في سياق النّقد، غالبًا ما يتمّ تعريف العصور الحديثة باعتبارها عصور النّقد، كيف لا وكانط قد كتبَ مقالته الشهيرة عن التنوير التي يوضّح فيها مهمّة النقد العموميّ، وكيف أنّ التنوير هو خروج؛ خروج من المتابعة العقليّة لشخصٍ ما، إلى استعمال ملكة الحكم. أريد أن أتوقّف عند كانط قليلًا، لأنّه مرجع في الفكر الليبراليّ الحديث، وأيضًا لأنّه من أرسى النّقد ملكةً، ونصّبه كشاهد على العصر الحديث. إذ «الأنوار هي عصر النّقد»، كما وضّح فوكو في قراءته الشهيرة لكانط.

يَعتبر كانط أنّ الكائن الإنسانيّ يمرّ بمراحل؛ حيث الدوغمائيّة، ثمّ الشكوكيّة، ثم النضج حيث يستعملُ النّقد كسلاح أخير يحمي به العقل من شطط الميتافيزيقا ومن الارتيابيّة.

فإفلاتًا من الدوغمائيّة والشكوكيّة، أي بين وولف وهيوم، اختار كانط أن يؤسّس لمنطقة وسط هي منطقة النّقد. النّقد، كانطيًّا، هو سلاح، يُسائل العقل على عكس الدوغمائيّة، ويُنشئ منهجًا على خلاف الشكوكيّة التي يرى كانط أنّها تهدم أيّ إمكانيّة لقيام منهج. ويَعتبر كانط أنّ الكائن الإنسانيّ، عقليًّا، يمرّ بمراحل؛ حيث الدوغمائيّة هي المرحلة الأولى، ثمّ الشكوكيّة، ثم النضج حيث يستعملُ النّقد كسلاح أخير يحمي به العقل من شطط الميتافيزيقا ومن الارتيابيّة التي تهدّده. إنّ النقدَ، بالنسبة إلى كانط، لا يعني توجيه الأسهم صوب الادّعاءات الكنسيّة أو الدولتيّة وحسب، إنّه بمثابة عمليّة تصحيح إبستمولوجيّ ذاتيّ؛ حيثُ «النقد العموميّ» الذي يستعمله العقلُ الحرّ هو القادر وحده على التصحيح.

إنّ النّقد الكانطيّ ليس معنيًّا باليوميّ، كما يشيرُ طلال أسد، وإنّما منصبًّا على الإبستمولوجيا. وهنا نفهم الموقف المتذبذب لكانط حيال الثورة الفرنسيّة: فكانط كان يؤيّد الثورة الفرنسيّة في ديارها، بينما رفضها في بروسيا، ألمانيا، حيث يعيش. وكان كانط، فيلسوف النّقد، محافظًا سياسيًّا، بل دعى إلى إصلاح تدريجيّ عن طريق نشر التنوير بين الجماهير، فالثورة الرّاديكاليّة ستُحدث انشقاقًا في لحمة المجتمع وستفرّق النّاس. وهذا يوضّح كيف أنّ النقد لا يحمي من المحافظة والرجعيّة أحيانًا، إذ ليس هناك من تلازم بين التطور العقلانيّ المتقدّم –حسب هذا التصوّر للتاريخ– وبين التقدّم السياسيّ نفسه.

أردتُ أنّ أتوجّه من مثال كانط، بما أنّه مدشّن النّقد، إلى ما يحصل في كثيرٍ من النّقاشات العلمانيّة-الإسلاميّة، أو بالأحرى العلمانيّة-الدينيّة، عندما يُعرَض الموقف العلمانيّ دائمًا باعتباره موقفًا طبيعيًّا، وحياديًّا، وعقلانيًّا، في حين يُعرَض الموقف الدّيانيّ باعتباره غير نقديّ، وغير عقلانيّ، ويحتاج دائمًا إلى تبريرات جمّة للإقناع، في حين أنّ «العلمانيّ» أصبح بمثابة شرطٍ قبليّ للشّرط الحديث الذي نحيا، أي في «العصر العلمانيّ» الذي أصبحَ فيه الإيمانُ خيارًا من خياراته –ولكنّه الخيار الذي يحتاج دائمًا إلى تبرير، وإلى خصْخصة، وإلى عدم إعلان والحجاج من أرضيّته بشيء.

مثلًا، دائمًا ما كان الموقف العلمانيّ يقدّم نفسه باعتباره شجاعًا بما يكفي لأن يخوضَ، ويشتبكَ، ويُسائلَ ما لا يقدر أن يقومَ به الموقف الدينيّ. وهناك «شجاعة» ما –أريدُ أنا أسبرها في هذا المقال- منسوبة للعلمانيّ، والدّينيّ متروكٌ دائمًا في أفق غامض، إمّا باعتباره «معتقدًا» ومن ثمّ فهو خاصّ، وإمّا باعتباره بقايا عالم قديم ستدهسُه قوى العلمنة والتحديث التي «تُسوِّي» الوضعَ في سبيل مزيد من العلمنة وإفراغ الحياة من الله.

ويُقدَّم تاريخ العلمانيّ والدينيّ باعتباره تاريخًا متمايزًا؛ أي باعتباره تاريخًا منفصلًا لمقولتين، وتصنيفين، وإبستمولوجيّتين انبثقا بمعزلٍ عن الآخر، ولم يساعد أحدهما في بناء الآخر، وإنّما في نقضه والانقضاض عليه. بل، والأدهى، أنّ هذا التاريخ يُقدّم ويُنظَر إليه كتاريخ للصراع. صحيح أنّ الشرطَ الحديث بوّأ العلمانيّ المنزلة الطبيعيّة والبديهيّة، بحيث غدا «الفضاء الذي تُحرَّر بداخله الحياة الإنسانيّة من قوّة الدين»، كما يقول طلال أسد، ولكن، وكما يوضّح أسد نفسه، فإنّ هذا التصوّر المعياريّ (normative) للعلمانيّ والديانيّ باعتبار أن الأخير يندثر وقتما ينتشرُ الأوّل، هو تصوّر غير تاريخيّ، وغير جينالوجيّ، لا يعتبرُ للتشابكات والتداخلات التي ولّدت المقولتين في سياقاتٍ تاريخيّة بعينها.

وفقًا لهذا التصوّر المعياريّ، ينفلتُ العلمانيّ من أفق الدينيّ باعتباره مموضعًا وناشئًا من سياق عقلانيّ-نقديّ-دنيويّ-محايث، ومن ثمّ يصيرُ الدينيّ ابنًا لسياق أرثوذكسيّ-لا عقلانيّ-غير نقديّ-متعالٍ. وكما توضّح جوديث بتلر وغيرها، بموجب هذا التصوّر، يتّخذُ العلمانيّ صفةَ النّقد بصورة طبيعيّة، باعتبار أنّ النّقد علمانيّ، والدّينيّ تُنسَب إليه صفة الديماجوجيّة أو الاعتقاد أو الهلوسة، في أسوإ الأحوال.

إنّ إرْداف سِمة «النقد» بالعلمانيّ و«الديماجوجيّة» بالدينيّ لا تجري جينالوجيا دقيقة لما كان يعنيه النّقد وما صار يعنيه.

إنّ إرْداف سِمة «النقد» بالعلمانيّ و«الديماجوجيّة» بالدينيّ لا تجري جينالوجيا دقيقة لما كان يعنيه النّقد وما صار يعنيه. وقد عابَ طلال أسد على فوكو جينالوجيّته غير الكافية لمفهوم «النّقد» الذي يظنّ فوكو أنه ابتدأ منذ القرن السابع عشر (مع كانط والأنوار). فالنّقد قديمٌ منذ المسيحيّة القديمة، وموجود في القرون والوسطى، وهذا التتبّع الجينالوجيّ مهمّ في فهم الدلالة الحديثة للنّقد، وكيف تحوّلت. فللنقد معانٍ كثيرة، لا يمكن اختزالها في معنى واحد، فقد كان هناك نقد دينيّ، وأدبيّ، وفلسفيّ، إلخ، وهو «مفهوم عائليّ» لا يمكن ردّه إلى طرف واحد، ولذلك فإنّ الجينالوجيا غير الكافية التي تردّه إلى الحقبة الحديثة تغفل عن استعمالاته السّابقة، لهدف تمايز بين كون النّقد علمانيًّا والدوغمائيّو دينيّة.

وفي سياقات كثيرة، مثلًا، عندما يتمّ تفنيد ما يُطلق عليهم «المسلمون الأرثوذكسيين» من قبل النّقاد الليبراليّين، فإنّهم يصفونهم بذلك باعتبار أنّ هؤلاء المسلمين يصنّمون أشكالًا ظاهريّة للإسلام -النبيّ، الحجاب، القرآن- على حساب التجربة الروحيّة الأعمق للدين نفسه. يَرِدُ هذا النّقد دائمًا لإظهار «نصوصيّة» المسلمين، وجمودهم، ويردُ هذا أيضًا باعتباره «نقدًا» –أي، «علمانيًّا» ببساطة– في حين أنّه، في واقع الأمر، تصوّر بروتستانتيّ للدين، والذي يفصلُ بين الخصوصيّ والعموميّ. لقد أظهرتُ في المقال السّابق كيف تواشجَت المسيحيّة وعمليّات العلمنة تاريخيًّا، بحيث إنّ إنتاج «علمانيّات متعدّدة» خارج الغرب ما هو إلّا تمديد لتصوّرات مسيحيّة –حتى وإن عُلمنت– على العالَم اللا غربيّ، واللامسيحيّ.

وكما بيّن خوسيه كازانوفا وغيره، لم ينتشر العلمانيّ على حساب الدين –كما هو التصوّر المعتاد–، وإنّما انتشرَ بمساعدة الدين. وليس المهمّ في هذا السّياق إظهار كيفَ أنّ العلمانيّ توسّع بمساعدة الدّين، وإنّما توضيح هذا «الابتزاز» العلمانيّ لما هو ديانيّ باعتباره لاطبيعيًّا. وأيضًا، في إظهار هذه الشجاعة التي كثيراً ما تُلصق بالعلمانيّ، كأن الأمرَ انتصار تاريخيّ لقوى دنيويّة، دون فحص للشّروط المنتجة لمقولة العلمانيّ نفسها.

لقد ابتزّ النّقد العلمانيّ دائمًا الدّين، بل ثمّة قناعة راسخة ومستشرية تنطوي على ضربٍ من ضروب التفوّق العلمانيّ –أفكارًا ومعرفةً– على الأفكار والممارسات الدينيّة، ربّما للاعتقاد بأنّ الدين ثابت في حين أنّ العلمانيّة متغيّرة، ودنيويّة، أو لأنّ الدينَ غير مجسَّد بينما العلمانيّة مجسّدة في مؤسّسات وممارسات وأنظمة. هذه الجراءة وهذا التفوّق ملازمان دائمًا في كلّ نقد علمانيّ للدين، أو لما هو دينيّ. ومن هنا يغدو التفكير نفسه في العلمانيين الذين لا ينظرون إلّا من عدسة «الانحدار الدينيّ» تاريخيًّا بعين النّقد الجذريّ.

وفي وقتنا الحالي، خاصّة بعد تفشّي ظاهرة «داعش»، وانتشار التفجيرات العالميّة في مدائن كبرى وكوزموبوليتاليّة، سواء أكان باسم «الإسلام» أو «الإرهاب» أو غيره، يطلّ علينا المحلّلون الليبراليّون على الصّحف الغربيّة –والعربيّة أيضًا– يتحدّثون بأشكال شتى: أولًا، هناك الخطاب اليَمينيّ (كخطاب الحمقاء حيرسي علي، اليمينيّة والعنصريّة ضدّ العرب والمسلمين) الذي يتحدّث عن بربريّة الإسلام، مستعيدًا خطابًا استشراقيًّا تقليديًّا؛ وثانيًا، هناك خطاب ليبراليّ حول الإسلام والمسلمين، يدعو إلى «إصلاح» الإسلام بنبذ التيارات الجهاديّة ونزعات العنف الإسلاميّ، وعن طريق نشر إسلام النّاس العاديّ الذي هو، في جوهره، غير عنيف، ويقول بالتالي إن الإسلام دين غير عنيف، والجهاديّون دخلاء عليه؛ وثالثًا، هناك خطاب علمانويّ يحصر الإشكال في أنّ العالمَ الإسلاميّ لم يُعلمَن بما يكفي، ويصنعون تمايزًا بين الدّول الغربيّة العلمانيّة والدّول العربيّة غير العلمانيّة كفايةً.

لا يهمّ في هذا السياق الخطابيّ أن نشير إلى أنّ تلك الخطابات «النقديّة» لا تسائل نفسها ولا قناعاتها الليبراليّة، وإنّما المهمّ الإشارة إلى أنّ هذه الخطابات جميعًا تَعدّ نفسها «علمانيّة» وجريئة حيال خطابات وممارسات وأنظمة وأفكار دينيّة. ولا يُسأل عن النّقد ههنا ما يعنيه ولا عمّا تعنيه علمانيّته؛ فعلمانيّته طبيعيّة وبديهيّة، وتقف على أرض طبيعيّة للحجاج، في حين أنّ «الآخرون» هم الذين عليهم أن يبرهنوا أنفسهم دائمًا في لغة علمانيّة (دنيويّة) مفهومة للجميع. فالعلمانيّ، شخصًا ومفهومًا، بريء في نقده من أيّة انحيازات متعالية، في حين أنّ الدينيّ، شخصًا ومفهومًا، هو ملطّخ دائمًا بتحيّز معياريّ سبقيّ حيال ما يدرس. لا يهمّ ههنا الابتزاز المتبادل، ولكن المهمّ هو إدراك كيف أنّ ردّ الدّافع الدينيّ بأكمله إلى الدّين هو واقع في صلب «النّقد العلمانيّ»، غافلًا عن مفهوم الممارسة التأويليّة، وعن السّياق الحاضر، وكأنّ هناك «دينيّ» سالب و «نصّ دينيّ» محفّز دون أيّة تأويلات أو إسقاطات أو استعمالاتٍ حتّى.

فالحداثة التي نحياها، لا تفترضُ تمايزًا حادًّا –كما هي التصوّرات العلمانيّة– للدينيّ والعلمانيّ، بل إنّ التشابك والتواشج أصيليّان في المشروع الحديث نفسه للحداثة.

وما دمنا في سياق داعش والنّقد العلمانيّ الممتدّ حقيقة إلى حال الإسلام اليوم، خاصّة في ظلّ جينالوجيا استشراقيّة مهيمنة تَشْرط الخطابات الحالية، فيمكننا الإشارة إلى أنّ النّقد العلمانيّ باعتبارها جماعة دينيّة كان دائمًا غافلًا عن الشّرط الحديث الذي أنتج هذا النّقد نفسه. فالحداثة التي نحياها، والتي هي مشروع سياسيّ واقتصاديّ قبل كلّ شيء، لا تفترضُ تمايزًا حادًّا –كما هي التصوّرات العلمانيّة– للدينيّ والعلمانيّ، بل إنّ التشابك والتواشج أصيليّان في المشروع الحديث نفسه للحداثة. إذ كان النّقد الموجّه دائمًا للحالة الدينيّة لداعش (سواء أكانت امتدادًا للتراث، أو للوهابيّة النجديّة، أو نسخة أكثر تطوّرًا من «القاعدة») يرتكز إلى ثنائيّة إمّا التعامل معها باعتبارها جماعة دينيّة بالأساس، وإمّا باعتبارها جماعة سياسيّة بالمقام الأوّل. وأريد أن أناقش نقديًّا كلا التصورين لهذا النّقد العلمانيّ.

ففي مقالة حول داعش بين الاستشراق والمثقفين العرب، كتب باحثان مختصّان في الشّرق الأوسط هما: أمل غزال، والعربي صدّيقي، مُظهرين المفارقة التي تكتنف تحليل داعش إمّا كونها جماعة دينيّة أو جماعة سياسيّة. وأظهر الباحثان كيف أنّ كلا التحليلين قاصر عن إدراك طبيعة التنظيم، وتردّ على كلّ من التيارين اليَمينيّ الملحد الذي يروّج لداعش باعتبارها دليلًا على همجيّة الإسلام، والتيار الليبراليّ المتسامح (وبعض من الخطاب اليساريّ) حيال داعش باعتبارها نتاجًا للهيمنة الغربيّة على المنطقة. يدعو الباحثان، اللذان كانت مقالتهما بمثابة نسخة مصغّرة من دراسة أوسع ستصدر في كتاب حول تاريخ الشرق الأوسط المعاصر عن جامعة أكسفورد، إلى نبذ كلّ من التحليلين ليس لخطئهما، وإنّما لأنّ هذه التحليلات تَستبعد الأصوات الداخليّة للمفكّرين العرب الذين هم، بحكم الواقع، أقرب فكريًّا ومكانيًّا بالمعنى المباشر للظّاهرة. العجيب أنّ دحضَ الباحثين للتحليل الاستشراقيّ للظاهرة لم يحمهما من الوقع في خطإ أكبر، حينما اعتبرا أن سماع تحليلات أدونيس وصادق جلال العظم وغيرهم من العلمانيين العرب هي أكثر «أصالة» من تحليلات نظرائهم الغربيين. فما غفل عنه كاتبا المقالان بشكل أعمى هو كيف أنّهم استبدلوا الاستشراق المحلّيّ بالاستشراق الخارجيّ لا أكثر، حتى وإن كان ذلك تحت مسمّيات غارقة في محلّيتها (ويمكن أن تكون المحليّة استشراقًا متخفيًّا).

وأودّ أن أشيرَ ههنا إلى أنّ النقدَ العلمانيّ الذي وضّح أن داعش، مثلًا، ظاهرة حداثيّة بامتياز، فهو إنّما يشير بذلك إلى «أدواتها» التي تستخدمها، وإلى قدرتها التنظيميّة، وإلى القتل الذي توفّره إمكانات العنف الحديثة. لا يشيرُ هذا النّقد الذي يظنّ تباينًا بين الدّينيّ والعلمانيّ إلى أن المقولتين –الدينيّ والعلمانيّ– لا ينفلتان أبدًا بعضهما عن بعض، حيث إنّ الذّوات التي تفهم نفسها بصورة دينيّة فإنّها تفهم نفسها ضمن ما يوفّره الأفق الحديث (العلمانيّ) نفسه لها، أي باعتبارها دينيّة مقابلة لذوات أخرى علمانيّة. وكذلك فإنّ الذوات والجماعات والدّول العلمانيّة لم تفلت من الدينيّ، حتى وإنْ حوّلته ليتماشى مع سرديات الذات العلمانيّة الحديثة. فالحداثة حوّلت كلا المقولتين، والعلمانيّ –كما يُشير طلال أسد في كتابه تشكّلات العلمانيّ– سابق على العلمانويّة كعقيدة سياسيّة، قد تضافرت مفاهيم وممارسات وحساسيّات عاملة على تشكيله، مثله مثل الدينيّ. فالدينيّ والعلمانيّ كلاهما مفهومان حُوّلا حداثيًّا ليشكّلا خيارات العالم الحديث (أمريكا، مثلًا، وفقًا لتراثها الدينيّ تعتبر أنّها «أمّة خيّرة»، ولذلك تصف مهاجميها دائمًا بـ «الأشرار»، ولم تَحْمِها علمانيّتها من أن يتغلّل سياستها متديّنون يَمينيّون مسيحيّون).

وبالأخير، ما أسميته «الابتزاز العلمانيّ» الذي يُموقع نفسه في قلب النّقد، ويموقع الديانيّ في قلب الديماجوجيّة، هو نفسه واقع ضمن شروط تحكم هذا النّقد حتى على مستوى أبسط المعلومات، حيث ما يمدّنا بالمعلومات حقيقة هو الجهاز المسموح به من قبل الدّولة، لا خارجها. وبينما يبتزّ العلمانيّ الديانيَّ فإنّما يبتزّه باسم «الطبيعة» و«العقل» و«الحياد»، ويغفل أصوله الدينيّة —المسيحيّة خاصّةً.

المراجع
  1. Is Critique Secular? Blasphemy, Injury, and Free Speech. (book)
  2. Formations of the secular: Christianity, Islam, Modernity. (book)
  3. (اضغط هنا للحصول لقراءة المقالة مترجمة) ISIS: The 'Islamic State' between Orientalism and the Interiority of MENA’s Intellectuals. (article)
  4. في النّقد الفلسفيّ المعاصر: مصادر الغربيّة وتجلّياته العربيّة، محمد نور الدين أفاية، مركز دراسات الوحدة.
  5. جينالوجيا الدين، طلال أسد، ترجمة محمد عصفور، دار المدار الإسلاميّ.