تتخذ المتتالية القصصيّة مكانة خاصةً بين الأنواع الأدبية المنتشرة اليوم، إذ تجمع في بنائها بين ما تتسم به القصة القصيرة من التقاط لحظات وحالات خاصة والتعبير عنها بشكلٍ مكثف، كما أنها في تتاليها وتتابعها تحمل حالة واحدة بشكلٍ عام مما يقربها من عالم الرواية بشكلٍ غير مباشر.

في متتاليتها القصصية الجديدة «مأوى الغياب» الصادرة مؤخرًا عن دار سرد تقدّم منصورة عز الدين عوالم الكتابة شديدة الغرابة والخصوصية من خلال خلق عالمٍ مغاير وشديد الاختلاف ينهض بشكلٍ كبير على استنطاق الخيال وعوالم الكتابة وأسرارها، واستبطان الحالة التي يكون عليها الكاتب قبل وأثناء كتابته.

منذ البداية تفتتح منصورة مجموعتها بعدد من المقدمات الهامة والدالة بدءًا بالإهداء إلى «تحوت» إله الكتابة عند قدماء المصريين وملهم الفلاسفة والكتّاب، مرورًا بمقولات لعدد من الكتاب تشير إلى عدد من التفاصيل الهامة في الكتابة مثل البحث عن أسرار العالم واستخدام الذاكرة والخداع بل والحياة والموت حتى تنقلنا إلى «مأوى الغياب».

ومن خلال خمسة عشر نصًا قصصيًا تمعن في استعراض تفاصيل ذلك العالم المشيّد بالكلمات والذي لا يقوم على شخصياتٍ واقعية حيّة، بل على تفاصيل ومكونات حياة الكتّاب من خيالٍ وطلاسم وأسرار وأماكن الطبيعة الملهمة كالغابة والأشجار والجبال والصحراء، كل ما من شأنه أن يخلق عالمًا جديدًا يوازي ويصارع ما نعرفه من عوالم وحيوات.

ليس في جعبتي سوى تخمينات وتأويلات، وسيلة العاجز لترميم حطام الأحداث والبشر. المكان هنا حافلٌ بالحكايات، إلا أنها كعادة كل ما هو جدير بالاهتمام منقوصة ومبتورة. ومع هذا تكتمل في رأسي، ليس تخمينًا أو حدسًا، بل اكتمالًا حقيقيًا في غنى عن الكلمات. انتقلت مشاعر كل ما ومن صادفت هنا إليَّ، احتلتني واستحوذت عليّ. شعرت أنني كثيرون في كيانٍ واحد… أدركت هنا أن الأماكن إذا لم تقدر على حكي ذكرياتها ونقلها إلى الآخرين عبر اللغة، ستبتكر هي طريقة ما لفعل هذا، والغابة -وما تخبئه في داخلها من مدينة مزدوجة وبشرٍ هائمين- ماهرة في سرد ما يتراكم في سراديب عقلها، ماهرةٌ أكثر في التواصل دون كلمات مع من يصل إليها، وفي تبادل خبراتها وتاريخها مع خبراته وتاريخه.
من قصة «غابة تسكن بحرًا»

هكذا يتشكّل العالم في قصص «مأوى الغياب»، وإلى هذا تسعى منصورة عزالدين، إلى استكشاف العالم والحكاية عنه لا من خلال مواقف وشخصيات أبطالٍ عاديين، بل من خلال محفزات الكتابة والإبداع الأصلية.

لذا فهي تبدأ في قصتها الأولى «مدينة هالكة» باستدعاء الأبطال المهزومين من روايات «كافكا»، و«بورخيس»، و«كالفينو» وغيرهم، لاسيما هؤلاء الذين ارتبطت حكاياتهم بعوالم ومدن متخيَّلة وفانتازيّة بالكامل، واستطاع مؤلفوها أن يجعلوهم نموذجًا فريدًا لهذا العالم، وكأنها تسائل هؤلاء الأبطال والكتّاب عمّا أثروا به الحياة من خلال حكاياتهم ورواياتهم، وكيف انتهى بهم الأمر في مدينتها المتخيلة إلى هذا الدمار والفوضى الذي يحاكي ولو بشكلٍ غير مباشر ما يجده القارئ من فوضى ودمار في عالمه الواقعي المعروف!

ليس أبطال الروايات فقط المستدعين هنا، وليست تلك العوالم التي قرأنا عنها وعرفناها من قبل فحسب، بل عوالم أخرى متخيّلة كليًا، تتصل وتنفصل في قصص المجموعة، وتترك مكونًا هنا لنجده في نصٍ/قصة أخرى بعد ذلك، وهكذا حتى تنشئ فيما بينها ما يُفترض في النهاية أنه «مأوى الغياب»، ذلك المكان الغامض المجهول الذي تسكن فيه الكلمات والأفكار والحالات بل والأماكن في انتظار ذلك الكاتب الذي يستكشفها ويعيد خلقها من جديد.

اقرأ أيضًا:رواية مزاج حُر.. حكايات الخيال تغير العالم

لعل أكثر ما يميّز هذه المجموعة ويجعلها بالفعل مختلفة هو أنه في كل قصة من قصص المجموعة ثمة مستويات عديدة للتلقي، فالقصص لا تقوم على تأويلها المباشر أو حكايتها التي قد تصل للقارئ من قراءةٍ أولى عابرة، بل في ظني لابد من استعادة قراءة كل قصة، وربط الأولى بالتالية، وتلك العوالم والاختلافات والتشابهات التي تظهر في كل قصة بالتي تليها، حتى يتشكَّل لدى القارئ وفي وعيه الخاص الصورة العامة التي تريد أن تنقلها الكاتبة وتصورها في هذه المجموعة، وذلك العالم المليء بالغموض والأسرار والغرابة في الوقت نفسه الذي تقوم عليه الكتابة وتنشأ في الأصل والأساس منه.

لا تتحدث منصورة في مجموعتها مثلاً عن الحرب بشكلٍ مباشر، ولكن الدمار حاضر والهلاك والأصوات الغريبة والحالات الشبحية، يمكن للقارئ أن يستكشف كل مخلفات الدمار في المجموعة، وكأنها تتحدث عن ما تركته الحروب سواء كانت واقعية أو حتى خيالية، أو صراعات داخلية في نفس الكاتب بين أفكار وقراءات وعوالم مشيدة بالكامل في اللا وعي. وكذلك ما نجده في حديثها عن المدن والغابات والجبال، وكل مكونات الحياة التي نعرفها، فهي إنما تسعى في النهاية جاهدةً للكشف عن ذلك العالم شديد الخصوصية والدوران فيه بخفة وذكاء.

كـ«تحوت» خلقتُ نفسي بالكلمات، كلمات مخطوطة في بردية، أو منقوشةٍ على جدارٍ أو محفورةٍ على حجر، أو مدونة بين دفتي كتاب كان جسدي حروفي، وحركاتي لغتي وأنفاسي متونًا متروكةً للعابرين. كنت كلمة وبالكلمة حياتي ومماتي. كنت فكرة خطرت للحجر، وتسرّبت منه إلى العالم المحيط به. فكرة سكنت رؤوس وأذهان من تخيلتهم للتغلب على ضجري وتبرمي من زمني الساكن الممتد. من ابتكرتهم ابتكروني بالمثل، منحو لوجودي معنىً ولفكرتي العابرة جوهرًا مجسدًا في كل شيءٍ وأي شيء.
من قصة «طلسم أخير»

هكذا وباختصارٍ تدور دورة الكتابة وعوالمها من البداية إلى النهاية، ولا يعلم القارئ أين موقعه من هذه العملية، هل يمكن أن يكون مجرد فكرة في رأس أحد الكتّاب؟ أم أنه سيتلقى فكرة أخرى قرأها أو سمع عنها ليستعيد خلقها وإيجادها في العالم من خلال شخصيةٍ وعوالم أخرى؟ أم هو مجرد متفرج خارجي لا يسعى لشيءٍ ولا يقوى على أي تغيير؟ هي الكتابة في النهاية تلك السيدة في برجها العالي وعوالمها الغامضة وحدها من تقرر المصائر وتغيّر الأقدار، وتضعنا جميعًا أسرى لما تفعله بنا بين حروفٍ وعوالم وكلمات.

منصورة عز الدين روائية وقاصَة مصرية، وصلت روايتها «ما وراء الفردوس» إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية عام 2010، وترجمت عددًا من أعمالها إلى اللغات الإنجليزية والألمانية والإيطالية وغيرها. حصلت روايتها «جبل الزمرد» على جائزة أفضل رواية في معرض كتاب الشارقة عام 2014، كما حصلت مجموعتها القصصة «نحو الجنون» على جائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2014.

تجدر الإشارة إلى أن «مأوى الغياب» وصلت للقائمة القصيرة في جائزة الملتقى للقصة القصيرة التي تنظمها الجامعة الأمريكية بالكويت لهذا العام 2018، ومن المقرر أن يعلن عن الفائز بالجائزة أول الشهر المقبل.