ناقشنا في المقالة السابقة دعوى أن الصين بلد اشتراكي عبر محاولة تعريف الاشتراكية ومناقشة مدى انطباقها على الحالة الرأسمالية الصينية وآفاقها، وهو ما نواصل التوسع فيه هنا عبر نظر أعمق إلى وضع الرأسمالية الصينية من الداخل.

إن التوسع الرأسمالي الصيني الذي عرضناه في المقالة السابقة لم يحدث من فراغ، فهو تعبير عن تغيرات عميقة جدًّا حدثت منذ 1978 – أي بداية الانفتاح على الرأسمالية العالمية – حتى الآن. ولكن قبل الحديث عن ذلك، استوقفتنا جملة غريبة من عامر محسن، وهي غريبة لأنها جملة تعبر عن رؤية ليبرالية تناقض انتماءه الماركسي. يقول محسن:

تخيلوا إذن أين ستكون الصين، وكيف سيكون شكل المجتمع الصيني وإنجازاته، حين يصل دخل الفرد فيها إلى خمسين أو ستين في المائة من دخل الأمريكي، حتى لا نقول يوازيه؟ هنا تكمن المقارنة الحقيقية وهذا رهان المستقبل، ولهذا السبب ــ أحاجج ــ تمثل الصين اليوم أحد الآمال القليلة للإنسانية في تصور مستقبلٍ مختلف.

نحن نرى أن من المستحيل أن تحاول البشرية اللحاق بمستوى دخل وإنتاج واستهلاك المجتمع الأمريكي، فلو أردنا مستقبلًا مختلفًا حقيقة، فإن علينا أن نعيد هيكلة إنتاجنا واستهلاكنا، بما في ذلك المجتمع الأمريكي نفسه. فمن المستحيل بيئيًّا أن يستمر الكوكب بهذا النمط الإنتاجي والاستهلاكي المسعور، والمفروض ألا ندخل في سباق مع المجتمعات ما بعد الصناعية كما يريد عامر محسن (إلا إذا أردنا انفجار الكوكب حرفيًّا) ولكن أن نقلل إنتاجنا العالمي بالفعل ونعيد توزيع الإنتاج والاستهلاك خارج إطار منطق الربح.

فنحن ننتج بالفعل ما يحتاجه ضعف عدد سكان الأرض، ورغم ذلك هناك بشر يموتون من الجوع يوميًّا. فكما يقول جون زيجلر: «أي طفل يموت من الجوع في العالم يموت مقتولًا». إذن، حجة محسن هي في قلبها ليبرالية وليست ماركسية. فالليبراليون هم الذين يعشقون السباق الإنتاجي ومقارنة دخل الشعوب ببعضها، ولا يهمهم دمار الكوكب إطلاقًا.

ثم إن حجة محسن عن دخل الفرد فارغة تمامًا لعدة أسباب.

فأولًا، كما يقول الماركسي جوليان فارلان: «هذا الفقر الصيني لا يمنع المليونيرات الصينيين من أن يكونوا بنفس عدد المليونيرات اليابانيين، ولا أن 25 مليون صيني اليوم يكسب كل منهم أكثر من 25 ألف يورو سنويًّا (في عام 2015)». ثانيًا، دخل الفرد الياباني مثلًا في آخر القرن التاسع عشر كان أقل بكثير من دخل الفرد الإنجليزي في 1913. ورغم ذلك كانت اليابان تعتبر من قبل أي ماركسي لا يريد أن يصنع بروبجندا فارغة، دولةً إمبرياليةً صاعدةً.

إذن، كما قلنا سابقًا إن توسع رأس المال الصيني لم يكن ممكنًا إلا من خلال تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية داخلية مهمة للغاية – بل جذرية – وخصوصًا من خلال تراكم رأس مال ضخم – ما يسميه عامر محسن في مقاله بـ «إطلاقٍ مجتمع صناعي منتج» – مبني على استغلال الطبقات العاملة والفلاحين، وأيضًا على ما يسمى بالمهاجرين الداخليين، مع إعادة بناء سلطة الطبقة الرأسمالية بالطبع.

فكما يقول ديفيد هارفي: «تمكنت الصين من بناء شكل من أشكال اقتصاد السوق الذي تتلاعب به الدولة، والذي حقق نموًّا اقتصاديًّا مذهلًا (بمتوسط يقارب 10% في السنة) وارتفاع مستويات المعيشة لنسبة كبيرة من السكان لأكثر من عشرين عامًا. لكن الإصلاحات أدت أيضًا إلى تدهور البيئة، وعدم المساواة الاجتماعية، وإعادة تشكيل سلطة الطبقة الرأسمالية»[1]

وكان لدينج شياوبينج – رأس حربة التغييرات الاقتصادية منذ 1978 – جملة شهيرة: «أن تصبح ثريًّا هو شيء مجيد»، ثم أضاف: «ليس مهم إن كانت القطة بيضاء أو سوداء طالما أنها تصطاد الفئران»[2]. وما يقصده هنا شياوبينج هو أنه بغض النظر عما إذا كان اقتصادًا مخططًا أو اقتصاد سوق، فالمهم أن يدار بكفاءة.

نزع الغطاء عن العمال والفلاحين

والتراكم الجديد الرأسمالي في الصين بدأ مع نزع ملكية الأرض عن السكان والفلاحين، وإجبارهم على دخول سوق العمل والهجرة إلى المدن. يقول هارفي: «نظرًا لأن الفلاحين لا يملكون سندات ملكية للأرض، فيمكن بسهولة نزع ملكيتهم وتحويل الأرض إلى استخدامات حضرية مربحة، مما يترك المزارعين دون أي قاعدة ريفية لكسب الرزق ويجبرهم على ترك الأرض والدخول إلى سوق العمل»[3]، مما أدى إلى: «من 1997 إلى 2006، تمت مصادرة 40 مليون مزارع (من أكثر من 300 مليون)»، بحسب الماركسي برونو أستاريان في كتابه «الصراع الطبقي في صين ما بعد الإصلاحات زمن (1978-2010)». وهذا يشبه ما وصفه ماركس عندما كان يتكلم عن التراكم الرأسمالي الأولي في أوروبا في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر. إذن أين «التصور لمستقبلٍ مختلف» في الصين الذي يراه محسن؟ أين الآمال الجديدة الآتية من هناك؟

وعلى جانب نزع الملكية عن الفلاحين الصينيين، أتى هذا التراكم الرأسمالي مع تدمير نظام الحماية الاجتماعية. فمثلًا في الفترة الثورية، وفرت الشركات المملوكة للدولة الأمن الوظيفي والحماية الاجتماعية للقوى العاملة لديها. ولكن في عام 1983 سُمح للشركات المملوكة للدولة بتوظيف «عمال متعاقدين» بدون حماية اجتماعية ولمدة محدودة[4]. فما يسمى بـ «وعاء الأرز الحديدي» (Iron rice bowl) – وهو التعبير الصيني عن الأمان الوظيفي – تم تدميره مع الإصلاحات الرأسمالية[5].

وعمومًا، كل ما يوحي بالأمان الاجتماعي تم تغييره وتدميره جزئيًّا على الأقل للتكيف مع التحولات العملاقة داخل الصين. فمثلًا تم إدخال الحق في الفصل عن العمل[6]. وبين عامي 1995 و2006، انخفض عدد العاملين في الشركات المملوكة للدولة وحدها بنحو 50 مليونًا، من 113 إلى 64 مليونًا[7]. تم أيضًا تدمير نظام التوظيف مدى الحياة في عام 1995[8].

تفكيك هذه الأنظمة أدى بالطبع إلى إضعاف موقف الطبقات العاملة الصينية. فمثلًا تم خلق «سوق عمل» داخلي عن طريق فصل عمال شركات ومؤسسات الدولة الصينية[9]، حيث تم فصل حول 60 مليون موظف حكومي[10]. أيضًا، هناك شركات أخرى مثل شركة هواوي الصينية فصلت ما بين 7000 و10000 عامل، وشركة أولامبوس أغلقت أحد مصنعيها وحولتها إلى فيتنام[11]، وتم فصل عدد كبير من العمال في مجال الصناعة البترولية (China National petroleum Co) عام 1999. وأدرك العمال الذين تم تسريحهم في بداية عام 2000 أن الشركة لم تغلق بعد بل إنها مزدهرة وفي حالة اقتصادية جيدة[12].

المينجونج: المهاجرون الداخليون

أسس التراكم الرأسمالي الصيني لا تتوقف عند فصل العاملين والموظفين، أو عند نزع الأراضي عن الفلاحين، أو عند تفكيك أنظمة الحماية الاجتماعية. فأحد أهم أسس هذا التراكم هي «المينجونج»، وهم العمال المهاجرون الذين تركوا الريف للعمل في الشركات ومواقع البناء في المدن والمناطق شبه الحضرية.

وظروف حياة وعمل هؤلاء المينجونج قاسية للغاية. فكما يقول برونو أستاريان: «دفعت الإصلاحات عشرات الملايين من سكان الريف الصينيين إلى العمل في المدن والتشرد دون تغيير القانون الذي يمنحهم حق الإقامة. والإصلاحات نفسها كتبت ملايين الصفحات من قانون العمل بالنسبة لهم والتي لا تغير الكثير من التعسف والازدراء والقسوة التي يتعرضون لها»[13].

فهم، كما يصفهم أستاريان، «مهاجرو الداخل غير الشرعيين». من حيث المبدأ، يتم قبولهم في المدينة طالما يعملون، ويجب أن يعودوا إلى قراهم بمجرد أن يصبحوا عاطلين عن العمل. هذا هو سبب تسميتهم بالعمال المهاجرين. لذلك من المفهوم أنه حتى لا يضطروا إلى العودة إلى قريتهم، فإنهم يقبلون وظائف منخفضة المستوى وذات أجور زهيدة. وبالتالي يُترَكون لجشع أرباب العمل، الذين لا ضمير لهم على الإطلاق[14]. وعددهم كبير، ما بين 130 و200 مليون بحسب الدراسات[15]. وهم يعملون في وظائف كثيرة، من ضمنها الخدم في بيوت الصينيين الأثرياء، حول 20 مليون[16].

وبما أن هؤلاء العمال «مهاجرو الداخل غير الشرعيين»، فتسكينهم في المدن الصينية التي تتوسع أكثر وأكثر أصبح «بيزنيس» لسكان المدن الأوائل. فكما يقول أستاريان: «عندما اتسعت المدن وضمت القرى المجاورة، توقف الفلاحون عن زراعة أراضيهم ليصبحوا (تجار نوم)»[17]. وبالطبع، ظروف السكن – إلى جانب ظروف العمل – سيئة للغاية. فمثلًا: «لقد قاموا بتكديس مبانٍ رديئة الجودة على أراضيهم لإيواء المهاجرين. وهكذا تشكلت أحياء ذات شوارع ضيقة، لدرجة أنه – كما يقال – يمكنك تقبيل جارك المقابل»[18].

ويستكمل الكاتب: «وباستثناء محور أو محورين، لا يمكن أن تكون هناك حركة مرور للسيارات بين هذه المباني، والتي تزيد أحيانًا عن عشرة طوابق، وظروف السكن غير صحية. لكن في هذه القرى الحضرية نجد العديد من خدمات وأنشطة أي مدينة: مطاعم ومحلات تجارية ومحلات إنترنت»[19].

أما بالنسبة لظروف العمل، فتعاني تلك الكتلة العاملة المهاجرة داخليًّا من ظروف صعبة حيث «تعمل العاملات بانتظام من 84 إلى 98 ساعة في الأسبوع، سبعة أيام في الأسبوع، ولا يوجد سوى يوم عطلة واحد في الشهر»[20]. أما بالنسبة للأجور، فهي زهيدة رغم أنها قد تتحسن بطريقة طفيفة أو لا تتغير، على حسب المناطق والظروف[21]. كل تفاصيل استغلال تلك العمالة غير المحمية اجتماعيًّا تمامًا موجودة في كتاب أستاريان. فلا يمكن هنا سرد وضع الأجور لما يعتبر العمالة «الرخيصة» في الصين ما بعد الإصلاحات، بالتفصيل. فنحن ننصح بشدة هذا الكتاب البعيد كل البعد عن الماركسية المتحولة لآلة بروبجندا.

ولكن لا يمكن سرد – ولو سريعًا – وضع المينجونج، بدون التكلم عن «الهوكو»، وهو ما يعتبر «باسبور داخلي» للصينيين عمومًا ويتحكم في تنقل المينجونج خصوصًا. فكما يقول أستاريان: «تم منح جميع السكان الصينيين تصريح إقامة مرتبط بموقع معين. تحتوي هذه الوثيقة، hukou، على مجموعة من المعلومات المختلفة مثل الاسم والعنوان وصاحب العمل والمعلومات الشخصية والعائلية والدين، وخاصة التمييز بين سكان الحضر وسكان الريف»[22]. فبدون الدخول في التفاصيل، الهوكو هو نظام للرقابة الاجتماعية ولتوزيع الحقوق في الصين.[23]

ولكن تم إضافة دور آخر مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وهو تزويد الرأسماليين بعمال-مهاجرين غير شرعيين، لكن ليسوا أجانب[24]. فخلال فترة الإصلاح، كان المنطق الأساسي هو التسامح مع الهجرة الريفية مع الحفاظ على نظام الهوكو. وقد تم تزويد المدن بعمال غير شرعيين، يخضعون لنفس التعسف الذي يخضع له المهاجرون غير الشرعيين عبر الحدود في البلدان الأخرى[25]. وبسبب الهوكو، يصبح كثير من المينجونج في حالة غير شرعية. فمثلًا في بكين، يطالب بهوكو مؤقت بعد ثلاثة أيام، مما يجعل نسبة كبيرة من المهاجرين بدون تسجيل. إنه وضع غير قانوني، يمكن أن يؤدي إلى غرامات، أو حتى الترحيل القسري إلى المنطقة الأصلية كما هو الحال في الغرب مع المهاجرين غير الشرعيين.

أُلغي الترحيل القسري – نظريًّا – في عام 2003.[26] فالعمال الصينيون «غير الشرعيين» داخل بلادهم يُعاملون مثل المهاجرين غير الشرعيين في أوروبا «الرأسمالية»، ليس من حيث الوضع الاجتماعي فقط، بل من حيث الرؤية الاجتماعية أيضًا؛ يقول أستاريان: «كما هو متوقع، يُظهر سكان المدن القدامى عداءً معينًا تجاه المهاجرين، الذين يُلامون على تزايد انعدام الأمن. علاوة على ذلك، فإن موضوع انعدام الأمن هو أصل بعض الانتكاسات في الاتجاه لتحرير الهوكو. وهكذا فإن مدينة شنيانغ، التي ألغت الهوكو المؤقت في عام 2003، أعادت تقديمه بعد عامين ونصف. أما مدينة شنجن، المذكورة أعلاه لإزالة التمييز بين الريف والحضر في أراضيها، شددت مع ذلك قواعد قبول المهاجرين»[27].

ولكن لا يقاوم تغيير أو إلغاء الهوكو على مستوى السلطات المحلية فقط، بل أيضًا على مستوى السلطة المركزية نفسها. ففي عام 2002، أنهت الحكومة المركزية تجربتين محليتين في تسهيل الوصول إلى الهوكو الحضري في مقاطعات بعيدة تسعى إلى جذب العمالة، وكان السبب الرسمي هو أن ذلك سيكلف كثيرًا في الحماية الاجتماعية[28]. فالهوكو كما نرى، آلية تقود إلى «صناعة عمال غير شرعيين من الداخل بلا توقف، مع الاحتفاظ في الريف بجيش احتياطي ضخم من المرشحين للبروليتاريا»[29].

اختلالات عابرة!

إذن كما رأينا، توسع الرأسمالية الصينية لم يأتِ من فراغ، وإنما بعد تراكم رأسمالي رهيب منذ سبعينيات القرن الماضي حتى الآن، بُني على نزع ملكية الفلاحين، وتفكيك وتدمير الأنظمة الاجتماعية التي كانت تحمي كثيرًا من المواطنين الصينيين، وجعل سوق العمل أكثر مرونة، والخصخصة، وتحويل مزارعين صينيين كثيرين إلى عمال مشردين بلا حقوق تقريبًا يتم مراقبتهم وطردهم ووضعهم في حالة «مهاجر شرعي داخل بلاده» بسبب الهوكو.

بالطبع، حدث كل هذا مع إفقار واسع لطبقات اجتماعية صينية كثيرة وإثراء طبقات أخرى بطريقة مذهلة للغاية. ففي مايو 2021، كان صافي ثروة 626 ملياردير صيني يبلغ 2.5 تريليون دولار. هذه حقيقة لا ينكرها عامر محسن نفسه، رغم تحويل ماركسيته إلى آلة بروبجندا بحتة. يقول محسن في مقاله: «ولكن عملية النمو والاستثمار المحموم هذه خلقت بدورها، على مدى عقود، عددًا كبيرًا من الاختلالات والتناقضات: بين الأثرياء الجدد والفقراء، بين الريف والمدينة، بين الساحل والداخل، تدمير البيئة، إلخ.» لكنه يستدرك: «هنا معنى (الثورة الثالثة) التي تجري في الصين اليوم: أننا وصلنا إلى سياقٍ جديد، والأولوية يجب أن تكون لمعالجة اختلالات المرحلة السابقة». فهنا، لا يشرح محسن طبعًا كيف وصلت الصين «الشيوعية» أو «التي تسير نحو الاشتراكية» إلى هذا الحال. فبالنسبة له، دوره هو أن يعمل كآلة بروبجندا رغم أن الماركسية نفسها تشير إلى أهمية الشك في أي شيء، وخصوصًا الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية مهما كانت.

يعتقد محسن أن النظام الصيني حاليًّا – رغم ارتباطه بهذا الشكل مع الرأسمالية العالمية وخلق كل هذه التناقضات – يمكن أن يمسح ببساطة التناقضات التي تم إنتاجها. ولكن الأمر ليس بهذه البساطة إلا في خياله الثري. فلا يمكن أن تحدث كل هذه التغيرات الاجتماعية – التي حاولنا سردها باختصار – وتنفتح الصين للسوق العالمي بدون «تحول موازٍ في العلاقات الطبقية، والملكية الخاصة، وجميع الترتيبات المؤسسية الأخرى التي عادة ما تؤسس لاقتصاد رأسمالي مزدهر»[30].

ولكن نعتقد أن محسن، رغم ادعائه الماركسية، لم يفكر قط في ذلك (على عكس ديفيد هارفي). فهو يعتمد على الدولة الصينية في تغيير الأشياء من نفسها، مثل الأب الكريم الذي يكافئ أطفاله. فهو يتناسى أن الدولة الصينية ليست محلقة في السماء، وأنها غارقة هي أيضًا في التناقضات المحلية والعالمية مثل أي دولة. فلو كان محسن ماركسيًّا حقًّا، وليس بوقًا للبروبجندا، لاهتم أكثر بالحركات الاجتماعية الصينية وردود فعلها على كل هذه المشكلات التي حدثت بسبب الانفتاح والإصلاحات واعترف بها محسن نفسه.

نحن على سبيل المثال لا ندعي أي أيديولوجيا هنا، ولكن سوف نرصد – بطريقة مختصرة – الصراع الطبقي في الصين.

وضع الصراع الطبقي في الصين

كل هذه التغيرات الجذرية في النمط الإنتاجي والاستهلاكي الصيني لم تحدث بسلاسة وسلام. فعلى عكس ما يريد محسن إقناعنا به في محاولته الدعائية، ليس المجتمع الصيني موحدًا (مثل جميع المجتمعات) وإنما هو منقسم إلى طبقات مختلفة ذات مصالح متضاربة، ويعبر عن هذه التناقضات – التي زادت مع الانفتاح منذ 1978 – عن طريق وسائل مختلفة.
فالإضرابات العمالية – في الصين «الشيوعية» – غير قليلة. فمثلًا في سياق الدفاع عن عامل قُدم للمحاكمة لقيادته إضرابًا عنيفًا، لاحظ محامٍ بارز أن الحزب الشيوعي قبل الثورة كان يقف جنبًا إلى جنب مع العمال في كفاحهم ضد الاستغلال الرأسمالي، بينما يقاتل الحزب الشيوعي اليوم جنبًا إلى جنب مع الرأسماليين بدم بارد في صراعاتهم ضد العمال [31].

أيضًا، يقول ديفيد هارفي: «يأتي جزء كبير من رأس المال المتراكم من قبل الشركات الخاصة والأجنبية من العمل غير المأجور. وكانت النتيجة اندلاع احتجاجات عمالية شرسة في العديد من المناطق»[32]، فمثلًا: «في مدينة لياويانغ الشمالية الشرقية، احتج أكثر من 30 ألف عامل من حوالي عشرين مصنعًا لعدة أيام في عام 2002 فيما كان أكبر مظاهرة منذ حملة تيانانمين. أما في جياماسو، حيث كان حوالي 80 في المائة من سكان المدينة عاطلين عن العمل ويعيشون على أقل من 20 دولارًا في الأسبوع بعد إغلاق مصنع للنسيج يعمل به 14000 شخص، اندلعت إجراءات مباشرة بعد شهور من كتابة عرائض لم يرد عليها أحد. ففي بعض الأيام، قام المتقاعدون بإغلاق كل حركة المرور على الطريق السريع الرئيسي المؤدي إلى المدينة، وجلسوا في صفوف على الرصيف. وفي أيام أخرى، جلس الآلاف من عمال النسيج المسرحين على خطوط السكك الحديدية، مما عطل الخدمة»[33-نفس المصدر، ص157-158].

وهذه الاحتجاجات الاجتماعية بدأت قبل الألفية الجديدة. فمثلًا، يقول أستاريان إن حركات تمردية وانفصالية حدثت في تسعينيات القرن الماضي وشارك فيها عشرات الآلاف. وكانت أيديولجيتهم مزيجًا من الديانات الشعبية القديمة مع خلق نوع من الماوية الجديدة، وكانت تتبنى أشكالًا تنظيمية مماثلة لتلك التي كانت في جيش التحرير الشعبي وحزب ماو [34-برونو أستاريان، نفس الكتاب، ص55].

حدثت حركات احتجاجية من نوع آخر في يونتانغ (جيانغشي) بين 1998 و2001 بسبب الضرائب المفرطة والفساد. فيمكننا أن نقرأ: «دمرت الفيضانات حقول الأرز في عام 1998. وسرق بعض المسئولين المساعدات المخصصة لإعادة تأهيلها، وطلبت الإدارة المحلية إلى الأموال وقررت رفع ضريبة خاصة على الأشغال. ولكن، في عامي 1999 و2000 رفض الفلاحون الدفع في مناسبات عديدة وأغلقوا الطرق لمنع جباة الضرائب من القدوم. في عام 2001، تم إعلان القرية بأكملها جماعة إجرامية وتم إرسال قوات كبيرة من الشرطة. وبسبب مواجهات مع السكان، أطلقت الشرطة الصينية النار»[35-نفس المصدر، ص60].

وهذه بعض الأمثلة من ضمن أمثلة لا تنتهي عن وضع الصراع الطبقي. فكتب مثل كتاب ديفيد هارفي أو خصوصًا برونو أستاريان مليئة بالتفاصيل عن الاحتجاجات الاجتماعية في الصين منذ 1978. فمن صراعات اجتماعية بسبب غلاء الطعام في كانتين مصنع ألكو هولدينج في 2007،[36-نفس المصدر، ص70] إلى محاولات الانتحار الجماعي في مارس 2004[37-نفس المصدر، ص103-104]، إلى قتل رجال الأعمال في 2002 وقبل ذلك[38-نفس المصدر، ص107]، الطرق والوسائل مختلفة وكثيرة جدًّا.

عمومَا، يمكننا القول إن ما يسمى بالاحتجاجات الاجتماعية في الصين زادت بشكل قوي من 1993 إلى 2009. فبحسب مصادر كثيرة وكتاب برونو أستاريان نفسه -ص123-، يمكننا أن نرى أن الاحتجاجات الاجتماعية كانت تصل إلى 8700 احتجاج اجتماعي في عام 1993، ووصلت في الثلث الأول من 2009 إلى 58,000 احتجاج اجتماعي. وهنا مقال طويل وتفصيلي عن هذه الاحتجاجات في 2009 وعن الوضع المعيشي المزري للعاملات الصينيات (كتب في 2010).

وبالطبع هذه الاحتجاجات الاجتماعية تواجه ردًّا عنيفًا كما قلنا فوق (حتى لو لم يكن كل الوقت). فيمكننا أن نقرأ عن قمع عمال في 2002، حيث تم اعتقال البعض وأجبروا على الإدلاء باعترافات علنية على شاشات التلفزيون[39-برونو أستاريان، نفس الكتاب، ص103]. والبعض الآخر سُجن لعدة سنوات بسبب إضرابات[40-نفس المصدر، ص131] وهذا حدث أيضًا لصحفيين أرادوا فهم ماذا يحدث وأخذ بعض الأخبار[41- نفس المصدر، ص109]، ونفس الشيء يحدث أيضًا لنقابيين يريدون تأسيس نقابات جديدة (مثل في مايو 1992، وفي 1998، و2002 و2004.[42-بحسب برونو أستاريان، ص134]

إذن، هناك حقًّا صراع طبقي في الصين، وهذا الصراع يأخذ أشكالًا وأنواعًا مختلفة ويزداد خصوصًا كما رأينا، على الأقل من 1993 للثلث الأول من 2009. فحزلقة محسن اليائسة لإقناعنا بأن كل شيء على ما يرام هي محاولة دعائية ضعيفة. ويرد أستاريان وكأنه يعرف أن هناك أشخاصًا ينشرون هذه الدعاية: «توضح هذه الأرقام (الأرقام التي تتكلم عن صعود الاحتجاجات الاجتماعية في الصين) شيئًا واحدًا على الأقل: أن موضوع «وجود مجتمع متجانس وموحد» أصبح الخطاب الرسمي. تريد صيغة الدعاية هذه إقناعنا بأنه قد تم حل المشكلات الاجتماعية، لا سيما عدم المساواة في الدخل بين المدينة والريف. ما يحدث هو عكس ذلك تمامًا في الواقع».

المراجع
  1. A brief history of neoliberalism، ص131
  2. نفس المصدر، ص134
  3. نفس المصدر، ص155
  4. ديفيد هارفي، نفس المصدر، ص138
  5. برونو أستاريان، نفس الكتاب، ص11
  6. برونو أستاريان، نفس الكتاب، ص82
  7. نفس المصدر، ص83
  8. نفس المصدر، ص85
  9. نفس المصدر، ص92
  10. نفس المصدر، ص94
  11. نفس المصدر، ص86
  12. نفس المصدر، ص102-103
  13. نفس المصدر، ص63
  14. نفس المصدر، ص64
  15. نفس المصدر، ص64
  16. برونو أستاريان، نفس الكتاب، ص66
  17. نفس المصدر، ص67
  18. نفس المصدر، ص67
  19. نفس المصدر، ص68
  20. نفس المصدر، ص68
  21. نفس المصدر، ص77
  22. نفس المصدر، ص41
  23. برونو أستاريان، ص42
  24. نفس المصدر، ص41
  25. نفس المصدر، ص44
  26. نفس المصدر، ص46
  27. نفس المصدر، ص47
  28. نفس المصدر، ص47-48
  29. نفس المصدر، ص48
  30. ديفيد هارفي، A brief history of neoliberalism، ص130-131
  31. ديفيد هارفي، نفس المصدر، ص159
  32. نفس المصدر، ص157