رحلة في عالم من الأبعاد الإضافية – الحلقة التاسعة والأخيرة

مراجعة وتحرير إسلام سعد

توقفنا في نهاية المقال السابق عند الجمود الذي حاق بنظرية الأوتار والجاذبية الفائقة، بالتزامن مع ملابسات وفاة/انتحار جول شيغك. فبين عامي 1979 و 1983 لم تشهد النظرية وقائع ذات أهمية، باستثناء حدثين قادا إلى الثورتين الكبريين في نظرية الأوتار. قامت الثورة الأولى بغرض استنباط أوجه مختلفة للنظرية. بينما تمثلت الثورة الثانية في توحيد تلك الأوجه. وبنهاية هاتين الثورتين، ومع نهاية رحلتنا، سنرى كيف تتعامل الأوتار مع الجاذبية في إطار الأبعاد الإضافية.

تمهيد لثورة عارمة

كان الحدث الأول المسئول عن الثورة الأولى هو اكتشاف «بيتر فرويند – Peter Freund» و«مارك روبن – Mark Rubin» لآلية اختزال الأبعاد في الزمكان عبر التراص «Freund-Rubin Compactifications» عام 1980، والتي لم تتبين أهميتها للمشتغلين على الأوتار، إلى أن اتضح أنها أساس ثنائية المقياس/الجاذبية gauge/gravity duality القائمة على ثنائية فضاء دي-سيتِر المضاد/نظرية المجال الامتثالي AdS/CFT أو ما يعرف بـ «مبدأ الهولوجرافية – Holographic principle».

أما الحدث الثاني فكان اكتشاف ألكسندر بولياكوف Alexander Polyakov عام 1981 الطريقة المثلى للتعامل مع تكاملات صفحة العالم worldsheet للأوتار بشكل كمي مشابه لمسار فاينمان التكاملي Feynman Path Integral للجسيمات في نظرية الكم للمجالات.

في إطار نظرية الأوتار، تدعى تلك التكاملات فِعل بولياكوف Polyakov action، وهي تكاملات لا متغايرة مقياسيًّا gauge-invariant مَثَلُهَا كَمَثَلِ كميات ڤايل اللامتغايرة مقياسيًّا والتي أشرنا إليها من قبل في المقال الثالث. وعبر اختيار المقياس المناسب اتضح أن فعل بولياكوف يناظر طريقة نامبو-جتو Nambu-Goto التي أشرنا إليها في المقال السابع. وهو ما مكَّن طريقة بولياكوف من إيجاد أول تبرير متماسك لنجاح لفليس في التخلص من التاكيونات في 26 بعدًا.

تتميز طريقة بولياكوف بقدرتها على العمل في إطار تناظرات الفضاءات الداخلية وتناظرات بوانكاريه للزمكان بما يضمن توحيد البوزونات والفرميونات بجميع أنواعها، وخصوصًا السبينورات، وبدون تاكيونات. بذلك، ولأول مرة، يبدو أننا على الطريق المثالي لتحقيق مصالحة نهائية بين النسبية العامة لآينشتاين ومقاييس ڤايل الكمية تحت مظلة الأوتار الفائقة. ولكن قبل ذلك نحتاج إلى فهم العلاقة بين النظريات المتعددة للجاذبية الفائقة، وكيف يمكن توحيدها معًا[1].

الثورة الأولى في نظرية الأوتار الفائقة: لأن نظرية واحدة لا تكفي!

بحلول الثمانينيات من القرن الماضي، أصبح لدينا ثلاث نظريات للجاذبية الفائقة في عشرة أبعاد:

1. نظرية النوع الأول Type I، وتنشغل بتفسير الأوتار المفتوحة في نموذج GSO الذي ناقشناه في المقالة السابقة.

2. نظرية النوع الثاني أ Type IIA، وتنشغل بتفسير بالأوتار المغلقة اللا-يَدَوَانِيّة non-chiral.

3. نظرية النوع الثالث ب Type IIB، وتنشغل بالأوتار المغلقة اليدوانية chiral.

واليدوانية الكَمية quantum chirality خاصية مقياسية تحدد الفرميونات التي يمكنها التفاعل عبر بوزونات المقياس. وقد ناقشنا سلفًا كيف نُمَثِّلُ هذه التفاعلات في المقال الخامس. الجديد هنا أن اليدوانية الكمية تجعل بوزونات المقياس متعامية عن الفرميونات ذات اليدوانية اليمينية right-handed، بينما تتسبب اليدوانية في تفاعل الفرميونات ذات اليدوانية اليسارية left-handed عن طريق نفس البوزونات. لهذا نحتاج لنفس الخاصية في الأوتار التي تُمَثِّلُ الفرميونات. لاحقًا عُدِّلَت تلك النظريات لتتعامل مع الأوتار المفتوحة والمغلقة معًا كما سيتضح لاحقًا.

كان دمج الجاذبية الفائقة بنظرية الأوتار وعدًا صريحًا بالمصالحة بين الكَمِّ والنسبية العامة. وبأخذ التنافر القديم بين مقاييس فايل Wyel gauge الكمية وتواصلات connections النسبية العامة بعين الاعتبار كما أوضحنا في المقال الثاني، وكما أشرنا سريعًا في المقالة السابقة أثناء مناقشة إسهامات جيغفيه وساكيتا، فقد كان من الضروري التأكد من خلو نظريات الأوتار من شذوذ المقياس بكل أنواعه -كما هو الحال في النوع الثاني من نظريات الأوتار- وخاصة انتفاء شذوذ المقياس اليدواني chiral gauge anomaly في النوع الثالث من نظريات الأوتار. والمقصود من الخلو من شذوذ اليدوانية هو إمكانية تحويل جميع المقاييس الكلاسيكية والجذبوية إلى نظيرتها الكمية، وبالتالي يمكن وصف النظريات الكلاسيكية للجاذبية -كالنسبية العامة وتعديلاتها– كميًّا. وهو ما نجح في تحقيقه إدوارد ويتن Edward Witten ولويس ألفاريز-جوميه Luis Álvarez-Gaumé عام 1983 أثناء معالجتهما للنوع الثالث من نظريات الأوتار.

أما بالنسبة النوع الأول من نظريات الأوتار، فقد نجح مايكل جرين Michael Green وجون شوارتس John Schwarz في تخليصه من شذوذ اليدوانية في ليلة عاصفة على غير المعتاد في كالتك خريف سبتمبر 1984، بعد عمل مضنٍ استغرق خمس سنوات! كما يخبرنا جرين في حلقة «مصارعة الأوتار» Wrestling with String Theory من الوثائقي الشهير الكون الأنيق The Elegent Universe، فقد تمثلت المعضلة حسابيًّا في إيجاد 496 عنصرًا مسئولًا عن التحويلات المؤثرة على مقياس تلك النظرية. تلاها اختزال الفضاء الداخلي لهذه النظرية من 32 بعدًا إلى 10 أبعاد زمكانية، وقد ناقشنا من قبل كيف تم ذلك عندما اختزل شوارتس نظرية لفليس ذات 26 بعدًا إلى 10 أبعاد.

تُعرف طريقة جرين-شوارتس بآلية إلغاء الشذوذ anomaly cancellation، وهي الآلية التي تفسر ظهور معظم الجسيمات «الكلاسيكية» الغريبة التي حصل عليها  كل الفيزيائيين الذين عملوا على توحيد النسبية والكَمِّ في الأبعاد الإضافية قبل ظهور التناظر الفائق؛ فمن خلال آلية إلغاء الشذوذ، يمكن تفسير معظم تلك الجسيمات والمجالات التي رأيناها ظهورها من العدم في المقالات التي ناقشت تطوير نظرية «كلاسيكية» للجاذبية قبل دخول التفاعلات النووية «الكمية» في اللعبة. وقد ذكرنا عدة جسيمات في المقالات السابقة كمجال الديلاتون Dilaton الذي كان يبغضه آينشتاين، أو تلك الفرميونات عديمة الكتلة في نظرية كلاين المسماة لاحقًا بـ فرميونات راريتا-شوينجر Rarita-Schwinger fermions، أو دايونات جوستاف مي Dyons، أو الجسيمات أحادية القطب المغناطيسي لديراك Dirac Magnetic Monopoles. وهو ما جعل بولياكوف يحتفي بأهمية آلية إلغاء الشذوذ لكونها «غالبًا ما تحول قمامة الماضي إلى كنز الحاضر».

وبالعودة إلى الورقة البحثية الخاصة بالـ496 عنصرًا، توقع جرين وشوارتس وجود نظرية مقياس أخرى ممثلة في تكوين رياضي يدعى الزمرة الاستثنائية Exceptional group، لكنهما لم يتمكنا من وصفها رياضيًّا. وقد سبق أن أشرنا سريعًا إلى الدور الذي قد تلعبه الزمرة الاستثنائية لتوسيع النموذج العياري إلى نظرية جاريت ليزي Garrett Lisi. وبعد شهرين من اكتشاف آلية إلغاء الشذوذ، في أواخر خريف نوفمبر 1984 تمكن ديفيد جروس David Gross (الحائز على نوبل في الفيزياء 2004)، وجيف هارفي Jeff Harvey، وإيميل مارتينك Emil Martinec، ورايان روم Ryan Rohm من وضع أساس نظريتي أوتار «هجينة» Heterotic String Theories تمثلان نظرية جرين-شوارتس في الفضاء الداخلي ذي الـ32 بعدًا وتدعى اختصارًا HO، ونظرية المقياس الاستثنائي التي لم يتمكن جرين وشوارتس من وصفها وتدعى اختصارًا HE.

تُدعى كلا النظريتين بالهجينة لأن الوتر الواحد في كل نظرية يتصرف أحيانًا كبوزون وأحيانًا أخرى كفرميون. وتأتي النظرية الاستثنائية الهجينة بتحويلين لا تحويل واحد كما هو الحال في نظرية جرين وشوارتس. وحيث إن كل تحويل يعمل في 8 أبعاد، فيصبح لدينا 16 بعدًا قابلين للاختزال إلى 10 أبعاد، تماما كما حدث مع نظرية جرين وشوارتس ذات الـ32 بعدًا. ولتلافي اختلاف عدد الأبعاد بين النظرية الاستثنائية ونظرية جرين وشوارتس، أثبت جروس ورفاقه وجود 248 عنصرًا بكل تحويل. وبجمع العناصر في التحويلين فإن النظرية الاستثنائية تتساوى مع نظرية جرين وشوارتس من حيث عدد العناصر. ولذلك قد تختلف النظريتان الهجينتان رياضيًّا عن بعضهما البعض في «حرية» اختيار المقياس وعدد الأبعاد الناتجة عن ذلك الاختيار. لكن تَساوي عدد العناصر يضمن أن تتنبأ النظريتان بنفس الخواص الفيزيائية للأوتار الهجينة.

تعتبر الورقة البحثية الخاصة بنظرية الأوتار الاستثنائية الهجينة درة تاج الثورة الأولى في نظرية الأوتار، وذلك نظرًا لاستخدامها معظم أنواع الرياضيات التي ظهرت قبلها بداية من فنيزيانو وفيراسورو، مرورًا بأعمال رامون وشيغك وشوارتس، ثم فيس و تسومينو، وأخيرًا طريقة فرويند-روبن الخاصة بالتراص. وسنرى بعد قليل كيف مهدت العلاقة الغامضة بين النظرية الهجينة ونظرية جرين وشوارتس الطريق للثورة الثانية في نظريات الأوتار عبر ما يُعرف بالازدواجيات Dualities. جدير بالذكر أن النظريتين الهجينتين تأتيان خاليتان من التاكيونات. كما تعتبر النظريتان من أهم الركائز لدمج الأوتار مع الجاذبية وعلم الكونيات. يظهر ذلك جليا في مشروع فيليب كانديلاس Philip Candelas، وجاري هورويتس Gary Horowitz، وآندرو سترامنجر Andrew Strominger، وإدوارد ويتن Edward Witten لاقتراح حل لمشكلة الثابت الكوني من داخل نظرية الأوتار في الأول من يناير 1985.

أشرنا في المقال الأول من هذه السلسلة إلى مشكلة التنافر الرهيب بين النسبية العامة ونظريات الكَمِّ للمجالات في حساب قيمة طاقة الفراغ. واعتمادًا على نظريات الأوتار الهجينة وتراص فرويند-روبن، فصل كانديلاس وهورويتس وسترامنجر وويتن العشرة أبعاد في النظريات السابقة إلى 4 أبعاد للزمكان، و6 أبعاد للخواص الكمية. ثم استبدلوا الثابت الكوني بالطاقة الموجودة في التركيب الهندسي سداسي الأبعاد -الناشئ عن النظرية الهجينة- والمعروف بهندسة كلابي-ياو Calabi-Yau geometry. ظهرت هذه الهندسة لأول مرة عام 1957 عبر تكهن إيوجينيو كالابي Eugenio Calabi بوجود نوع من الهندسة يحمل في طياته مواصفات الهندسة الريمانية الخاصة بالنسبية العامة، والهندسة الامتثالية الخاصة بتناظرات فايل معًا. كما يمكن اختزال هذه الهندسة الشاملة إلى هندسة تماسكية Symplectic geometry، وهي نوع من الهندسة يتيح وصف الأنظمة الجذبوية والكمية بالديناميكا الكلاسيكية القديمة المعروفة بديناميكا هاملتون Hamiltonian mechanics عبر الطاقة والزخم الموجودين في النظام، مما يتيح لنا استنباط معادلات الحركة للنظام الكمي أو الجذبوي بشكل مباشر. في عام 1977 -أثناء صعود الجاذبية الفائقة- تمكن شينج-تونج ياو Shing-tung Yau من إثبات صحة تخمين كالابي بالتفصيل الرياضي.

بملاحظة توافق خواص هندسة كالابيياو مع فعل بولياكوف، نجح كانديلاس وهورويتس وسترامنجر وويتن في استخدام الشروط التي وضعها ياو على تكهن كالابي، وإيجاد طريقة لبناء وتفكيك الهندسة إلى مكوناتها الريمانية والامتثالية، وذلك بغرض إيجاد طريقة لاختزال نظرية الأوتار إلى النموذج العياري (القياسي) مما يجعل النظرية قابلة للاختبار والمقارنة على الأقل من الناحية النظرية. وفي عام 1986 تمكن سترامنجر -منفردًا- من دمج مجال الديلاتون ومجال الانفتال torsion field -الذي تحدثنا عنه في مقال نظرية يانجميلز– داخل نظرية الأوتار الهجينة، مما منح الفيزياء اتجاهًا جديدًا لدمج منهجية ريويو أتياما داخل نظرية الأوتار.

صورة: إسقاط هندسة كالابي-ياو سداسية الأبعاد في 3 أبعاد.

في الفترة ما بين 1988-1995 انقسم الفيزيائيون المشتغلون بنظرية الأوتار إلى فريقين. اهتم الفريق الأول بالعلاقة بين الأوتار ونظرية الديناميكا اللونية الكمية Quantum Chromodynamics، والتي نجحت سابقًا في استبدال نموذج الرنين الازدواجي لتفسير التفاعلات النووية، وذلك بغرض استنباط نموذج لوني كمي فائق Supersymmetric Quantum Chromodynamics. كما اهتم نفس الفريق بتفسير الأوتار الهجينة وربط هندسة كالابي-ياو بالظواهر phenomenology المعروفة من النموذج العياري/القياسي، وذلك بغرض توسيع النموذج العياري standard model إلى النموذج العياري فائق التناظر الأصغر Minimal Supersymmetric Standard Model بحيث يمكن دراسة تفاعل الجسيمات العيارية مع الجسيمات الفائقة. وقد ظهرت إرهاصات ذلك النموذج عام 1977 أثناء دراسة بيير فاييه Pierre Fayet لتفاعلات جسيمات النموذج العياري مثل الإلكترونات مع الجسيمات الافتراضية الفائقة كالفوتينو (الفرميون الفائق المرافق للفوتون) والجولدستينو (الفرميون الفائق المرافق لجسيمات جولدستون، والتي ترافق جسيمات هيجز أثناء منح الكتلة للجسيمات).

بينما اهتم الفريق الثاني بتطوير الجاذبية بشكل كمي -وتحديدا نظريات الجرافيتون- في إطار الأوتار للحصول على نظرية للجاذبية الكمية Quantum Gravity، وخاصة في وجود الثقوب السوداء Black Holes. كما اهتم نفس الفريق ببناء نماذج كوزمولوجية باستخدام الديلاتون والمجالات الأخرى المشابهة. يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر أعمال دانيلي أماتي Daniele Amati، ومارشيلو تشفالوني Marcello Ciafaloni، وجابريل فنيزيانو Gabriele Veneziano عام 1988 على دراسة جاذبية الثقوب السوداء قبيل تبخرها بالكامل بسبب أشعاع هوكينج Hawking Radiation عند اقتراب نصف قطر تلك الثقوب السوداء من طول بلانك Planck length، أقصر طول تتيحه نظرية الكم.

ولكن قبل ذلك ظهرت ورقة بحثية أخرى عن الجاذبية الفائقة عام 1987، تمكن فيها إيرك بيرجشوف Eric Bergshoeff ، وإيرجن سيزجن Ergin Sezgin، وباول تاونسِند Paul Townsend من استبدال الأوتار الفائقة بالأغشية الفائقة supermembrane لوصف حركة جسيم الجرافيتون في 11 بعدًا. هذه الأغشية الفائقة هي تعميم لصفحة العالم worldsheet في نظرية الجاذبية الفائقة. وهنا ظهرت علامة استفهام على الفرق بين نظريات الأوتار في 10 أبعاد، ونظريات الأغشية في 11 بعدًا [2].

الثورة الثانية في نظرية الأوتار الفائقة: لأن ازدواجية واحدة لا تكفي

في بداية تسعينيات القرن الماضي، وبينما كان معظم الفيزيائيين مشغولين بالجاذبية الكمية والظواهر التجريبية، كان إدوارد ويتن مشغولًا بتبرير وجود بعض النظريات التي تعمل في إطار 10 أبعاد، ونظريات أخرى تعمل في 11 بعدًا. ولكن مهلًا! لماذا لدينا بالأساس خمس نظريات بدلًا من نظرية واحدة لوصف الأوتار؟! وهنا بدأت فكرة الازدواجية Duality تلوح في الأفق، والتي مهدت مباشرة لظهور النظرية الجامعة والمعروفة بالنظرية-م M-theory.

قبل ذلك عام 1989 ناقش جوزيف بولشِنسكي Joseph Polchinski -بالتعاون مع طالبيه جين داي Jin Dai وروبرت لاي Robert Leigh- الربط بين النظريات المتعددة للأوتار عبر استخدام الأغشية Branes لوصف اهتزاز الأوتار المفتوحة؛ فالوتر المفتوح يشبه في حركته الشعرة الكلاسيكية المعلقة في الهواء. هذا ما يتسبب في حركة الوتر المفتوح بأي تردد، وهو ما يخالف النظرية. لذلك وضع بولشنسكي شروطًا حَدِّيَّة boundary conditions على نهايات الوتر المفتوح بحيث تجعل سلوكه مشابهًا لسلوك الشعرة المثبتة بين حائطين، فلا يُسمح لها إلا بالاهتزاز بأنماط محددة غير عشوائية. تعرف هذه الشروط باسم شروط دريشيليه Dirichlet conditions، وتسمى تلك الحوائط بالأغشية membranes. ومن خلال دمج أول حرف من اسم دريشيليه وآخر خمسة حروف من الأغشية يصبح لدينا ما تعرف بالأغشية-د D-branes.

جدير بالذكر أن ديفيد فيرلي David Fairlie وإدوارد كوريجان Edward Corrigan كانا قد اكتشفا شيئًا يقترب للغاية من الغشاء-د في عام 1974 قبل حدوث الثورة الأولى في نظرية الأوتار الفائقة بعشر سنوات. لكن التركيب الهندسي لنظرية فيرلي-كوريجان لم يحتوِ بداخله على ما يمكننا من خلاله التمييز بين الأغشية في النظريات الوترية المختلفة نظرًا لغياب باقي التراكيب التي ظهرت بعد ذلك.

في عام 1991 طرح جرين فكرة مشابهة لبولشنسكي وطالبيه. اقترح جرين استخدام نوع آخر من الشروط الحَدِّيَّة يعرف باسم شروط نيومان Neumann conditions. فقد افترض جرين حركة صفحة العالم للوتر المفتوح في مسار دائري مغلق لتُشَكِّلَ أسطوانة. وعند ضم طرفي الأسطوانة إلى بعضهما البعض -باستخدام التراص- يصبح لدينا وتر مُحَدَّد الحركة بحلقة مفرغة من المنتصف تشبه إطار/طارة الدراجة torus، تمامًا كتلك الطارة الموجودة في نظرية جاريت ليزي المبنية على الزمرة الاستثنائية. وتسمى هذه العملية بالازدواجية-ت T-duality.

وتر مفتوح يصل بين غشائي-د.

لكن للأسف لم تنجح تلك المجهودات في لفت أنظار الفيزيائيين إليها؛ إذ بين عامي 1989-1994 لم تحصل الورقة العلمية لبولشنسكي وطالبيه إلا على 10 استشهادات فقط! وكان حظ جرين أفضل نسبيًّا؛ فقد حصدت ورقته البحثية 15 استشهادًا. ثم جاء عام 1995 ليعلن ويتن خلال مؤتمر عُقِدَ في مركز الفيزياء النظرية بجامعة كاليفورنيا الجنوبية عن نجاحه في توحيد النظريات الخمس المختلفة للأوتار الفائقة. وكانت تلك بداية الثورة الثانية في نظرية الأوتار، ورد اعتبار لمجهودات فريق بولشنسكي وجرين [3].

لاحظ ويتن الفارق بين الجاذبية الفائقة في 11 بعدًا والنظرية الوترية من النوع الثاني-أ في 10 أبعاد من خلال وصف مدى وشدة طاقة كل نظرية وإطار عملها، وذلك عبر ثابت يدعى ثابت مقياس الاقتران gauge coupling constant. يحدد هذا الثابت إذا ما  كانت النظرية تصف قوة عظيمة القدر وقصيرة المدى كالقوى النووية، أو تصف قوة ضعيفة التأثير وكبيرة المدى كالجاذبية. وقد انتبه ويتن إلى التناسب العكسي من حيث القيمة بين ثابت مقياس الاقتران في الجاذبية الفائقة في 11 بعدًا مع نظيره في النظرية الوترية من النوع الثاني-أ في 10 أبعاد. مثل هذا التناسب يسمى بالازدواجية-س S-Duality نسبة إلى الازدواجية بين الطاقات القوية والضعيفة Strong-weak duality أو الازدواجية الكهربية المغناطيسية والتي مررنا عليها سريعًا في المقال الخامس. لكن هذه الازدواجية ليست جديدة في الفيزياء. فالازدواجية-س طريقة معروفة لوصف اختلاف الظواهر الفيزيائية داخل النظرية الواحدة نتيجة اختلاف مستويات الطاقة، وذلك بغض النظر عن كون النظرية وترية أو كلاسيكية.

في عام 1977 اقترح ديفيد أوليف David Olive وطالبه كلاوس مونتونين Claus Montonen هذه الازدواجية لتبرير وجود شحنات كهربية منفردة في مستوى الطاقات الاعتيادية، بينما لا توجد -على نفس مستوى الطاقة- شحنات مغناطيسية منفردة كأقطاب أحادية magnetic monopoles شمالية كانت أو جنوبية، ومنفصلة عن بعضها البعض كتلك التي في نظرية ديراك. ونتيجة لتطبيق هذه الازدواجية على مستويات الطاقة العليا، فإن الشحنات الكهربية والمغناطيسية تتبادل الأدوار التي تؤديها في مستويات الطاقة الاعتيادية.

في عام 1980 عَمَّمَ بيتر فرويند Peter Freund وتوماس كرترايت Thomas Curtright تلك الازدواجية على مستوى الجاذبية، مقترحَين وجود نظير أو شبيه للجرافيتون Dual Graviton عند الطاقات العليا التي تتطلب مراعاة الانفتال torsion في الجاذبية بدلًا من الاكتفاء بوصف الجاذبية باستخدام انحناءات ريتشي فقط. واتضح لاحقًا أن علاقة الجرافيتون بنظيره هي نفس العلاقة بين الفوتون والنوتوف في نظرية أوجيفتسكي وبولبارينوف للكهرومغناطيسية، ذلك النوتوف الذي أُعيدَ اكتشافه مرة أخرى في إطار نظرية الأوتار على يد بيير رامون Pierre Ramond -أحد مؤسسي التناظر الفائق كما ناقشنا في المقال السابق- بالتعاون مع مايكل كالب Michael Kalb. كما تم إيجاد علاقة وثيقة بين نموذَجَي فرويند-كرترايت وأوجيفتسكي-بولبارينوف للجاذبية، والذي تحدثنا عنه في المقال السابق. ويظهر ذلك جليًا عند دراسة تلك الجسيمات الافتراضية في إطار نظرية الجاليليونات Galileons، وهي أحد التعديلات على النسبية العامة المنبثقة من نظرية برانز-ديكي، والتي ناقشنا كراهية آينشتاين الشديدة لها في المقالة الرابعة.

ثم أُهمِلت الازدواجية-اس باستثناء بعض المحاولات على استحياء، كمحاولة أشوك سِن Ashoke Sen عام 1994 لاستخدامها في إطار نظرية الأوتار الهجينة من النوع HO. وبقيت الازدواجية-س محل إهمال إلى أن أعاد ويتن تقديمها في نظرية الأوتار من جديد وبشكل ثَوْري تمامًا في المؤتمر الذي أشرنا إليه منذ قليل. فقد أثبت ويتن نفس التناسب العكسي في ثابت مقياس الاقتران للنظرية الوترية من النوع الثاني-أ وثابت الجاذبية الفائقة في 11 بعدًا داخل إطار النظرية الهجينة من النوع الاستثنائي HE. ثم استخدم ويتن الازدواجية-س للربط بين النوع الأول من النظريات الوترية، والنظرية الهجينة HO. كما نجح ويتن في ربط النوع الثاني-أ مع النوع الثاني-ب، والنوعين الهجينين HO-HE باستخدام الازدواجية-ت. فتمكن ويتن -بنجاح مبهر- من ربط كل عنصر من الـ496 عنصرًا في كل نظرية بما يقابله في النظرية الأخرى على أغشية مختلفة، وذلك باستخدام هندسة كالابي-ياو المشتركة فيما بين الأغشية.

أعلن ويتن أيضًا عن احتواء نظريته على طريقة لتطوير أغشية أخرى مناظرة لتلك التي حصل عليها بولشنسكي وجرين. واتضح أن طريقة ويتن تمكننا من تعميم سلوك الشحنات الكهربية والمغناطيسية في نظرية رامون التي تحدثنا عنها في المقال السابق. وبذلك ربط ويتن بين ازدواجية هراريروزنر التي أسست للأوتار، وبين الازدواجية-س. هذا الربط ما يجعلنا قادرين على تفسير تذبذب مخطط هراري-روزنر بين بوزون رو Rho-meson وفرميون دلتا Delta-baryon -كتذبذب الوتر في النظريات الهجينة- وذلك بحسب مستوى طاقة الجسيمات الداخلة في التفاعل. وكانت تلك لحظة ميلاد النظريةم Mtheory ، النظرية الجامعة لكل نظريات الأوتار [4] .

العلاقات بين النظريات الوترية المختلفة عبر الازدواجيات. تمثَّل الازدواجية-س بالأسهم الصفراء، بينما تمثَّل الازدواجية-ت بالأسهم الزرقاء.

أنواع أخرى من الأبعاد الإضافية

ناقشنا سابقًا نظريات الأبعاد الإضافية في إطار التراص الذي يجبرها على أن تأخذ أطوالًا قريبة من طول بلانك. لكن هذه الأبعاد لا تستطيع حل إشكالية التسلسل الهرمي Hierarchy problem والتي أشرنا إليها في أول مقال. وعليه في عام 1998، اقترح نيما أركاني-حامد Nima Arkani-Hamed، وسافَس ديموبلس Savas Dimopoulos، وجيا دفالي Gia Dvali وجود عالمنا رباعي الأبعاد مطمورًا embedded في عالم ذي أبعاد أكثر يتراوح عددها ما بين الستة والأحد عشر بعدًا.

تنتقل الجاذبية في تلك الأبعاد الإضافية بين الأجسام بناء على حجمها بالنسبة للأبعاد الإضافية، والتي تتوقع النظرية أن تكون في حدود 1 مليمتر إلى طول بلانك بناء على عدد الأبعاد الإضافية. وفي حالة كَوْنِ الأجسام قريبة من طول بلانك، تتصرف الجاذبية  كما لو كانت مثل القوى النووية من حيث شدتها. أما إذا كانت قريبة من الأطوال الكلاسيكية فإنها تخضع لقانون التربيع العكسي لنيوتن. وعندما تكون المسافات بين الأجسام كسورًا من المتر، فإن اقتراح أركاني-ديموبلس-دفالي يشبه قانون التربيع العكسي لشدة الإضاءة في ثلاثة أبعاد، حيث تتوزع موجة الضوء على سطح الكرة.

لكن شدة الموجة تتناقص (تتزايد في حالة المسافات الأكبر من متر) في بعدين نظرًا لأن قانون التربيع العكسي يتحول إلى قانون تناسب عكسي، حيث تتوزع موجة الضوء على محيط دائرة بدلًا من سطح الكرة. ويمكن اختبار مثل هذه النظرية عبر رصد موجات الجاذبية القادمة من الثقوب السوداء ومن تصادمات الجسيمات الدقيقة في مُصادِم  الهادرونات الكبير LHC بسيرن. ولكن حتى اللحظة لا يوجد دليل على صحة النظرية.

وفي عام 1999 اقترحت ليزا راندال Lisa Randall ورامان ساندرم Raman Sandrum نموذجهما للأبعاد الإضافية المقوسة (الحدبية) Warped Extra Dimensions لتفسير إشكالية التسلسل الهرمي وتعارض القيمة المرصودة للثابت الكوني Cosmological Constant مع القيمة المتنبأ بها في نظرية الكم للمجالات كما أشرنا في أول مقال. يقوم النموذج على افتراض كون ذي خمسة أبعاد، ويمكن فصله إلى غشائين رباعيي الأبعاد . يتصرف البعد الإضافي الخامس كما لو كان بعدًا زمانيًّا زائداً مقوسًا (محدبًا).

يرجع هذا التقوس إلى كون ذلك البعد محمَّلًا بثابت كوني ذي قيمة قريبة من تلك التي تتوقعها نظرية الكم للمجالات. لكننا لا نرصد في الغشاء الممثل لعالمنا رباعي الأبعاد سوى جزء يسير من ذلك الثابت الكوني، وهو المسئول عن تمدد الكون كما أشرنا في المقالة الأولى. ويتبادل الغشائين الجسيمات، بحيث تظهر الجاذبية ضعيفة في عالمنا، وقوية في العالم الآخر. والعكس بالنسبة لباقي القوى الأخرى. كما يزداد طول الأبعاد الأربعة وتقل كتلة الجسيمات الدقيقة في عالمنا، والعكس صحيح في الغشاء الآخر المحب للجاذبية. وكوضع نموذج أركاني-ديموبلس-دفالي، لايوجد حتى اللحظة دليل تجريبي على صحة نموذج راندال-ساندرم.

بالتأكيد فإن قصة الأبعاد الإضافية لا تنتهي هنا، وهي مستمرة حتى اللحظة في إطار نظرية الأوتار. ولكن للأسف فإن المساحة لا تسعفنا لنقاش لماذا يعتبر العديد من الفيزيائيين نظرية الأوتار نموذجًا ناجحًا وواعدًا بتقديم حل لتوحيد قوانين الفيزياء. ولا تسعفنا أيضًا في نقاش لماذا يعتبر العديد من الفيزيائيين نظرية الأوتار مجرد تمرين رياضي معقد، لكنه يبقى فاشلًا في وصف الطبيعة على النحو المُرضي. ولذلك نترك القارئ مع هذه الفيديوهات التي تلخص هاتين المسألتين.

المراجع
  1. Cappelli, Castellani, Colomo, Di Vecchia, The birth of string theory.
  2. Rickles, A Brief History of String Theory: From Dual Models to M-Theory.
  3. Witten, String Theory Dynamics in Various Dimensions.
  4. Costas Efthimiou, Brian Greene, Fields, Strings and Duality (TASI 96).