ربما يكون سقف التوقعات، ربما يكون الاختلاف التام عن كل ما سبق، ربما يكون البيئة والمجتمع والطريقة الصادمة التي تناول بها دكتور «أحمد خالد توفيق» مجتمع القاهرة وعشوائياتها بكل دقة، ربما يكون حضور الثورة مبكرًا فيما كان الناس يعيشون أحداثًا مختلفة ومتلاحقة، ربما يكون ذلك كله هو سبب عدم إعجاب قطاع كبير من الشباب ومحبي «الدكتور» بهذه الرواية تحديدًا، بل عدم ذيوع شهرتها بينهم وتداول اسمها.

وربما أيضًا يكون غير ذلك، ولكن الثابت في النهاية أن دكتور «أحمد خالد توفيق» قد استطاع أن يقدّم في هذه الرواية عرضًا بانوراميًا شديد الواقعية والصدق لشريحة من المجتمع المصري البسيط والمهمّش، وأن يؤكد في الوقت نفسه أنه ليس مجرد كاتب «أدب رعب» كما أطلق عليه، وإنما لديه قدرة أديب متمرس وكبير قادر على الغوص في نفسيات المجتمع وتفاصيلها والحكاية عنها ببراعة.


لعبة الراوي والأبطال

منذ بداية الرواية يُسلمنا الكاتب مفتاح القصّة، وأنها تحكي عن بطلٍ «روائي» أيضًا هو «عصام الشرقاوي» الذي يختفي في ظروفٍ غامضة، وأن هذه الرواية هي محاولة للكشف عن أسباب اختفائه. ولكنك ما إن تلج عالم الرواية حتى تفاجأ بأن القصة الأساسية ستدور حول «عفاف» الفتاة التي تنتحر فجأة وسط هذا العالم الغريب، والتي تتعدد حكايات الناس حول سبب انتحارها المفاجئ، لتبدأ الرواية من خلال استكشاف شخصيات المكان الأخرى والعوالم الأشد ثراءً التي يركز السرد عليها وعلى تفاصيل حياتها، فيما يبقى «عصام» مجرد شخصية على خلفية تلك الأحداث المتشابكة في تلك المنطقة المجهولة من مناطق القاهرة الشعبية والتي أطلق عليها اسم «دحديرة الشنّاوي».

واستطاع د. أحمد خالد توفيق بمهارته المعهودة أن ينتقل عبر فصول الرواية بين شخصيات العمل، وأن يجعل القارئ متلهفًا لمتابعة الأحداث ومعرفة تفاصيل الحكايات الجانبية لكل شخصيّة، حتى يكتمل عقد الحكايات وتتضّح الصورة كاملة، تلك التي يفاجئ أيضًا بأنها لا تتم حتى مع انتهاء صفحات الرواية!

ندخل معه إلى أبطال عالمه من المهمشين والمطحونين تحت وطأة الحياة، هؤلاء الذين كانوا ولا يزالون يصارعون للحصول على لقمة عيشهم ولكي يبقوا فقط على قيد الحياة، بينما كل شيءٍ من حولهم يقضي عليهم ويقهرهم، كيف يقهر الأقوياء الضعفاء، كيف يتعامل البلطجي «حماصة» ويفرض سيطرته وقوته على الجميع.

شخصيّات نسمع عنها كثيرًا وربما نرى بعضها بيننا، حسين الشاب الطموح الذي يتحد العالم كله ضده، حتى يقرر أن ينتقم، «مصطفى المزين» الذي يحث الناس على التقوى والصلاح بينما تتابع عيناه كل صغيرة وكبيرة في المكان، «جمال الفقي »وغرابة أطواره، «إبراهيم أبو غصيبة» مريض الكبد الذي لا يهتم أحد لأمره، بينما هو يعيش حياته بين الخيال والواقع معًا معتبرًا كل ما يحدث له ما هو إلا كابوس سيتخلص منه ويعود لحياته الوردية، وغيرهم من شخصيات «الدحديرة» المختلفين، ومن بين هؤلاء جميعًا تبرز «عفاف» نموذج الفتاة المقهورة، وحكايتها المأساوية منذ طفولتها وحياتها واعتبارها عارًا يجب التخلص منه حتى انتحارها!

في النهاية يبدو لنا الروائي متورطًا مع أبطاله، لدرجة أنه يقرر أن يختفي بأمرٍ من صديقه، وتأتي لعبة المزج بين واقع الحكايات وخيالات المؤلف التي يطرحها الكاتب في النهاية كوسيلة ذكية للخروج من عوالم كل هذه الحكايات.


اللعبة الذكية باللغة

السنجة .. السبحة .. السيجة .. السرنجة .. السرجة.

قد يبدو اسم الرواية للقارئ للوهلة الأولى غريبًا، ولكنه ما إن يقرأ الرواية حتى يكتشف ما يمكن أن يكون السر وراء تلك الكلمة الغريبة، والتي كتبتها البطلة «عفاف» قبل أن تنتحر مباشرةً من خلال «سبراي» فلم تكن الكلمة واضحة منذ البداية، مما جعلها قابلة لأن تقرأ أكثر من قراءة، وجاء ذكاء الراوي أن جعل لكل كلمة منها دلالة وحكاية خاصة تتكتشف تفاصيلها بين الأحداث، مما يجعلها في النهاية كأنها علامة بارزة لذلك الحدث الذي أثّر في حياة بطلة الرواية وعلى جميع المحيطين بها.

ومع كل ذلك، وقرب نهاية الرواية يوضّح بشكلٍ قاطع وعلى لسان الروائي، بعد أن يحكي قصّة «السنجة» التي ستكون سببًا في مقتل أحد أبطال الرواية

لا يوجد شيء في الرواية مجاني، لا تجد فيها تفاصيل غير مهمّة يمكن حذفها أو الاستغناء عنها، بل على العكس بُنيت الرواية على تتابع المشاهد المتلاحقة، وبأسلوب التقطيع السينمائي والانتقال بالمشاهد بين الشخصيات، مما يُبقي القارئ حريصًا على مواصلة قراءة الرواية وتتبّع مصائر أبطالها، ولعل قرّاء «أحمد خالد توفيق» بشكلٍ خاص يعرفون أسلوبه المميّز وطريقة استخدامه لراوٍ عليم يُخاطب القارئ طوال الوقت، ويسخر من بعض مفردات عالم الرواية، وهو ما فعله في رواية «السنجة» أكثر من مرة وبشكلٍ محسوب.


الراوي العليم يعتذر للقارئ

نحن نتحدث عن السنجة .. السلاح الأبيض الشبيه بالسيف، السنجة التي أحكمت قبضتها على مصر وأصبحت لغة العصر.
لا داعي لوصف ما حدث بعد ذلك فالقارئ يملك خيالًا، ويسهل تصوّر ما يحدث عند لقاء امرأة ناضجة مفعمة بأسرار الأنوثة مع ذكرٍ مفعم بالهرمونات… كنت قد وعدت بأن شيئًا لن يحدث بينهما، وتكلمت عن الأخويّة كثيرًا.. لكنني كنت واهمًا وساذجًا، وربما هو عدم فهم للطبيعة البشريّة، وربما لأنني افترضت أن هناك قيمًا يمكن أن تصمد في هذه المباءة.. قيمة الأخويّة مثلًا.. كنت أحمق، وعلى كل حال فقد انتهى دور «الراوي العليم بكل شيء» في الأدب منذ زمن… لم يكونا يتكلمان الرغبة والتوتر أذهلاهما عن الكلام.. هذه لذّة محرّمة.. لذّة محرّمة جدًا، لذا كان توترهما عظيمًا وشهوتهما أعظم.. ومن الأرض السوداء.. تنبت الفاكهة الأشهى.

هكذا وبطريقته الخاصة وأسلوبه الذي يجمع بين السخرية حينًا وبين التصوير الواقعي المأساوي أحيانًا كثيرة، استطاع «أحمد خالد توفيق» أن يقدّم في «السنجة» عالم العشوائيات المصري،بكل قسوته وثرائه، وشخصياته المختلفة المعقّدة، وأن يبتعد كثيرًا عن أجواء الفانتازيا والخيال والرعب الذي اعتاد قراؤه عليها منه، وربما -كما ذكرنا في البداية- كان ذلك سببًا من أسباب نفور عدد منهم من هذه الرواية بل الهجوم عليها بشدة، وربما أيضًا يكون ذلك لما فيها من واقعية سوداء، بل قراءة لما ستئول إليه الأيام بعد ثورةٍ كان الأمل فيها وبها قد بلغ بالناس منتهاه فيما يقرأ بطل الرواية الأحداث بشكل مختلف.

النهايات الوردية ما زالت نائية، فهذه ثورةٌ لم يحكم من صنعوها، وإنما تولى غيرهم الحكم بالنيابة.. إن من ثاروا أشبه بشخصٍ استطاع أن يستنبت نبتة نادرة واهنة، وهو يخشى أن يستلبه أحدهم إياها وأن يدوس عليها ويهشمها، وهكذا يستمر الغليان والتوتر… هل كتب لهذا البلد التعيس أن ينهض.. أم أنه سيظل في المستنقع وكلما حاول النهوض لايجد ما يتمسك به؟!
صدرت رواية السنجة عام 2012 عن دار بلومزبري.