رجل عادي يسير في الشارع. ينتبه فجأة إلى الرصيف المقابل ويرى أحدهم يحمل كاميرا ويقوم بتصويره. يصيبه الارتباك في البداية ثم يكتسب الثقة تدريجيًّا ويجاري المصور المجهول، يواصل مشيه بينما عيناه تراقب المصور، وفجأة يصطدم بعمود الإنارة، فتنهار هيبته المزعومة وتتداعى ثقته من علٍ، وينفجر الجمهور في الضحك.

على مدى تاريخ السينما المصرية احتلت الأفلام الكوميدية مكانة مميزة، وﻻ عجب في ذلك، فنحن شعب يروق له الترويج لنفسه بوصفه خفيف الظل، وصاحب نكتة، ويواجه أزماته العضال بالسخرية والضحك. شهدت الكوميديا المصرية تحولات عدة على أيدي أجيال مختلفة من الممثلين الكوميديين، وﻻ زالت إلى اليوم تحتل مكان الصدارة في شباك التذاكر المصري، مع استثناءات بسيطة، غير أن المتمعن في حال الكوميديا المصرية اليوم ﻻ يخفي عليه تراجعها الواضح على أكثر من مستوى، واعتمادها القصري على كوميديا النكتة أو «الإفيه»، وهو أسهل أنواع الكوميديا، وأبعدها عن فن السينما.

تأمل معي عزيزي القارئ هذا المثال البسيط الذي استهللنا به المقال، هذا الموقف التقليدي الذي رأيناه العديد من المرات بتنويعات مختلفة، واسأل نفسك: أين تكمن الكوميديا في هذا الموقف؟ وكيف يستجلب الضحك ممن يشاهده؟ بالطبع ليس هناك نكتة منطوقة، فالمشهد خالٍ تمامًا من أي حوار، لكن الكوميديا تكمن في الصورة والأداء، وإذا ما أضفنا مؤثرًا صوتيًّا مناسبًا لارتطام هذا الرجل بالعمود اكتمل الثالوث الكوميدي المؤسس للكوميديا السينمائية: الصورة، والصوت، والأداء.

قبل أيام بدأ عرض الفيلم المصري «نادي الرجال السري»، من بطولة كريم عبد العزيز، وماجد الكدواني، وبيومي فؤاد، وغادة عادل، ومن تأليف أيمن وتار، وإخراج خالد الحلفاوي. في السطور القليلة القادمة نستعرض أبرز الملامح المميزة لهذا الفيلم، والتي تؤهله للخروج عن مألوف الكوميديا في السينما المصرية. وقبل أن نقوم بذلك، ينبغي أن نشير إلى أن هذا المقال لن يحتوي على أي حرق لأحداث الفيلم، وسيقتصر على الإشارة إلى عدد من المشاهد التي وردت في الإعلان الدعائي للفيلم.


الأداء ﻻ النكتة

هكذا يقول الممثل الإنجليزي روان أتكنسون، صاحب شخصية «مستر بين»، أحد أشهر الشخصيات الكوميدية على مستوى العالم. وهنا تكمن المعضلة الرئيسية التي تعاني منها الكوميديا المصرية.

تعتمد الأفلام الكوميدية المصرية على النكتة والإفيه بشكل قصري، ويقال إن المنتج السينمائي يعتمد في تقييمه للسيناريو الكوميدي على مدى جودة النكتة التي يحويها. هناك أزمة مفاهيمية حقيقية تعاني منها صناعة السينما المصرية فيما يتعلق بالسيناريو، وتتجسد في الاسم الدارج له بين الصناع: «الورق». فالسيناريو ليس أكثر من ورق يكتب عليه وصف المشاهد، في اختزال واضح لوظيفة واحد من أهم عناصر الصناعة، ولهذا فإن المنتج السينمائي ﻻ يقرأ سيناريو الفيلم الكوميدي، وإنما يسمعه. فيجلس الواحد منهم مع السيناريست الذي يلقي عليه السيناريو، أو بالأحرى يلقي عليه نكات السيناريو، فإذا ما ﻻقت هذه النكات استحسان المنتج، وافق على شراء النص/الورق.

اقرأ أيضًا:«مايكل ريتشاردز»: ملك الكوميديا الجسدية بلا منازع

ولكن بالرجوع إلى أتكنسون، فالكوميديا ﻻ تكمن في النكتة، ولكن تكمن في أداء الممثل لهذه النكتة، ولهذا يقول في سياق آخر إنه يفضل كوميديا الشخصية على كوميديا النكتة، فعلى حد قوله: «كوميديا الشخصية ﻻ تعتمد على فعل أشياء مضحكة، ولكن تعتمد على فعل أشياء عادية بطريقة مضحكة». تأمل معي عزيزي القارئ هذا المقطع البسيط. هنا أتكنسون لا يقوم بأي فعل كوميدي، إنه يقوم بفعل عادي، ولكن بطريقة مضحكة. الكوميديا تكمن في أدائه وعزفه على بيانو متخيل بالتزامن -بدقة عجيبة- مع صوت النغمات الحقيقية، بالإضافة إلى تعبيرات الوجه الموحية والكوميدية أيضًا.

في أحد المشاهد التي تظهر في الإعلان الدعائي لفيلم «نادي الرجال السري» نرى ماجد الكدواني في زي طيار، ويقوم بإلقاء نكتة بسيطة يقارب فيها بين الطيار وسائق الميكروباص، حين يقول: «أنا الحقيقة شغال خط روما جدة، بس غيرت الأيام دي علشان الأعياد». نكتة قد تكون سمعتها مرارًا ولكن وقعها هنا مختلف، والسر في ذلك هو في أداء الكدواني نفسه، وفي التلقائية التي يلقي بها هذه النكتة المكررة. وإذا ما وضعنا هذه النكتة البسيطة في سياق قصة الفيلم فإنها تستجلب المزيد من الضحك.

يحتوي الفيلم على العديد من هذه النكات، بل إن هناك مجموعة من النكات التي تدور في فلك نفس المقاربة بين هاتين الوظيفتين شديدي التباعد، غير أن ما يميزها هنا هو أداء الممثلين بالأساس. تأمل معي مشهدًا آخر عندما يقوم بيومي فؤاد بالتعليق على ملابس ماجد الكدواني بقوله: «ده ﻻبس فانلة حمالات!»، والتي يعقبها تعليق آخر من معتز التوني: «إيه الفانلة دي؟». هذه ليست نكتة من الأساس، ولكن السياق نفسه، والجدية التي تغلف أداء الممثلين في قولها هي ما يستجلب الضحك. والآن تخيل معي منتجًا سينمائيًّا يستمع إلى هذه المشاهد في جلسة قراءة السيناريو/الورق، كيف له أن يراها جديرة بالضحك بدون أداء الممثلين؟


السينما هي فن الصورة

في أحد المشاهد التي تظهر في الإعلان الدعائي نرى فتاة جميلة تبكي وتقول: «في بنات كتير جوه ومستر لبيب بيمشي الوحشين». أحد أهم منابع الكوميديا هي المفارقة. في كوميديا النكتة تكون المفارقة لفظية بالطبع، غير أن السينما تعتمد على الصورة بشكل أساسي، ولهذا يستحسن أن تكون الصورة هي ما تحمل المفارقة وليس اللفظ/الحوار. في هذا المشهد تكمن الكوميديا في شكل الفتاة، هذه فتاة جميلة تخبرنا أن مستر لبيب يطرد «الوحشين».

أجاد صناع فيلم «نادي الرجال السري» استخدام الصورة في خلق الكوميديا. العديد من المشاهد تتضمن هذه المفارقات المصورة، من ذلك أحد المشاهد التي نرى فيها كريم عبد العزيز يرتدي ملابس عادية، فتسأله زوجته عن وجهته، فيخبرها أنه ذاهب إلى العيادة، فتسأله باستنكار: «من إمتى بنروح العيادة لابسين كده؟». وفي اللقطة التالية نراه مرتديًا زي طيار. هذا المشهد يتم توظيفه بشكل مختلف في الفيلم عنه في الإعلان، ولكنه يحمل الفكرة نفسها، أن الصورة هي ما تحمل النكتة، وليس الحوار.

إذا ما سألت نفسك عزيزي القارئ، لماذا نشاهد أفلام تشارلي شابلن اليوم بعد ما يقارب القرن على صنعها، ونرى فيها ما يضحكنا؟ الإجابة هي في الأداء والصورة، فأفلام شابلن الصامتة، وكذلك أفلام معاصره باستر كيتون، تعتمد بالأساس على أداء الشخصيات، وعلى الكوميديا التي تخلقها الصورة، ولكن بعد دخول الصوت إلى السينما وجد فيه الصناع منبعًا إضافيًّا للكوميديا وثيق الصلة بفن السينما.

في أحد مشاهد الإعلان الدعائي نرى كريم عبد العزيز يخاطب ماجد الكدواني، بينما وضع على فم الأخير شريطًا لاصقًا يمنعه من الكلام، ولكننا نراه يتجاوب معه بأصوات ﻻ تحمل أي ألفاظ. هذا مشهد طويل نسبيًّا في الفيلم اقتطعت منه هذه اللقطة القصيرة للإعلان الدعائي. في هذا المشهد يقتصر حضور الكوميديا على هذه الأصوات التي يقوم من خلالها الكدواني بالرد على كريم عبد العزيز، وهي أكثر من كافية لاستجلاب الضحك من المشاهدين.

هنا نرى مصدرًا جديدًا ومختلفًا للكوميديا ليس من المعتاد أن تراه في السينما المصرية، يعتمد فقط على الصوت. في مشهد آخر من الإعلان نرى أحمد أمين يمسك بجهاز كشف المعادن يمر به على رأس زوجته، فتسأله عما يفعل فيجيبها: «هنعمل كشف بنس». هذه نكتة ظريفة بالطبع، ولكن تأثيرها يتضاعف بإضافة مؤثر صوتي يحاكي صوت جهاز كشف المعادن.

لنعد مرة أخرى عزيزي القارئ لتخيل جلسة المنتج مع كاتب السيناريو، ومحاولة الأخير إقناع الأول بهذا المشهد الذي يعتمد بالأساس على الصوت وليس النكتة وحدها.


المعالجة: كوميديا القصة الخلفية

أعتقد أنني أستمتع بالأداء أكثر من النكتة، عادة ما أستمتع بالمؤدي نفسه وأسلوبه في إلقاء النكتة.

في فيلم «عريس مراتي» من بطولة إسماعيل يس، وعبد السلام النابلسي، وإنتاج عام 1959، تدور أحداث الفيلم حول إسماعيل الذي يحاول العثور على وظيفة، ومن أجل ذلك يدعي أنه أعزب، وفي خط فرعي نتابع قصة محمود وزوجته، الشخصيتين الشهيرتين اللتين ابتكرهما فؤاد المهندس في مسلسله الإذاعي «ساعة لقلبك»، ويقوم بأدائهما فؤاد المهندس وخيرية أحمد صاحبة الجملة الشهيرة «محمود يا حبيبي». هذا الخط الفرعي لا تربطه أي صلة بقصة الفيلم الرئيسية سوى أن هذين الزوجين يقطنان في العمارة نفسها التي يسكنها إسماعيل يس.

كما أسلفنا، اقتصرت السينما الكوميدية في السنوات الأخيرة على كوميديا النكتة، ومن ثم كان هناك إهمال واضح لقصة الفيلم وأسلوب سرده، ولم تعدُ القصة في أي من الأفلام الكوميدية أن تكون مجرد قصة خلفية تقليدية ومتوقعة، تؤسس فقط لعالم الشخصيات، ليتابع الفيلم تقديمه للمزيد من المواقف التي تمر بها الشخصيات وتعطيها المساحة لإطلاق النكتة تلو النكتة.

وفي حين أن فيلم «عريس مراتي» يحتوى على قصة رئيسية نتابع أحداثها بالكثير من التشويق لمعرفة النهاية، ﻻ تتجاوز الأفلام الكوميدية الحديثة هذه القصة الفرعية الشبيهة بقصة محمود وزوجته، والتي ﻻ تتضمن سوى حبكة بسيطة تستعرض عددًا من المواقف المتنوعة التي تمر بها الشخصيتان.

أما في فيلم «نادي الرجال السري» فنرى معالجة حداثية لقضية العلاقات الزوجية، تقوم على حبكة محكمة تزداد تعقدًا بمرور الوقت إلى أن نصل إلى الذروة، ثم تنفرج الأحداث تباعًا، وعلى مدى الفيلم يتابع المشاهد هذه القصة المشوقة برغبة حقيقية في الوصول إلى نهايتها، ويمر في هذه الرحلة بالكثير من المفاجآت المحكمة. بالطبع يتضمن الفيلم عددًا من المبالغات، ولكنها مقبولة تمامًا في سياقها.

ولكن على الرغم من كل ذلك، لم تعدم معالجة الفيلم مواطن النقص والتقليدية، وخاصة في فصله الأخير. فبالرغم من القصة المختلفة والجريئة في طرحها، فإنها تنتهي نهاية أكثر من تقليدية، وتعتمد في تصويرها على الكثير من كليشيهات السينما المصرية وخاصة النهاية المفعمة بالدراما المؤثرة المصحوبة بالموسيقى التصويرية الموحية.

وكذلك على مستوى الشخصيات، فعلى الرغم من الدقة الشديدة في رسم غالبية الشخصيات وأداء الممثلين لها، جاءت شخصية الزوجة فقيرة للغاية خاصة على مستوى التحول الأخير للشخصية، وهو ما انطبع بالتبعية على أداء غادة عادل لها، خاصة في المشاهد الكوميدية الصرفة، فبرغم حرفية الكتابة في تلك المشاهد فإن أداء غادة عادل لها كان غير موفق على الإطلاق، ويبدو أن السبب في ذلك هو في عدم ملاءمتها للدور، وأن اختيارها بالأساس كان اختيارًا تجاريًّا يرجع لحجم نجوميتها.

فيلم «نادي الرجال السري» هو تجربة موفقة للغاية لكل صناعه، وخاصة لنجميه كريم عبد العزيز وماجد الكدواني، اللذين يعودان إلى الكوميديا بعد فترة انقطاع طويلة نسبيًّا، كما أنها تجربة هامة للسينما الكوميدية أعادت إحياء العديد من منابع الكوميديا المفقودة في السينما المصرية منذ عقود ليست بالقليلة، وأثبتت فشل نظرية «الورق»، وأكدت أن الكوميديا السينمائية قد تكون صعبة ولكنها غير ممتنعة.