أريق كثير من الحبر خلال الأيام الماضية من قبل صحفيين عرب وغير عرب في محاولة بدت يائسة لتفسير قرار الرئيس السوداني عمر البشير المفاجئ بزيارة خاطفة إلى دمشق فاتحًا الباب على مصراعيه لإعادة سوريا إلى المنظومة العربية التي طُردت منها في 2012، كُتبت تبريرات كثيرة بعضها معقول وكثيرٌ منها تمنيات أكثر من كونها حقائق، فثمة عدم دراية كبيرة بالشأن السوداني بين الباحثين العرب، لاسيما من غير الجيران المصريين.

النظام السوداني ليس نظامًا إخوانيًا وهو غير معني بقضايا وهموم التنظيم الدولي للإخوان، لم يقم الرئيس البشير بمبايعة مرشد الإخوان كما ادعى أحد البارزين في مجال الإعلام العربي، وبالتالي لا تحتل الهموم الأيديولوجية القلب ولا العقل لدى نظام الإنقاذ، بل ما يهم النظام السوداني هو البقاء و الصمود في السلطة لأطول مدة ممكنة وبأي تنازلات.

تشير بعض المصادر إلى رواية أن النظام السوداني قدم نصيحة عبر قنوات خاصة لأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني قبل أعوام من الأزمة الخليجية ألا يتدخل في الشؤون المصرية وألا يؤوي مطلوبين للأمن المصري لأن المعارضين المصريين غير مأمونين وأكثرهم عملاء لأمن الدولة المصري، وأن عليه ألا يتدخل في الشؤون الداخلية المصرية. هذا أيضًا لا يعني أن النظام السوداني معاد للإسلاميين أو الإخوان بل هو يستخدمهم ويوظفهم في الصراع الداخلي بالبلاد، وغير معني بخيارات الإخوان المسلمين على مستوى التحالفات الدولية، وهو ما جاء على لسان الشخص الأقوى في النظام (المشير عمر البشير) في حوار مع وسائل إعلام إماراتية عام 2015.

هذه المقدمة مهمة لكل من يريد فهم ما يجري في السودان من المراقبين، ومن ثم ندخل في صُلب الموضوع.


الموقف السوداني من الأزمة السورية

الرئيس السوداني «عمر البشير»

في مطلع عام 2012 عندما فشلت بعثة المراقبين العرب ومبادرة الجامعة العربية في حقن الدماء في سوريا أعلنت الجامعة العربية سلسلة من القرارات أُطلق عليها العقوبات العربية على سوريا، وتسببت هذه القرارات في شل اقتصاد النظام السوري تمامًا ومنعه من تصدير منتجاته إلى أي من الأسواق العربية والذهاب إلى المجتمع الدولي لطلب حماية دولية للشعب السوري، حينها تحفظت دولتان بشكل واضح على العقوبات العربية التي كان محل حماسة جميع الدول العربية وهما السودان والجزائر، قيل وقتها إن السبب يرجع إلى أن النظامين الحاكمين في البلدين يخشيان نجاح الثورة السورية لأنهما النظامان العسكريان المتبقيان بعد انهيار نظام مبارك وزين العابدين والقذافي وتفكك نظام علي عبدالله صالح.

الموقف السوداني والجزائري رغم غرابته فإنه امتدادٌ لموقف سابق، وهو رفض قرار الحظر الجوي الذي طبقه الناتو على ليبيا، والذي فُرض في الجامعة عنوة من قبل محلس التعاون الخليجي بنفس طريقة قرار تحرير الكويت من الاحتلال العراقي عام 1991.

السودان كانت له حسابات خاصة؛ هو يخوض حربًا عنيفة ضد ميليشيات مسلحة في دارفور وشرعنة قتال ميليشيات للجيش الوطني ودعمها بالسلاح اليوم في ليبيا يعني تكرار نفس الأمر في السودان عما قريب، وهو أمر لم تكذبه المعارضة السودانية المسلحة التي طالبت بعد أشهر المجتمع الدولي بالتدخل لمساعدتها على غرار النموذج الليبي.

اقرأ أيضًا: البشير يقبض ثمن اعتداله عن المحور الإيراني

السودان لا ينسى ما حصل له في التسعينيات من القرن الماضي عندما فتحت مصر أراضيها لتجميع المعارضة السودانية وفتحتا إريتريا وإثيوبيا حدودهما ليتدفق منها المقاتلون، وعندها قام النظام الإريتري بحماقة اختطاف السفير السوداني في أسمرة وتسليم مقر السفارة السودانية هناك ليصبح المكتب الرئيسي للتجمع الوطني الديمقراطي منصة لتوحيد المعارضة السودانية المسلحة وقتها.

ولذلك فإن السودان تشدد كثيرًا في رفض منح الائتلاف الوطني السوري المعارض مقعد سوريا في قمة الدوحة، السابقة الخطيرة التي كانت لو تمت لحصلت المعارضة القطرية على مقعد قطر في مجلس التعاون الخليجي كما كانت تخطط الرياض في أول أيام الأزمة الخليجية الأخيرة!

طوال سنوات الحرب تواصلت العلاقة الدبلوماسية الطبيعية بين السودان وسوريا، واستمرت الخرطوم بالسماح للسوريين بالدخول للسودان والخروج منها دون الحصول على تأشيرة وهو ما حمّس كثير من الموالين للنظام السوري لنقل عائلاتهم للخرطوم أثناء الحرب. ومن وقت لآخر كان الدبلوماسيون السودانيون يطلقون تصريح «الدعوة للحل السياسي في سوريا» دون ربط ذلك بقرارات جنيف 1 وهي القرارات التي كانت الدول الخليجية تتمسك بها.

على الرغم من أن الثورة السورية كانت في ذورة أيام التطبيع السوداني الإيراني فإن الخرطوم امتنعت عن تأييد النظام السوري بأي بيان كما فعل حلفاؤه في إيران والعراق ولبنان وحتى في كوبا وفنزويلا، كذلك امتنعت عن إصدار أي انتقادات لسلسلة المجازر التي تمت في سوريا وحتى مجزرة الكيماوي في غوطة دمشق الشهيرة لم تعلق عليها الخرطوم، واكتفت بأن يكون مندوبها في الجامعة العربية هو المتحدث عن موقفها.

الخلاصة أن السودان كان أبعد الدول العربية عن الولوج في الوحل السوري طوال سبع سنوات، حتى قرر البشير اتخاذ موقف جديد والانحياز لنظام الأسد.


ما الذي جمع بشار مع البشير؟

بعد طول مماطلة ووعود (كاذبة) قررت الولايات المتحدة الأمريكية مطلع عام 2017 تعليق العقوبات الاقتصادية على السودان لمدة ستة أشهر، ثم تم تمديد التعليق لثلاثة أشهر ليقرر الرئيس ترامب في أكتوبر/ تشرين الأول 2017 إلغاء القرارات التنفيذية بشأن العقوبات الاقتصادية على السودان.

ورغم أن السودان سعى عدة سنوات ليصل إلى هذه النقطة، التي ظن الجميع أنها نهاية آخر عقبة في وجه اندماج الاقتصاد السوداني في الاقتصاد العالمي، فقد تبين أن الولايات المتحدة خدعت السودان وما زالت تحتفظ ببطاقة ضغط جديدة للابتزاز، وهو قائمة الدول الداعمة للإرهاب. وهي قائمة أصدرها الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية جورج بوش أيام غضبته بعد 11 سبتمبر/ أيلول ودوّن فيها أسامي الدول التي لم تتعاون معه بشكل كاف في تعقب من يسمون بالإرهابيين.

الولايات المتحدة ربطت إلغاء اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب بعدة أمور، بعضها معلن مثل الحرية الدينية وعدم الترشح لولاية جديدة، وبعضها سري وابتزازي مثل التطبيع مع إسرائيل وقطع الصلات ما بين الحزب الحاكم والإسلاميين وتقليص النفوذ الصيني، وهذه المطالب قدمها للرئيس السوداني مساعد وزير الخارجية الأمريكي جون سيلفان.

اقرأ أيضًا: المهمة المستحيلة لقوات الأسد في سوريا

عندما استمع الرئيس السوداني للمطالب الأمريكية تملكته حالة من الغضب الشديد، واكتشف أنه خدع وأن أمريكا تتلاعب به و توترت علاقاته مع وزير الخارجية السابق بروفيسور إبراهيم غندور، فسافر إلى روسيا ليطلب الحماية من الرئيس بوتين ضد التدخلات الأمريكية في الشأن السوداني ويعلن موافقة السودان على منح روسيا قاعدة عسكرية على البحر الأحمر.

وتأكيدًا لانقلاب البشير التام على أمريكا فإنه ساعد في توثيق العلاقة ما بين جمهورية جنوب السودان والاتحاد الروسي كما أنه رعى في الخرطوم مفاوضات سلام بين الفرقاء في أفريقيا الوسطى بشكل أغضب جمهورية فرنسا، التي صرحت وزيرة دفاعها على صفحات جون أفريك بأن التدخل الروسي يقوض الاستقرار في أفريقيا الوسطى.

واختصارًا فإن الذي جمع ما بين الرئيس السوداني والرئيس السوري هو العلاقة مع الاتحاد الروسي القادم بقوة ليكون رقمًا صعبًا في الشرق الأوسط ما بعد الانسحاب الأمريكي.


ما الذي استجد الآن على البشير ليطير إلى دمشق؟

عمر البشير، السودان
عمر البشير، السودان

كان عام 2018 عامًا سوريًا هادئًا مقارنةً بالأعوام الماضية، تقلصت مساحة الحرب إلى أقل مساحة منذ 2011 واستعاد النظام السوري السيطرة على مساحات شاسعة من تنظيم داعش والمعارضة السورية، ولم يتبقَ مع المعارضة سوى شريط صغير في الشامل في مناطق درع الفرات، بالإضافة إلى منطقة إدلب التي تتمركز فيها فصائل جبهة النصرة.

ميدانيًا وعسكريًا المعطيات تفيد بانتصار ساحق لبشار الأسد لكنه عجز عن تحويل هذا الانتصار إلى انتصار سياسي بسبب أن الجميع رفض الإقرار بانتصار بشار، مما يعني إمكانية تجدد المعارك من جديد ما بين المعارضة وقوات بشار الأسد، وهو الأمر الذي لا تريده روسيا، التي تدخلت في سوريا عام 2015، لا لتجعل الأسد ينتصر بل لإحداث تغيير ميداني يؤدي لحل سياسي.

روسيا راهنت على أن الحل السياسي سيأتي من إيران وتركيا وهما الفاعلان الإقليميان على الأرض، لكن عدم وجود تمثيل عربي في الحل السياسي السوري يعني استمرار حالة عدم الاستقرار، فالأزمة السورية أشعلتها الدول العربية ولم تشعلها تركيا أو إيران.

الدول العربية وخصوصًا من تسمي نفسها الدول العربية المعتدلة أو الدول الداعية لمكافحة الإرهاب أو دول حصار قطر التقطت الرسالة الروسية وأظهرت استعدادها مؤخرًا لأن تكون جزءًا من الحل السياسي في سوريا، ويظهر ذلك في حميمية لقاء وزير خارجية البحرين ووزير خارجية نظام بشار الأسد في نيويورك. هذه الدول قدمت رِجلًا وأخرت أخرى في موضوع التطبيع مع الأسد، وهي تخشى أن يرفض الأسد التعامل معها بعد تورطها في دعم الفصائل في سوريا، ومن هنا وقع الاختيار على الرئيس السوداني المقبول لدى الطرفين السوري والخليجي.

في الخلفية يظهر رجل أعمال إماراتي مقرب جدًا من ولي عهد أبوظبي وله استثمارات ضخمة في الخرطوم، وقد كان عامل على تحسين العلاقات السودانية الإماراتية، وهو رجل الأعمال عبدالجليل البلوكي مدير مكتب الشيخ محمد بن خالد آل نهيان ومدير عام إدارة المحميات الطبيعية الإماراتية ومدير شركة آفاق الإسلامية التي تمتلك حصة كبيرة من أسهم بنك الخليج في السودان.

اقرأ أيضًا: نظام البشير الإسلامي المرضي عنه إماراتيًا

تحدثت مواقع الكترونية عن ضغط كبير يمارسه هذا الرجل في الإمارات من أجل تطبيع العلاقات مع بشار وعينه على عدد من المشاريع الإستثمارية المهمة في سوريا، وقد سافر إلى سوريا قبل أشهر في مفاجأة كبرى كأول رجل أعمال خليجي ثقيل يكسر الحصار على نظام الأسد، وشاهد على الأرض أماكن لمشاريع شركة دمشق القابضة المملوكة لآل مخلوف، من أهمها مشروع خلف الرازي ماروتا سيتي.

يبقى الآن تساؤل هل دافِع الرئيس البشير لزيارة الأسد وكسر عزلته الدولية المجاملة لروسيا وفقط؟ أم الدافع هو حمل رسالة من دول عربية خليجية إليه؟ أم مجاملة لرجل الأعمال الإماراتي عبدالجليل البلوكي الذي ساعد السودان في تحسين علاقاته مع المحور العربي أم الأمور الثلاثة مجتمعة؟

هذا ما لا يعلمه إلا البشير نفسه، وستثبت الأيام أيًا من هذه التوقعات كان صحيحًا.