لعل أكثر مدينة مصرية ارتبط اسمها ببطولات حرب أكتوبر 1973م على الجبهة المصرية، هي مدينة السويس، والتي تصدى أهلُها ومقاتلوها للمحاولة الإسرائيلية لاحتلالها يوم 24 أكتوبر 1973م، وكبَّدوا العدو أكثر من مائة قتيل و500 جريح، وتكحّلت شوارع المدينة الباسلة بالحطام المحترق العشرات من الدبابات والآليات الصهيونية.

لكن قبل أيامٍ من موقعة السويس كانت مدينة الإسماعيلية وجوارها على موعد مع معركة أكثر ضراوة، لم تحظَ بما يليقُ بجلال أحداثها ونتائجها من اهتمام مُستَحَق، استمرَّت فيها الاشتباكات الضارية لعدة أيام، رغم الفارق الكبير في العدد والتسليح لصالح الإسرائيليين.

ليس المقصود بالطبع التقليل من أهمية صمود السويس، لكن بالنظر إلى خارطة المعركة المحتدمة بعد وقوع الثغرة الإسرائيلية الشهيرة، فقد كان انتصار السويس على العدو معنويًا بالأساس، إذ كان الجيش الثالث المصري قد حُوصرَ بالفعل بشكل تام، وتقدم الإسرائيليون لأكثر من 20كم جنوب مدينة السويس واحتلوا ميناء الأدبية على خليج السويس، وقطعوا طريق القاهرة- السويس، شريان الإمداد الرئيس للسويس وللجيش الثالث.

أما شمالًا، فلو نجح الجنرال الصهيوني الشهير شارون في مهمة احتلال مدينة الإسماعيلية أو تطويقها، ثم الاندفاع شمالًا لحصار الجيش الثاني المصري – الأكبر عددًا وعدة بين قوات العبور – لتحولت حرب أكتوبر إلى كارثة عسكرية حقيقية لمصر.

وقبلَ أن نُبرزَ كيف نجحت الإسماعيلية في الصمود، وفي حماية ظهر الشطر الرئيس من قوات العبور المصرية- قوات الجيش الثاني الميداني – سنوجِز كيف انتقل أتون المعركة من شرق القناة إلى غربها، لتصبح الإسماعيلية في بؤرة الصراع.

وسنعتمد في روايتنا على ما وردَ في مذكرات الفريقيْن الشاذلي والجمسي، وكذلك بعض المصادر الغربية والإسرائيلية.

العبور المضاد

في مقال «حين حدث انهيارٌ عصبي في غرفة عمليات حرب أكتوبر» ذكرنا كيف ارتكبت القيادة السياسية المصرية أكبر أخطائها أثناء حرب أكتوبر 1973م عندما أمرت بسحب جانب كبير من الاحتياطي المدرع المصري الرابض غرب القناة لمواجهة أي محاولات اختراق وعبورٍ مضاد إسرائيلية، وذلك للقيام بما سمي بتطوير الهجوم شرقًا، بالتوغل لنحو 40-50كم في سيناء لاحتلال منطقة المضايق الجبلية الحيوية.

خلال ساعاتٍ قليلة من نهار يوم التطوير 14 أكتوبر 1973م، خسرت مصر أكثر من 250 دبابة من أصل 400 شاركت في الهجوم، وكان هذا ما توقعه رئيس الأركان المصري الفريق سعد الدين الشاذلي، وقائدا الجيشين الثاني والثالث، والذين رأوا أن التوغل في سيناء خارج مدى حماية حائط صواريخ الدفاع الجوي المصري هو انتحارٍ دون جدوى أمام القوات الجوية الإسرائيلية التي ما تزال متفوقة رغم خسائرها الكبيرة في الأيام الأولى للحرب. كذلك واجهت القوات المصرية المتوغلة ضعف عددها من الدبابات الإسرائيلية (نحو 900 دبابة إسرائيلية)، ولعل هذا ما يفسر ضخامة الخسائر المصرية.

وكان الأخطر من كل ما سبق، أن تلك القوات التي سُحبت من الفرقتيْن المدرَّعتيْن الرابعة و الـ 21، كانت هي المانع الرئيس أمام الإسرائيليين لتنفيذ خطتهم المعروفة بالغزالة، والتي تقضي باختراق الخطوط المصرية من أي منطقة ضعيفة، والقيام بعبورٍ مضاد إلى غرب القناة، لتحسين الموقف العسكري والتفاوضي الإسرائيلي. ولذا فعندما أكدت طائرة التجسس الأمريكية صباح 15 أكتوبر 1973م خلو غرب القناة من معظم الاحتياطي الإستراتيجي المصري (إذ لم تسحب القيادة المصرية ما بقي من قوات التطوير إلى مواقعها الأصلية غرب القناة دون مبرر منطقي إلا بعد بضعة أيام)، شرع الإسرائيليون في التحرك فورًا.

اقرأ: الدم المصري حاول إصلاح ما أفسده السادات

كان هدف الإسرائيليون هو الهجوم بقوةٍ كبيرة باتجاه منتصف منطقة الجبهة حيث المفصل بين تمركزات الجيشيْن الثاني المصري شمالًا، والثالث جنوبًا، والتي كانت منطقة قليلة الحماية لكونها مقابلة البحيرات المرة، وهي نظرًا لاتساعها، ليست هدفًا مثاليًا للعبور.

اندفع الجنرال الإسرائيلي شارون بفرقته القتالية (تضم لواءَيْنِ مدرَّعيْن بقوة أكثر من 200 دبابة، ولواء مظليًا)، تدعمه فرقة الجنرال آدان المدرعة (3 ألوية مدرعة) واصطدم على مدار يومين 15 -17 أكتوبر في معارك طاحنة مع الفرقة 16 مشاة المصرية (الفرقة نحو 15 ألف مقاتل، واللواء 5 آلاف)، التي كانت تمثل ميمنة الجيش الثاني المصري، فتباطأ التقدم الإسرائيلي لضراوة المقاومة.

لكن نجح بعض المظليين الإسرائيليين والدبابات في التسلل إلى غرب القناة ابتداء من ليلة 16 أكتوبر، وباغتوا مواقع حائط الصواريخ المصري، فأحدثوا ثغرة كبيرة في سماء معركة الثغرة، استغلها الطيران الإسرائيلي ليعود للنشاط الفاعل ضد المواقع المصرية المُدافعة.

شهدت منطقة المزرعة الصينية شرق القناة أعنف المعارك في تلك المرحلة، حيث سقط المئات من القتلى من الجانبين، ودُمّرت المئات من الدبابات والآليات، لكن حسمها الإسرائيليون بالتفوق العددي والنوعي في الدبابات، وكذلك بعودة فاعليتهم الجوية.

آنذاك، رفضت القيادة السياسية المصرية مقترح الفريق الشاذلي بسحب لواءيْن مدرعيْن من الشرق لسحق الثغرة في غرب القناة قبل أن تستفحل، وفي المقابل أمرت بهجوم من الشرق يوم 17 أكتوبر باللواء 25 مدرع، والذي دُمر بشكل تام بنيران الدبابات والطائرات وصواريخ التاو الأمريكية المضادة للدبابات والتي وصلت لتوّها بالجسر الجوي.

وهكذا في عصر 17 أكتوبر، وبعد تحجيم المقاومة المؤثرة، أتمّ الإسرائيليون إقامة جسرهم الكبير الأول، وعبروا القناة بكثافة، وكان نصب عين فرقة شارون المندفعة هدف واحد، هو احتلال الإسماعيلية، لا سيّما وقد أكدت الاستخبارات والأقمار الصناعية شبه خلو غرب القناة من الدبابات المصرية.

شارون على أبواب الإسماعيلية 18-22 أكتوبر 1973م

كان الأمر أشبه ما يكون بحرب فيتنام، فهناك كثير من الحقول والأشجار، وأمامنا المئات من الجنود الذين يطلقون علينا النار من كافة الاتجاهات ونطلق عليهم النيران بدورنا.
من مذكرات الجندي الصهيوني يوسي جراسياني الذي قُتل بعد أقل من يومٍ من كتابة تلك السطور، برصاص قناص مصري أثناء محاولة احتلال محطة قطار سرابيوم قرب الإسماعيلية

منذ يوم 18 أكتوبر، ومع تكامل عبور قواته شمال البحيرات المرة، عند منطقة الدفرسوار، اندفع شارون نحو الإسماعيلية بفرقته الحربية (لواءيْن مُدرَّعين، والمئات من المظليين المحترفين)، وكان يظن أنه لن يلقى أي مقاومة مؤثرة، وأن القوة الساحقة التي يقودها قادرة على إبادة ما قد يعوق تقدمها.

كانت المنطقة من الدفرسوار إلى الإسماعيلية تحتقنُ بالحقول والمزارع وأشجار المانجو والنخيل وقنوات الري والمصارف، وهو نقيض ما اعتاده الإسرائيليون في سيناء من طغيان لون الصحراء الأصفر. وكانت ترعة الإسماعيلية تمثل عائقًا طبيعيًا مهمًا، فكان الاستيلاء على جسورها الأربعة مفتاح النصر في تلك المعركة.

كانت قوات الجيش الثاني المصرية المتواجدة بين الدفرسوار والإسماعيلية تتكون من أجزاء من لواءيْن من المشاة الميكانيكية، وكتيبتيْن من الصاعقة، ولواء مظلي (3 كتائب، والكتيبة نحو ألف مقاتل) يقوده العقيد إسماعيل عزمي، والذي كُلف بقيادة مهمة الدفاع عن الإسماعيلية.

موجز رسومي ثلاثي الأبعاد لأحداث معركة الإسماعيلية 18-22 أكتوبر 1973م

فجر 18 أكتوبر،حاول المظليون المصريون مع بعض وحدات المشاة الميكانيكية القيام بهجوم مضاد مفاجيء، ونجحوا بالفعل في تحرير بعض أجزاء منطقة الدفرسوار، لكنهم اضطروا للانسحاب نتيجة الفارق العددي الكبير مع تسارع العبور الإسرائيلي.

في المقابل، اندفع المظليون الإسرائيليون في نفس اليوم لاحتلال قرية سرابيوم، والتي كانت تدافع عنها سرية من الصاعقة المصرية، لتدور نهارًا معارك طاحنة تنتهي بمقتل 11 مظليًا إسرائيليًا، وإصابة 27، وانسحب البقية.

كذلك نجحت بعض قوات الصاعقة في التسلل جنوبًا على مقربة من الجسر الإسرائيلي، وصححوا ضربات المدفعية المصرية، التي نجحت في إصابة الجسر عدة مرات، ملحقة خسائر فادحة بالقوات العابرة.

وفي ذلك اليوم، زار رئيس الأركان المصري الفريق الشاذلي مقر قيادة الجيش الثاني، لتنسيق خطط المقاومة، فأمر بتعزيز قوات الصاعقة بالصواريخ المضادة للدبابات، وسحب لواء مدرع من الشرق ليرابط قرب الإسماعيلية.

في اليوم التالي- 19 أكتوبر- ومع تكامل حشودها، ضغطت القوات الإسرائيلية على المدافعين المصريين، فدفعتهم شمالًا ليتمركزوا في خطٍ دفاعي جديد 12 كم جنوب الإسماعيلية، بعد أن قاموا بتفجير أحد جسور ترعة الإسماعيلية لإعاقة التقدم الإسرائيلي.

يوم 20 أكتوبر، ومستفيدًا من الثغرات التي حدثت في حائط الصواريخ المصري، شنّ الطيران الإسرائيلي غارات كثيفة على الإسماعيلية وجوارها، استخدمت خلالها قنابل النابالم الحارقة، ثم اندفعت دبابات شارون شمالًا، لتقابلها مقاومة شرسة من وحدات المظلات المصرية، والتي لجأت إلى حيلة خطيرة عندما تكاثر عليها الحشد الإسرائيلي، إذ قامت بأمرٍ من العقيد عزمي بتفجير أحد السدود على ترعة الإسماعيلية، لتُغرق مساحة واسعة بالمياه، فوجدت الدبابات الإسرائيلية نفسها وقد أصبحت تحارب داخل مستنقع كبير.

كذلك دارت معارك طاحنة حول موقعيْن دفاعييْن تحصنت بهما القوات المصرية، هما توسكان وأبو غصين، والذين تمكن الإسرائيليون من تطويقهما بعد مقاومة مصرية شرسة.

على جانب آخر، أرسلت القيادة العامة المصرية من القاهرة كتيبتيْن من الصاعقة بمهمة انتحارية، هي التقدم من الإسماعيلية إلى الجنوب من أجل تدمير الجسر الإسرائيلي بشكلٍ تام، لكن فشلت تلك المهمة مع كثافة نيران الدبابات والغارات الإسرائيلية، ونجحت قوات الصاعقة في الانسحاب شمالًا بأعجوبة بخسائر محدودة محتميةً من المدفعية الإسرائيلية في أشجار المانجو الكثيفة.

المعارك الحاسمة حول الإسماعيلية

بنهاية 20 أكتوبر، سُحبت معظم وحدات الصاعقة والمظليين من الجنوب، لتأمين مداخل مدينة الإسماعيلية نفسها، والقرى القريبة منها كأبو عطوة ونفيشة. لكن ظلت بعض قوات المظلات متمسكة بالموقع الحصين في جبل مريم، والذي دارت حوله معارك شرسة مع الإسرائيليين، وكان القرار عدم التخلي عن ذلك الموقع المرتفع الذي يكشف الإسماعيلية، حتى آخر رصاصة وآخر مقاتل.

بحلول 21 أكتوبر، استعد شارون لشنّ هجومه الرئيس ضد الإسماعيلية، لكن كان بانتظاره مفاجأة غير سارة، فقد حشد العميد – آنذاك – محمد أبو غزالة، قائد مدفعية الجيش الثاني أكثر من 280 مدفع لتوجيه ضربة مكثفة للقوات الإسرائيلية المتقدمة. كما أكملت قوات الصاعقة والمظليين نصب كمائنها على مختلف المُقتربَات إلى المدينة التي تقاطر إليها المئات من المدنيين الفارين من القرى والمناطق القريبة.

وهكذا طوال الليل، استمرت المدفعية المصرية في قصف تجمعات الدبابات الإسرائيلية ومراكز القيادة الميدانية، ملحقة بها خسائر كبيرة، بينما أمطرت القوات الخاصة المصرية الدبابات والآليات المتقدمة بصواريخ ساجر المضادة للدروع.

في صباح 22 أكتوبر، دارت معارك شرسة حول جبل مريم، نجح خلالها المظليون المصريون في صد الهجمات الإسرائيلية وتدمير بعض الدبابات والآليات، رغم كثافة القصف المدفعي الإسرائيلي على ذلك الموقع.

أما أبو عطوة، فقد شهدت خسارة إسرائيلية موجعة، عندما وقع المظليون الإسرائيليون في كمينٍ محكم أسفر عن مقتل وإصابة 50 منهم، وتدمير 4 دبابات.

وفي نفيشة، نجحت الصاعقة المصرية في صد هجومٍ شرس مُعزز بغارات جوية، فقُتل العشرات من الإسرائيليين، ودمرت أكثر من 5 دبابات ومدرعات، بينما استشهد 24 على الأقل من قوات الصاعقة، والتي رغم خسائرها، قامت بشنّ هجومٍ مضاد مباغت ضد المهاجمين، فدحرتهم لمسافة بضعة كيلومترات.

وخلال ذلك اليوم جرت اشتباكات عديدة من مسافة قريبة كانت تقل أحيانًا عن 10 أمتار، وفي بعض الأوقات، حُسمت بالأسلحة البيضاء من المسافة صفر.

نهاية المعركة

في الساعة السادسة و52 دقيقة من يوم 22 أكتوبر، أعلن بقرار دولي وقت إطلاق النار، واضطر شارون للالتزام به في قطاع الإسماعيلية ليتمكن من سحب المئات من الجرحي وجثث القتلي من مناطق المعارك. وتمركزت القوات الإسرائيلية في ذلك القطاع على مسافة 10 كيلومترات جنوب الإسماعيلية.

وبعد الحرب، رفض شارون أن يعزو هزيمته أمام الإسماعيلية إلى بسالة القوات المصرية، إنما لتدخل القيادة الإسرائيلية للجبهة الجنوبية في بعض قراراته، وكذلك لإغراق المصريين للأرض بالمياه. جدير بالذكر، أن العقيد عزمي قائد اللواء المظلي المصري قد عوقب بالإعفاء من منصبه، لأنه خالف أوامر قائد الجيش الثاني بعدم تفجير السد، خوفًا من تأثر إمدادات المياه العذبة لمناطق القناة.

أما في الجنوب، فقد كانت مهمة الإسرائيليين أسهل، لخلو مؤخرة الجيش الثالث من قوات دفاعية مؤثرة، ومن جغرافيا مُساعدة، فخرقوا إطلاق النار، وتقدموا بكثافة جنوبًا يومي 22 و 23 لتطويق الجيش الثالث، ثم حصار السويس ومحاولة احتلالها، ولكن لهذا قصة أخرى.