لعل أكثر مميزات الجوائز العربية بصفةٍ عامة، والبوكر العربية بشكلٍ خاص، أنها كثيرًا ما تلفت الأنظار إلى أعمالٍ ورواياتٍ وكتَّاب لم يتح للقارئ العربي التعرف عليهم بشكلٍ جيد من قبل، ففي كل عام نكتشف مع قوائم البوكر عددًا من الأسماء والتجارب المميزة، التي سرعان ما تحتل أعمالها صدارة المشهد الروائي، حتى وإن لم يحالفها الحظ بالفوز بجائزة الرواية الكبرى.

الروائي والمترجم السوري «خليل الرز» من هذه الأسماء المميزة، وكان لحسن الحظ أن تصل روايته «الحي الروسي» للقائمة القصيرة للبوكر 2020 ليتعرَّف القارئ على قلم هذا الروائي المتميَّز وعالمه، والذي يبدو أن رواية «الحي الروسي» ليست إلا واحدةٍ من بناءٍ كامل يعيد الكاتب خلقه وتشييده، سبقها عدد من الروايات التي تحمل الكثير من تلك التفاصيل، بناء روائي يقوم على خلق عوالم افتراضية بالكامل، تربطها بالواقع بعض الألفاظ والأفكار والمسميات، إلا أنها تحمل بعد ذلك تفاصيل خاصة بها، ربما لا تتلاقى ولا تتشابه مع أي بناءٍ روائي آخر.

ربما يوحي اسم الرواية في البداية بأننا بصدد استعادة فكرة عرض «الأحياء» التي تمثل شريحة من المجتمع على نحو ما يفعل عدد من الروائيين، بمفردة «الحي» بحد ذاتها تعطي ذلك الانطباع الواقعي الاجتماعي بشكلٍ مباشر، وربما يكون وصفه بأنه «الروسي» يحمل دلالات أخرى، سيكون القارئ ولا شك متشوقًا للتعرف عليها من خلال الرواية.

اقرأ أيضًا: رواية «حطب سراييفو»: قل لهم لا تجعلوا الحرب تنسيكم

 ولكن بمجرد البدء في القراءة يتكشف ذلك العالم المختلف والمغاير الذي ينسجه خليل الرز ببساطة، وبدون مقدماتٍ أو تمهيد. إذ نجد أنفسنا أمام حي افتراضي، يقترب ويبتعد عن أماكن واقعية معروفة في سوريا، ولكنه يبقى ذا خصوصية، إذ لدينا هنا «حديقة حيوانات» تطل من أعلاها زرافة يتم التعامل معها على أنها فرد من أفراد المجتمع، وكذلك عدد من الكلاب التي سعى الراوي لاستراضائها والتعرف على أفكارها، وعصفور منسوج من قش، هذا بالإضافة إلى بطل الرواية المترجم والصحفي الروسي الذي يدير هذه الحديقة والعازفة والمراقبة نونا، وغيرهم من شخصيات.

عالم خيالي بمفردات واقعية

يؤسفني أن أعترف بكل نزاهة لقرائنا الأعزاء من رواد حديقة الحيوانات، الصغار قبل الكبار، أنني لم أعد في هذه الأيام العصيبة قادرًا على الشعور بمشاعري الإنسانية النبيلة التي تعرفونها جيدًا، والتي حرصت دائمًا على التغني بها أمامكم في هذه المجلة الموقرة منذ سنين طويلة، لقد أصبحت ببساطةٍ كتلة مؤسفة من الحجر البارد الأصم. لم يعد يؤثر فيَّ شيء من الفظائع التي تجري أمامي. لم يعد القتل رهيبًا في عيني، بل مملًا لا أكثر، وأعترف بأنني أصبحت أملك من المناعة والقسوة وغياب الإيمان بأي مثلٍ أعلى، ما يجعلني قادرًا على النوم بكل جوارحي بعد مشاهدي محزرةٍ حية كاملة في التلفزيون.
الحي الروسي، خليل الرز

تقوم الرواية بالكامل على عالم حديقة الحيوانات المتخيل ذلك، وعلى تلك العلاقات الخاصة التي تنشأ بين الناس والحيوانات، تلك التي تجعلهم يفكرون في شراء تلفزيون خصيصًا لكي تدرك الزرافة أنها ابتعدت عن عالم الغابة القاسي والموحش، ولكن التلفزيون يعرض في الوقت ذاته مشاهد مأساوية ومؤلمة والكثير من القتل والدماء لعالمٍ آخر، تجهله الزرافة، ويتعرف عليه المترجم والدكتورة، ويسعون جاهدين لتخفيف وطأة ذلك العالم على أنفسهم، وذلك بأن يشاهدوا التلفزيون بدون صوت!

من جهةٍ أخرى يراقب المترجم تلك الأفكار التي لا شك أن الكلب يفكر فيها لكي يرضي كلبة أخرى تعيش معهم، وتدور عدد من السجالات والحوارات بين أبطال الرواية حول أفكار الكلبة التي تحمل اسمًا روسيًّا مميزًا، كما يبدأ العصفور الذي صنعته نونا من القش في الدخول لذلك العالم، ويستكشفون من خلاله تفاصيل أخرى، تتعلق بالمشاعر الإنسانية واستكشاف القدرة على الخوف، وكيف أنه من أهم المشاعر التي ينبغي الحرص عليها!

لا يسعى خليل الرز في روايته إلى بناء عالم رمزي، يحاكي «كليلة ودمنة» مثلًا عند ابن المقفع، ولكنه يبني عالمًا آخر واقعي تمام بتفاصيل جديدة خاصة وغريبة، ويسعى إلى تفكيك المتعارف عليه في العلاقات بين الناس والأشياء والحيوانات وغيرها، ويمزج باقتدار الواقعي بالمتخيل، إذ يصل للقارئ وأبطال الرواية على السواء آثار الحرب وأصوات القنابل والمدافع، في الوقت نفسه الذي يدور فيه حوار بين الأبطال حول تثاؤب الزرافة أو كيفية الاعتناء بالعصفور، ومراقبة أفكار الكلاب والاستفادة منها!

لقد كان الحي الروسي منذ نشوئه وما يزال، برزخًا هشًّا، لكنه قابلٌ للحياة بصورةٍ من الصور، ومتاح فوق ذلك للجميع، ولأسبابٍ وجودية ملحة تتعلق بفرادة هذا الحي ودقة تكوينه، احتاجت الأحداث المهمة الفاصلة في حياته دائمًا إلى الكثير من الوقت والتأمل والغبار والتردد والترصد والتمحيص والوساوس. ولقد تعلَّم الناس درسًا مهمًّا جديدًا من الثلج الأخير الذي أسعفهم في المواجهة بين بوريا وعصام أمام حديقة الحيوانات. لقد ظلوا ينظرون إلى عصام نظرهم إلى البطل الذي سيخوض باسمهم ومن أجلهم معركة لا تنتهي. بيد أنهم الآن لن يسعوا إلى هذا اليوم الفاصل الضروري المجيد مرة أخرى.
الحي الروسي، خليل الرز

في الوقت نفسه يدين الكاتب بشكلٍ بسيطٍ وغير مباشر عددًا من ممارسات السلطات الديكتاتورية، التي تفرض نظامًا عشوائيًّا وتلزم الناس به، كما يعرض لموقف البسطاء المستسلمين لأقدارهم، وكيف يمكن أن تتحوَّل حياتهم وطريقة تفكيرهم إلى الرضوخ الكامل للأوامر والتعليمات، حد أنهم يتغنون بالخوف باعتباره أساسًا تبنى عليه الحياة، لا يمكن الاستغاء عنه، بل يبدو ضروريًّا وهامًّا لنمو النباتات وبناء البيوت والسفن والطائرات وتأليف الكتب والأغاني!  إنها سيطرة الديكتاتورية وسلة القمع التي تجعل كل شيءٍ بحساب، وتطرد كل المخالفين والمعترضين على نظامها المحكم!

من جهةٍ أخرى استطاع الكاتب أن يرصد عددًا من التفاصيل الدقيقة في عالم روايته، ولعل أكثر ما يميز الرواية احتفاؤها بالتفاصيل، سواء تعلق ذلك بالمستوى الواقعي الاجتماعي، حينما رصد علاقة البطل بأمه، وذلك الربط الخيالي الذي وضعه بين أمه والزرافة، أو حتى المستوى الخيالي المحض الذي دار فيه بين مشاعر وأفكار الحيوانات التي تلبست المشاعر الإنسانية كلها، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من عالمها.

خليل الرز روائي ومترجم سوري، صدر له عدد من الروايات الهامة منها «سلمون إيرلندي» 2004، و«بالتساوي» عن دار الآداب 2014 ، ورواية «البدل» عن المحروسة 2017، وغيرها، نشرت بعض رواياته في مجلة الكلمة اللندنية،  كما ترجم عددًا من الأعمال الأدبية عن الروسية منها «مختارات من قصص تشيكوف» عام 2007 و «حكاية الزمن الضائع »لشفارتس. وصلت رواية «الحي الروسي» إلى القائمة القصيرة للجايزة العالمية للرواية العربية «بوكر» 2020. التي من المنتظر أن تعلن عن الفائز بالجائزة لهذا العام في 14 أبريل القادم.