للتفجير سعت كل الأطراف لتجنب حرب تبدو وشيكة على غرار “سيف القدس” مع توفر أسبابها، لكن فاعلًا جديدًا دخل إلى الساحة كان له رأي آخر.

عرين الأسود وأخواتها

مع تكرار الاستفزازات الصهيونية كالاقتحامات والاعتقالات، برزت مجموعة صغيرة من الشباب الفلسطيني حديث السن الرافض لهذا الوضع، واختاروا الهجمات الفردية الصغيرة الخاطفة سبيلًا لهم في ظل العجز عن خوض مواجهة عسكرية تقليدية في مواجهة الاحتلال.

ظهرت تلك المجموعة التي أطلق عليها لاحقًا “عرين الأسود” في الضفة الغربية، حيث ضعفت سيطرة السلطة الفلسطينية بسبب عدم احترام الاحتلال للاتفاقات المبرمة معها، واقتحامه للمناطق التي تديرها متجاهلًا التقسيمات المختلفة للمناطق داخل الضفة، وعدم قدرة السلطة على وقفه، فجاءت ظاهرة عرين الأسود من الجيل الفلسطيني الصاعد الذي لم يشارك في انتفاضتي عامي 1987 و2000، ورأى أنه قد ينجح فيما فشل فيه الجيل السابق.

ودخلت عرين الأسود إلى ساحة المقاومة كلاعب مستقل، لكنها تتعالى على خلافات ونزاعات الفصائل بكل أطيافها، وترى أنها استنزفت قواها في معارك جانبية وخلافات داخلية وحركات استعراضية، وانهمكت في حسابات وتوازنات شغلتها عن المعركة، فكان من مبادئ هذه المجموعة الناشئة ألا تطلق رصاصة إلا على العدو مباشرة، وألا تنشغل بغير الكفاح المسلح، ولهذا اجتذبت الشباب الفلسطيني من كل الأطياف.

 وانضم للمجموعة أفراد ينتمون إلى الأذرع العسكرية لحركات مقاومة مختلفة ومتعارضة، بما فيها كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، وكذلك من عائلات يعمل أفرادها في السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية المكلفة بالتنسيق الأمني مع قوات الاحتلال طبقًا لاتفاق أوسلو للسلام، ورَفَضَ الشباب نسبة أنفسهم إلى فصيل معين.

وباتت نابلس وجنين بالضفة الغربية محط اهتمام وسائل الإعلام العالمية بعدما أصبحتا معقلين لهذه المجموعة، وتنبهت إسرائيل لهذه الظاهرة بعدما لاحظت ارتفاعًا ملحوظًا في عمليات إطلاق النار على أهداف عسكرية لها في محيط نابلس في فبراير/شباط عام 2022، فاقتحمت المدينة في اليوم الثامن من ذلك الشهر، وقتلت 3 شباب فلسطينيين، وظلت تحاول تعقب قائدهم إبراهيم النابلسي، حتى اغتالته في التاسع من أغسطس/آب الماضي بعد اشتباكات طويلة مع القوات الخاصة الإسرائيلية في البلدة القديمة بمدينة نابلس، بعد أن تحول لبطل شعبي يحظى بآلاف المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي التي ينشر عليها فيديوهات لعمليات مقاومة ألهبت مشاعر الكثيرين وألهمتهم الانضمام للمسيرة.

وبعد شهر من تلك الواقعة تم إطلاق النار على إسرائيلي جنوب نابلس، وأعلنت “عرين الأسود” عن نفسها بشكل علني، ونظمت عرضًا عسكريًّا في نابلس، ومن حينها بدأت المجموعة تتبنى المسئولية عن عدد كبير من عمليات إطلاق النار ردًّا على الاستفزازات الإسرائيلية في الضفة الغربية ومدينة القدس.

ولم تكن “عرين الأسود” وحدها، بل كما تأثرت في نشأتها بـ “كتيبة جنين”، ظهرت على إثرها مجموعات شبيهة في مدن الضفة الغربية الأخرى، مثل “كتيبة بيت لحم” و”كتيبة طولكرم” و”كتيبة طوباس”، وما يقلق سلطات الاحتلال أن هذه الظاهرة الشعبية ليست مؤطرة بإطار تنظيمي معين، بل انتقلت العدوى الثورية إلى مناطق عديدة دون تنسيق مباشر بالضرورة بين تلك المجموعات.

وقد ناشدت عرين الأسود الشعب الفلسطيني من جميع الفصائل الانخراط في هذه العمليات “في كل مكان”، معلنة أن السلام مع كيان الاحتلال غير واقعي بالنظر إلى سلوك إسرائيل واتجاهات الأحزاب فيها، ففي بيان لها قالت المجموعة لـ “من ينادون بالسلام .. انظر لانتخاباتهم وسترى خياراتهم، سترى إفرازاتهم، وستعلم رغم علمك أنك تلاحق سرابًا”.

كاسر الأمواج

بعد ظهور عرين الأسود وأخواتها لم تجد تل أبيب لديها سوى اللجوء إلى القوة الباطشة لوأد هذه الظواهر قبل تمددها وانتشارها، فأطلقت عملية عسكرية تحت اسم “كاسر الأمواج” ردًّا على عمليات المقاومة في مارس/آذار 2022.

وكثفت إسرائيل عمليات الاقتحام والاعتقال في مدن الضفة وقراها ومخيماتها حتى صارت نشاطًا يوميًّا لقواتها، وقُتلت مراسلة قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، برصاص قوات الاحتلال أثناء تغطيتها عملية للجيش الإسرائيلي ضد مخيم جنين في 11 مايو/أيار، في واقعة أحدثت دويًّا إعلاميًّا هائلًا على مستوى العالم.

وتركز إسرائيل على مناطق شمال الضفة الغربية باعتبارها مركزًا لنشاط المسلحين الفلسطينيين، ولأن كثيرًا من منفذي العمليات خرجوا من هناك، وتعتبر أن السلطة فقدت سيطرتها على هذه المناطق، وتعهدت تل أبيب بتكثيف جهودها «في كل مدينة أو حي أو زقاق أو منزل أو سرداب» لمنع هجمات المقاومة دون جدوى، ففي 13 أكتوبر/تشرين الأول، قال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس، إن نابلس وجنين تشكلان تحديًا كبيرًا، متوعدًا بالقضاء على عرين الأسود، معتبرًا أن نابلس وجنين هما السبب في تعزيز الجهود الاستخباراتية والقوات الإسرائيلية في الضفة الغربية.

وحاولت الحكومة الإسرائيلية، برئاسة يائير لابيد، توظيف العملية العسكرية لحشد المصوتين قبل انتخابات الكنيست، عبر محاولة استعادة ثقة الجمهور الإسرائيلي في قدرتها على فرض الأمن بالقوة وإيقاف الهجمات، وهو ما فشلت فيه فشلًا ذريعًا، وهُزم لابيد وحلفاؤه في الانتخابات التشريعية التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني، وفازت فيها جبهة زعيم حزب الليكود، بنيامين نتنياهو، بأغلبية 64 مقعدًا من أصل 120 في الكنيست الإسرائيلي.

لينتهي عام 2022، بتشكيل حكومة جديدة في إسرائيل توصف بأنها الأكثر تطرفًا في التاريخ، بعد أربع سنوات من أزمة سياسية داخلية أدلى خلالها الإسرائيليون بأصواتهم في خمس جولات انتخابية أفضى آخرها إلى فوز حكومة يتولى فيها إيتمار بن غفير منصب وزير الأمن القومي، فيما يحصل بتسلئيل سموتريتش على وزارة المالية ثم الداخلية، ووزيرًا ثانيًا للدفاع مسئولًا عن الشئون المدنية بالضفة الغربية، وكلاهما من غلاة المستوطنين المتطرفين في الضفة.

وأعلنت الحكومة الجديدة وضع التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية على رأس قائمة أولوياتها، لكن أنصارها لم ينتظروا تسلمها مهامها؛ فقبل تسلم الحكومة مقاليد الحكم كثف المتطرفون اليهود عمليات اقتحام المسجد الأقصى، مما ينذر باحتمال انفجار الضفة الغربية في أي لحظة واشتعال مواجهات واسعة مع جيش الاحتلال، وهي مواجهات لا يُتوقع أن تقف عند مدينة القدس أو حتى الضفة، بل قد تمتد لتشمل كل فلسطين التاريخية، رغم محاولات التهدئة التي تقوم بها السلطة الفلسطينية، فالمتطرفون اليهود يشعرون بحالة من الاستقواء والانتشاء، وقد يُقدمون على أي عمل استفزازي استنادًا إلى فوز أحزابهم ومشاركتها في حكومة تميل لتيار الصهيونية الدينية وتمثل أقصى اليمين الإسرائيلي، بدأت في صبيحة ليلة تنصيبها باقتحام حي الياسمينة بنابلس معقل عرين الأسود في الثلاثين من ديسمبر/كانون الأول.