مر عام على مقاطعة الرباعي العربي (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) لدولة قطر، وما زالت الأزمة تراوح مكانها وسط تمسك الطرف الأول بـ13 مطلبًا، اشترط تنفيذهم لعودة العلاقات. تستمر التصريحات والاتهامات من الجانبين، بين طرف يعتبر المشكلة «صغيرة جدًا جدًا» وآخر يدعي مقاومة حصار جائر، وما بين كلمتي «الحصار» و«المقاطعة»، يزداد تشرذم المنطقة العربية، ويُسمح كل يومٍ باختراق أطراف خارجية لأمنها واستغلال حالة الخوف المتبادلة.


ضربات استهدفت قطر منذ عام: لماذا لم تنجح؟

أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ووزير الخارجية الأمريكي السابق، جون كيري

استيقظ العالم العربي يوم الخامس من يونيو/ حزيران الماضي، ليس لاستحضار ذكرى نكسة عام 1967، بل لاستجلاب نكسةٍ جديدة، هذه المرة لم تكن إسرائيل طرفًا فيها. أعلنت دول الرباعي العربي مقاطعة قطر سياسيًا واقتصاديًا وفرض حصار بري وبحري وجوي، متهمين إياها بدعم الجماعات الإرهابية والتدخل في شؤونهم الداخلية.

قدم الرباعي 13 مطلبًا، للدوحة مشترطين تنفيذها جميعًا لأجل عودة العلاقات. كان من بين المطالب قطع العلاقات مع إيران، وإنهاء أي وجود عسكري لتركيا على الأراضي القطرية، وطرد عناصر جماعة الإخوان المسلمين بجانب إغلاق وسائل إعلامية على رأسها قناة الجزيرة. رفضت قطر المطالب معتبرة إياها تدخلًا في سيادتها، ومما زاد الأمر سوءًا أن عززت قطر علاقتها أكثر من ذي قبل مع إيران، ووقعت معها إلى جانب تركيا اتفاقية لتسهيل نقل البضائع التجارية والعبور نوفمبر/تشرين الثاني 2017، كما سارعت في إقامة قاعدة عسكرية تركية على أراضيها ليحضر الجندي التركي بمعداته إلى منطقة الخليج لأول مرة منذ انهيار الدولة العثمانية.

كانت الإجراءات المتخذة من قبل الرباعي خاصةً دول الخليج مؤلمة. حيث تحركت على مستويات داخلية وخارجية؛ داخليًا تم فرض مقاطعة قاسية، شملت منع هبوط الطيران القطري على أراضيها، وإغلاق موانئها في وجهها، بجانب طرد مواطني قطر من أراضيهم واستدعاء مواطنيها من هناك، بل ومعاقبة من يتعاطف مع قطر.

اقرأ أيضًا: كتف ابن زايد: القصة الكاملة للانقلاب الخليجي على قطر

حاول الرباعي استهداف الاقتصاد القطري، فإغلاق جميع المنافذ زاد من تكلفة الاستيراد، بخلاف الضغط على المستثمرين الخليجيين لمنع عملهم بالدوحة. قدرت وكالة «موديز» الدولية للتصنيف الائتماني، بعد شهرين من المقاطعة،إنفاق قطر بحوالي 38.5 مليار دولار، ما يعادل 23 % من إجمالي الناتج المحلي، لدعم اقتصادها، ورغم ذلك تأثرت قطاعات التجارة والسياحة والمصارف حيث خرجت تدفقات رأسمالية تقدر بـ30 مليار دولار من النظام المصرفي القطري.

لم تكتف دول الخليج بالضغط على النظام القطري داخليًا، إنما قادت تحركات خارجية لاستمالة بعض الدول تجاهها خاصة الولايات المتحدة وأوروبا، ونجحت بالفعل في استمالة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البداية، إلا أن وزير خارجيته المقال ريكس تيلرسون رفض أي تحرك ضد قطر، لتقوم واشنطن لاحقًا بدور الوسيط. كذلك فرنسا وبريطانيا وألمانيا، الذين رفضوا معاداة قطر، وبهذا فشلت دول المقاطعة في عزل قطر خارجيًا باستثناء بعض الدول الأفريقية التي أيدت الخطوة أملًا في استغلال الأمر والحصول على دعم أو استثمارات.


كيف أنقذت قطر اقتصادها في عام؟

استهدفت تحركات الرباعي الاقتصاد القطري لإضعافه إلا أن قطر تعتمد بشكل أساسي على صادرات الغاز وليس بيع منتجات زراعية أو صناعية لجيرانها، بل إنها تستورد منهم بعض هذه المنتجات، ومن ثم فهم المستفيدون من الحركة التجارية البينية أكثر، وليست قطر التي يمكنها الحصول على هذه المنتجات من آخرين، وإن كانت بأثمان مرتفعة في البداية بسبب عمليات الشحن المكلفة.

لجأت قطر لمواجهة معضلة الموانئ إلى توسعة ميناء حمد، لحل أزمة الاستيراد التي كانت تتحكم فيها الإمارات عبر ميناء جبل علي، بخلاف تصدير شحناتها من الغاز، ومن خلاله سيمكن لقطر إعادة تصدير منتجاتها إلى حوالي 130 دولة بشكل مباشر ، ولأن إيران وتركيا الآن أكبر حلفين إقليميين لها، فتحت خطوطًا ملاحية جديدة للربط معهما إلى جانب سلطنة عمان. لم تجعل قطر الميناء مجرد مكان للاستيراد والتصدير، لكنها أقامت به مشروعات لتخزين السلع الغذائية؛ لتوفير مخزون استراتيجي يكفي 3 ملايين فرد لمدة عامين، وتخطط الدوحة للاستحواذ على أكثر من 35% من تجارة الشرق الأوسط، ومنافسة جبل علي الإماراتي الذي تعتمد عليه إمارة دبي بشكل أساسي.

ولم تكتف قطر بتوسعة موانئها إنما استحوذت على موانئ دول الجوار التي تتحكم في مضائق وممرات ملاحية استراتيجية، لتوقع في مارس/ آذار الماضي مع السودان اتفاقًا مبدئيًا بقيمة 4 مليارات دولار لتطوير ميناء سواكن على البحر الأحمر. لن يكون هذا مجرد ميناء للتبادل التجاري، وإنما موقع استراتيجي لمنافسة النفوذ الإماراتي السعودي بأفريقيا لاسيما شرق القارة وعلى المضائق الاستراتيجيةـ بالتعاون مع تركيا التي استحوذت على جزيرة سواكن بالبحر الأحمر بزعم تطويرها وسط تقارير عن إقامة قاعدة عسكرية عليها، وبهذا حققا انتصارًا مهمًا بعد طرد الإمارات من الصومال، على عكس أنقرة التي شيدت مطارات وقواعد عسكرية هناك.

اقرأ أيضًا: لهذه الأسباب تنجح قطر وتفشل السعودية والإمارات في أفريقيا

بخلاف ذلك لجأت قطر إلى الاستثمار في ميناء جوادر الباكستاني، الذي سيهدد موانئ دبي بشكل أساسي، لأنه سيتيح للصين ودول وسط آسيا الوصول إلى منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، لذا استثمرت بكين أكثر من 4 مليارات دولار في منطقة جوادر، وكذلك قطر التي تعتزم استثمار 15% من قيمة مشروع «الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني»، وهو مجموعة من مشاريع البنية التحتية قيد التنفيذ ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية، ويشمل ذلك ميناء جوادر.

اقرأ أيضًا: الممر الاقتصادي: طوق الصين حول عنق العالم


هل نجحت قطر في الاستقلال فعلًا؟

تميم بن حمد، جون كيري
تميم بن حمد، جون كيري

نجحت قطر اقتصاديًا في تلبية حاجياتها، ولم تتأثر كثيرًا لأنها – كما أسلفنا – لا تعتمد على التصدير لجيرانها إنما الاستيراد وهو ما رفع تكلفة المواد الغذائية مؤقتًا، واستطاعت التغلب على هذا الأمر باتفاقات عاجلة مع تركيا وإيران، بخلاف تطوير ميناء حمد بتكلفة بلغت حوالي 7 مليارات دولار، والاستثمار في الموانئ الإقليمية.

والقول بأن قطر أنقذت اقتصادها حقيقي، لأنه غير مرتبط اقتصاديًا بأي من جيرانها، وإنما تعتمد على وفرة الغاز، ولو كان اقتصادها متداخلًا معهم لتغيرت الأمور كثيرًا. لكنها خسرت سياسيًا وعسكريًا بشكل أكبر، فتعاونها واعتمادها على إيران سياسيًا واقتصاديًا يسبب لها ضررًا استراتيجيًا، ليس فقط سخط أشقائها الخليجيين وإنما حليفها الأهم، واشنطن، وبعض الدول الأوروبية.

استفادت قطر كثيرًا من الدعم السياسي الإيراني، سواء دعمها في بداية الأزمة، وفتح أجوائها أمام طيرانها الذي لم يعد أمامه سواها، وكذلك موانئها، إلى جانب توقيع اتفاقات تجارية ذات طابع سياسي. ورغم الخلاف السياسي بينهما فيما يخص سوريا واليمن، إلا أن طهران استفادت سياسيًا من هذا الأمر، عبر التشكيك في مجلس التعاون الخليجي، الذي وصل إلى تكتل جزء منه ضد عضو كاد يصل لعمل عسكري، وأيضًا قطر استفادت كثيرًا، فبدون مساعدة إيران خاصة فتح الأجواء والموانئ كان سيحعل قطر في حالة حصار مطبق وهو ما كان سيدفعها لتقديم تنازلات للرباعي، لا محالة.

اقرأ أيضًا: السباحة ضد التيار: قطر التي لا يحبها الحكام العرب

الآن انسحب ترامب من الاتفاق النووي وبدأ حربًا فعلية ضد طهران، التي أصبحت في مرمى نيران واشنطن التي لن تقبل بالحياد. وبالفعل تعرض وزير الدفاع القطري للحرج حينما سُئل عن مشاركتهم في حربٍ ضد إيران والسماح لأمريكا باستخدام قواعدهم في الدوحة ضدها؛ قال إنهم لن يشاركوا في أي مواجهة عسكرية ضد إيران، متهمًا دول بالمنطقة بأنها تدفع نحو حرب مع طهران.

أما بالنسبة لعلاقتها العسكرية مع تركيا، فستضعها في مأزق كبير، فأنقرة بدأت مراحل متقدمة من الصدام مع الولايات المتحدة، بالتالي لن يمكن مستقبلًا للقواعد التركية أن تجاور قاعدتي العديد والسيلية الأمريكيتين بقطر، ولن يقتصر الاعتراض على الخليج، وإنما سيصل لواشنطن التي لن تستطيع قطر تجاوز حدود معينة معها.

ولا يمكن لإيران وتركيا إدامة حمايتهما للنظام القطري حتى وصل الأمر إلى تهديد السعودية بشن عمل عسكري ضد قطر في حال حصولها على منظومة إس 400 للدفاع الجوي من روسيا، ولم يدعم أحد قطر في هذا الأمر، التي اتهمت،السعودية بالتهور، ومعتبرة أن هذه رسالة من المملكة لزيادة التوتر بالمنطقة، ومن المتوقع أيضًا أن تحول واشنطن دون هذه الصفقة التي ما زالت تهدد تركيا لأنها أجرت صفقة مماثلة، فهي تخشى من اختراق السلاح الروسي في مناطق نفوذها وتهديد وجودها.

وبخلاف ذلك تعرضت قطر للابتزاز من قبل واشنطن، والأوروبيين عن طريق عقد صفقات تجارية وعسكرية قد لا تكون بحاجة إليها، إنما شيكات حماية، وابتُزت دول الخليج الثلاثة أيضًا بالأمر ذاته، فترامب حصل على صفقات خلال زيارته للرياض بأكثر من 400 مليار دولار.

وبهذا حققت قطر استقلالًا اقتصاديًا، أما سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا أصبحت رهينة توافقات إقليمية ودولية، ستأتي عاجلًا أم أجلًا عليها، وسيكون قرارها مرتبطًا بهذه التوازنات، كما أُجبرت من قبل على استخدام قواعدها في ضرب العراق. فبعد المقاطعة وقعت اتفاق عسكري مع حلف شمال الأطلنطي «الناتو»، وآخر مع بريطانيا لضمان أمنها وسبقهما اتفاقها مع تركيا، بخلاف اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة. أما بالنسبة لدول الخليج، فخسروا أكثر عن ذي قبل؛ زيادة النفوذ الأمني والعسكري الأجنبي بالخليج، وهذا خطر على أمن المنطقة، فكثرة الضغوط على قطر ستجعلها تلجأ لقوى أجنبية لتحصين نفسها، كما فعلت سوريا والعراق وهو ما تعاني المنطقة بسببه اليوم.