تواجه المملكة العربية السعودية اليوم واحدة من أكبر الأزمات الدولية في تاريخها، على خلفية قتل الصحفي البارز جمال خاشقجي في قنصليتها بإسطنبول، على يد مجموعة من عملائها، مطلع الشهر الجاري. على الجانب الآخر، تعد هذه الأزمة فرصة جيدة لاختبار قوة جماعات الضغط التي استثمرت المملكة فيها عشرات الملايين من الدولارات، من أجل الدفاع عن مصالحها في واشنطن.

يقدم هذا المقال عرضًا لبعض ما تناوله تقرير مطول نشرته جريدة «واشنطن بوست»، في الحادي والعشرين من أكتوبر/ تشرين الثاني الجاري، تحت عنوان: «داخل ماكينة النفوذ السعودية في واشنطن: كيف اكتسبت المملكة القوة من خلال الضغوط الضارية والهجمات السحرية».

اقرأ أيضًا:ذهب ولم يعد: من هو المعارض السعودي جمال خاشقجي؟


أموال وهدايا وعلاقات شخصية

كثف السعوديون منذ عام 2017 (تزامنًا مع صعود الرئيس ترامب إلى السلطة) جهودهم لبناء شبكة علاقات قوية داخل الولايات المتحدة. أنفقت المملكة العام الماضي فقط 27.3 مليون دولار على اللوبيات في واشنطن، وهو مبلغ يتجاوز ما جرى إنفاقه عام 2016 بنحو ثلاثة أضعاف (7.7 مليون دولار). كما سجل أكثر من 200 شخص أنفسهم كوكلاء للدفاع عن المصالح السعودية منذ عام 2016، وفقًا لوثائق ضغط نشرها مركز السياسات العامة Center for Responsive Politics.

من بين أولئك الذين حصلوا على أموال من السعودية، بعض أكبر مراكز العلاقات العامة والضغط في واشنطن، مثل McKeon Group، الذي يشرف عليها الرئيس السابق للجنة القوات المسلحة في مجلس النواب هوارد ماكيون، وBGR Group، التي أسسها الجمهوريان البارزان إد روجرز (المستشار السابق في البيت الأبيض) وهالي باربور (حاكم ولاية مسيسيبي السابق)، وGlover Park Group، التي أسسها سياسيون استراتيجيون من الحزب الديمقراطي، بينهم جو لوكهارت (السكرتير الصحفي السابق للبيت الأبيض) وكارتر إيسكو.

وبشكل منفصل، تدفق المال السعودي، وكذلك مال حليفتها الوثيقة دولة الإمارات العربية المتحدة، إلى مراكز الأبحاث في جميع أنحاء واشنطن، بما في ذلك مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ومعهد بروكينغز ومعهد الشرق الأوسط. وقد تلقى المعهد الأخير، خلال عامي 2016 و2017، ما بين 1.25 مليون دولار و4 ملايين دولار مقابل الترويج للمصالح السعودية. كما حصل ذات المعهد أيضًا في عام 2016، على 20 مليون دولار من الإمارات – التي دعمت ادعاءات الحكومة السعودية بشأن وفاة خاشقجي – لتجديد مقرها.

بالإضافة إلى هذا، ينظم السفير السعودي بواشنطن حفلات عشاء حميمية، بصفة مستمرة، مثل الحفل الفخم الذي أقيم في قاعة «أندرو دبليو ميلون» على شرف زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة في مارس/ آذار الماضي، والذي أرسلت المملكة فريق ضغط لضمان حضور كبار أعضاء لجان الكونغرس للعلاقات الخارجية.

اقرأ أيضًا:الصفقة الكبرى: أكثر ما تخشاه إسرائيل في قضية خاشقجي

كما قدم المسؤولون السعوديون، في وقت سابق من العام الجاري، تذاكر للمباراة النهائية في دوري كرة القدم الأمريكية «سوبر بول»، ورحلات طيران خاصة إلى الحدث، لبعض الإعلاميين البارزين مثل جيك تابر من «سي إن إن» وبريت باير من «فوكس نيوز».

إلى جانب إنفاقهم السخي في واشنطن، تمتع السعوديون بميزة لا تقدر بثمن: علاقة دافئة مع الرئيس ترامب، الذي قام بأعمال تجارية مع مواطني المملكة الأثرياء، وصهره جاريد كوشنير، الذي طور علاقة وثيقة مع ولي العهد محمد بن سلمان، كما صاغ سياسة الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط.


المال السعودي أتى أُكله

في مطلع آذار/ مارس الماضي، استدعى السفير السعودي في واشنطن الأمير خالد بن سلمان (نجل الملك)، مجموعة من أبرز جماعات الضغط في واشنطن للقائه في السفارة، من أجل التصدي لتحدٍ دقيق ذي شقين.

كان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يستعد لزيارته الرسمية الأولى إلى الولايات المتحدة، بعد 4 أشهر فقط من توطيد سلطته عن طريق اعتقال نخبة من الأمراء ورجال الأعمال البارزين (اعتقالات الريتز كارلتون). وفي الوقت نفسه، كان الكونغرس يستعد للتصويت على قرار يسعى لإنهاء الدعم الأمريكي للحملة العسكرية السعودية في اليمن، والتي أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف من المدنيين منذ عام 2015.

خلال اجتماع عقد بعد ظهر يوم 12 مارس/ آذار، جلس السفير السعودي على رأس طاولة فخمة في قاعة المؤتمرات بالسفارة، وأمامه مجموعة من المستشارين البارزين، بينهم نورم كولمان، عضو مجلس الشيوخ السابق عن ولاية مينيسوتا، ومارك إس. لامبكين، مستشار الكونغرس المخضرم والذي خدم في فريق الرئيس دونالد ترامب الانتقالي، والخبير الاستراتيجي الديمقراطي ألفريد إ. موتور.

بعد 8 أيام من هذا الاجتماع، صوت الكونغرس بالرفض على مشروع القرار الذي يهدف إلى انتزاع الولايات المتحدة مما وصفته الأمم المتحدة بأنه «أسوأ أزمة إنسانية في العالم»، وذلك بعد ساعات من الترحيب بالأمير محمد بحرارة في البيت الأبيض في بداية جولته على مستوى البلاد.

يعكس هذا النجاح المزدوج قوة النفوذ السعودي وقدرته على تشكيل السياسات والتصورات في واشنطن، وكذلك القدرة على مقاومة الانتقادات الموجهة للمملكة النفطية، عن طريق دفع ملايين الدولارات إلى جماعات الضغط، وشركات المحاماة، ومراكز الفكر البارزة، ومقاولي الدفاع عن السياسيين.


هل يتراجع اللوبي السعودي عن دعم المملكة؟

تعيد العديد من المؤسسات الآن النظر في علاقاتها مع المملكة العربية السعودية في أعقاب قتل الكاتب الصحفي جمال خاشقجي، الذي تعتقد السلطات التركية أنه قتل عمدًا من قبل فريق مؤلف من 15 شخصًا من العملاء السعوديين.

وقال دانيال بنجامين، مدير مركز جون سلوان ديكي في جامعة دارتموث، الذي سبق له العمل في معهد بروكينغز ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: «بالنسبة لمراكز الأبحاث، وكذلك الجامعات والمتاحف، فإن أخذ تمويل سعودي سوف يترك لهم وصمة عار في الأيام المقبلة».

اقرأ أيضًا:يريدها معركة أطول: أهم ما جاء في خطاب الرئيس التركي

وأعلن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، يوم الجمعة، أنه سيتوقف عن المضي قدمًا في الحصول على منحة بقيمة 900 ألف دولار من الحكومة السعودية، من أجل تقديم تدريبٍ لتطوير المهارات لأعضاء سفارتها في واشنطن. وقال المتحدث باسم المركز أندرو شوارتز: «لا نزال نعتقد أن الولايات المتحدة لديها مصلحة في الحفاظ على العلاقات الثنائية مع المملكة العربية السعودية.

أغلب ما تريد الولايات المتحدة تحقيقه في الشرق الأوسط سيصبح أكثر صعوبة في غياب مثل هذه العلاقة. لكن في الوقت الحالي، وبالنظر إلى الظروف المحيطة بقتل السيد خاشقجي، قرر المركز إعادة تقييم علاقته الخاصة مع المملكة».

وبالمثل، أخبرت مؤسسة بروكنغز موقع BuzzFeed، الأسبوع الماضي، أنها ستنهي منحة البحث الوحيدة التي حصلت عليها من السعوديين – وهو مبلغ من ستة أرقام – لتقديم تحليل وتقييم للمؤسسات الفكرية السعودية.

أما معهد الشرق الأوسط، فقد دعا، الأسبوع الماضي، السلطات السعودية إلى «التحرك بسرعة لإظهار الحقيقة فيما حدث للسيد خاشقجي ومحاسبة المسؤولين عنه». وقال المعهد إنه قد يرفض التمويل السعودي لكنه الآن قرر «إبقاء المسألة قيد المراجعة النشطة بانتظار نتيجة التحقيق».

وأعلنت مجموعة من شركات الضغط التي تمثل المملكة العربية السعودية في واشنطن (مثل the Harbour Group، وBGR Group، وGlover Park Group) توقفها عن تمثيل المملكة، على خلفية ما حدث لخاشقجي.

المؤكد الآن أن هناك تراجعًا من قبل بعض المؤسسات والأفراد عن دعم السعودية، لكن ما يجب تحديده هو ما إذا كان ذلك يمثل نقطة تحول حقيقية في علاقات واشنطن بالرياض، أم أنها مجرد تهدئة قبل أن تعود الأعمال إلى طبيعتها؟ وهذا ما ستكشفه ردود الفعل المتتالية من داخل العاصمة الأمريكية على قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.