كشفت تجربة الحركة الإسلامية في الجزائر في أوائل تسعينيات القرن الماضي عن مجموعة من الأخطاء ظهرت جميعها في مشهد واحد، لعل أهمها: غياب رؤية واضحة للسياسة والدولة، وازدواجية الخطاب والارتباك في القرارات، والعفوية العاطفية التي حكمت منهج الحركة الإسلامية وسياستها، إضافة إلى صراع الأفرع داخلها، وتشدد كثير من دعاتها وعلمائها وانغلاقهم، وإشعال صراعات في وقت غير مناسب، ممَّا تسبب في هدم الحركة الإسلامية وخسارة ما كانت تتمتع به. لكن يبقى السؤال الأهم: هل استُدرِجت الحركة الإسلامية في الجزائر إلى هذه المواجهة لتنتهي بهذا الشكل؟

ربما يكون العديد قد كتب عن التجربة الجزائرية، مثل العقيد السابق في المخابرات الجزائرية «محمد سمراوي» في كتابه الإسلاميون والعسكر، والذي يروي القصة من منظور المخابرات، لكن أبا مصعب السوري الذي نستعرض شهادته هنا يرويها من «منظور بعض الجهاديين»(١)، ولذلك فشهادته تكمل ما قد كتب، وتبرز بعض الجوانب التي أغفلتها الكتب الأخرى، وهي أيضًا شهادة ينبغي أن تستفيد منها الحركات الإسلامية بشكل عام، خصوصًا أن بعضًا من أحداث هذه التجربة الماضية تعاد بنسخة متكاملة مع بعض التحسينات في بعض البلدان، وإن كانت التجربة الجزائرية أشد أثرًا وبشاعة!

الشهادة الكاملة والشهادة المختصرة

كتب أبو مصعب العديد من الكتابات والدراسات حول أحداث الجزائر، من أهمها: بحث سياسي شرعي في حوالي 150 صفحة حمل عنوان: «المؤامرة الكبرى على الجزائر»، كتبه سنة 1995، وقد طُبع ونشر في مكتبات لندن، وأيضًا دراسة في منهج الجبهة الإسلامية للإنقاذ كتبها في 36 مقالًا تحليليًّا، نُشرت في مجلة الأنصار، إضافة للمقابلات الصحفية والأشرطة والمحاضرات العديدة، مثل: صرخة حق من الجهاد في الجزائر، وقفة صريحة مع أحداث الجزائر، وجلسة مع شباب الجزائر، وغيرها.

وبعد أن ارتحل السوري إلى أفغانستان ليستقر فيها عام 1997 كان أول أهدافه التي حددها لنفسه هو كتابة شهادته عن أحداث الجزائر، وبالفعل كتب كتابًا كاملًا يبلغ حوالي 180 صفحة، وكان الكتاب، على حد تعبيره، مرفق به 60 وثيقة مهمة، كما يذكر السوري أنه توفرت لديه معلومات وتفاصيل دقيقة حول حقيقة ما جرى من أحداث؛ نتيجة قيامه بتسجيل شهادات بعض الجهاديين الفارين من الجزائر، ومتابعة ما كتبه الباحثون والكُتَّاب، لدرجة أنه كان لدى أبي مصعب أكثر من ستين كيلوجرامًا وثائق وأوراقًا وقصاصات صحفية عن أحداث الجزائر فقط، وفي جو صافٍ وهواء نقي بعيد عن الضوضاء، أخذ السوري هذه الوثائق والأوراق واعتزل معها وحده حوالي الشهر بإحدى الغرف في مضافة صحراوية، كي يستعين بها على كتابة شهادته، والتي وضع لها إطارًا زمنيًّا محددًا، من سنة 1989 إلى 1999، ويعقب أبو مصعب وقتها:

فرغت من كتابة بحث سأنشره قريبًا، اسمه: شهادتي في أحداث الجهاد الجزائري من سنة 1989 : 1999، وهو في حوالي 120 صفحة + 60 صفحة وثائق، سأصدره إن شاء الله الشهر القادم، وأرجو أن أكون أعطيت موجزًا كافيًا لهذه المصيبة التي نزلت بنا.

بمجرد أن انتهى السوري من كتابة بحثه أحبط الكثير من كبار الجهاديين نشر الكتاب، ولم يستطع نشره بسبب رفض الجميع ممن كانوا حوله، وكان السبب في ذلك مثلما يذكر هو أن شهادته ستحدث بلبلة وانقسامًا في الرؤى والآراء، لكن السوري لم يقتنع بهذا الكلام، وأراد أن ينشر الكتاب، فنصحه أحد كبار الإخوة بالتريث وعدم استعجال نشر شهادته، وانتظار أن يتوفر له المزيد من المعلومات والتفاصيل، ويعقب السوري: «نتيجة إلحاح الإخوة وشبه إجماعهم، أجلت نشر تلك الشهادة».

ورغم ذلك ظل السوري يشعر بتأنيب ضمير، وبالأخص حزنه الشديد من ارتباط اسمه بكتابات أبي قتادة في نشرة الأنصار، يظهر ذلك من خلال لقاءات أبي مصعب الصحفية ومحاضراته التي قام بها في أفغانستان، فقد كان كثيرًا ما يخرج عن صلب الموضوع الأساسي ويتحدث عن تجربة الجزائر، كما كان يهتم أشد الاهتمام بمقابلة المجاهدين الفارين من الجزائر، ويستضيفهم بنفسه ليعلم منهم كيف كانوا يتعاملون مع نشرة الأنصار وفتاوى أبي قتادة، إضافة لقيامه بتخصيص محاضرات ودورات معينة واصل فيها نقده لغلاة السلفية الجهادية، لكن يبدو أن ذلك أيضًا لم يخفف عنه ما وجد من عدم نشره للكتاب، ويقول السوري عن نفسه في العام 1999:

إلى الآن، ما تزال ذيول هذه القضية – يقصد أحداث الجزائر –  تساهم في تشويهي، مع – أنه علم الله – أني ما ارتضيتُ هذا المنهج ولا دقيقة، ولا أقول إني ارتضيته ثم ندمت على ارتضائه، أنا ما ارتضيته لحظة.

ثم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والاحتلال الأمريكي لأفغانستان، اضطر السوري للهروب إلى المخابئ في باكستان، ولم يكن بالإمكان مثلما يحكي أن يحمل أي شيء معه غير ثيابه التي عليه، فترك معظم كتبه وأوراقه التي كتبها أمانة عند البعض في أفغانستان، وفيها الكتاب الذي كتبه عن الجزائر، ولكن الظروف الأمنية جعلت هؤلاء يضطرون إلى حرق جميع الكتب، يقول السوري:

تركت بعض أشيائي وكتاباتي المهمة عند بعض من تقرر بقائه لأمد آخر، ولكن هؤلاء خرجوا فيما بعد، لتصلني رسالة من أحد الإخوة يخبرني فيها أنهم اضطروا للخروج، وأحرقوا كل ما كان بحوزتهم من أوراق، ومنها مسوداتي ومخطوطاتي.
ص6

ندم أبو مصعب على عدم نشره للنسخة الكاملة من الكتاب بسبب ضياع الوثائق، وفقدانه المصادر الرئيسية للبحث، وحاول بعد ذلك إعادة كتابة نسخة مختصرة استنادًا إلى ذاكرته، وما كان مُتاحًا له من أرشيف سلسلة مقالات بين منهجين، وبعض المراجع الباقية، ولذلك يلاحظ أن الكثير من التواريخ التي ذكرها السوري في شهادته المختصرة غير صحيحة، وهذا لأنه يكتب من ذاكرته، ويعقب:

سأحاول البحث في حنايا ذاكرتي التي أثقلتها الخطوب والمحن … ولقد كنت أحتفظ في ملفاتي المفقودة ببعض التفاصيل والأسماء عن تلك المرحلة، ولكنها ليست عندي الآن.
ص7

الجهادي «النبيل»

ارتحل السوري كما ذكرنا من قبل من إسبانيا إلى بريطانيا عام 1994، وكانت له دوافع شخصية في أن يتابع دراسته الأكاديمية، حيث كان أمله أن يتابع في لندن دراسة العلوم السياسية، حتى يحصل على الماجستير والدكتوراه، ويذكر السوري أنه اختار لندن في ذلك الوقت بسبب أن ما تقدمه له أكثر بكثير من مدريد، ويعقب:

وجدت في لندن كل الفرص في أن أنقل عملي التجاري وأتابع دراستي العليا في مجال العلوم السياسية والإعلام، ولكن هذه الأحلام سرعان ما انهارت في ضوء ما استجد بعد ذلك من أحداث متسارعة.

استأجَر أبو مصعب منزلًا صغيرًا ومتواضعًا في ضاحية نيسدن Neasden، عاش فيه برفقة زوجته وأطفاله الثلاثة، ثم بدأت حكايته مع الجهاد الجزائري، يقول السوري: «بدأت أدرس قضية الإخوة الجزائريين، ولذلك أجلت مشاريع لندن».

كانت لأبي مصعب علاقات سابقة مع الجهاديين الجزائريين، حيث تعرف عليهم في البداية بأفغانستان (1987: 1991)، وقد ذكر أن هذه الصلات ظلت مستمرة حتى حين ذهابه إلى إسبانيا، ثم لما ارتحل إلى لندن، رأى فيها تفشي الصحوة الجهادية، ووجد العديد من رفاقه الجهاديين ممن كانوا معه في أفغانستان، وبدأ اتصالهم بأبي مصعب بسبب وعد كان قد قطعه لصديقه الخاص «القاري سعيد»(٢) حين كانا معًا في أفغانستان، فقد حدثه القاري سعيد عن طموحه لتشكيل تنظيم جهادي في بلده الجزائر بعد الانتهاء من الجهاد الأفغاني، وأخذ الوعد من السوري بأن يأتي إلى الجزائر مثلما ذهب إلى أفغانستان، وذلك من أجل مساعدته في تدريب المجاهدين، وضبط إيقاع الجماعة على المستويين الحركي والفكري.

بدأ العد التنازلي إبان فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات المحلية في يونيو 1990، ثم توالى بعدها العديد من الاحتكاكات والصدامات بين أجهزة الأمن ومؤيدي الجبهة، وقام الجيش بالتصعيد على إثر الانقلاب العسكري 1992، حيث ألغى الانتخابات واعتقل الكثير وسقط القتلى والجرحى، عندها رأى القاري سعيد أن الوقت مناسب لمغادرة أفغانستان مع رفاقه من «الأفغان الجزائريين»، وارتحل إلى الجزائر ليشارك في تأسيس «الجماعة الإسلامية المسلحة»، واشترك بالفعل في العمل العسكري، وأصبحت أقاليم كاملة خارج سيطرة الجيش، حيث كانت الجماعة المسلحة ناجحة بشكل خاص من الناحية العسكرية والتجنيد، وهزت النظام الجزائري، لكن السلطات استطاعت القبض على القاري سعيد، ومكث في سجن لامبيز في باتنة نحو سنتين، ويعقب أبو مصعب:

وقَدَّر الله أن القاري سعيد هرب من السجن، فاتصل بي في لندن، وذكَّرني بنفس الوعد، وقال لي: انزل، ونحن في حاجة إليك، وأمانةز وترك عنوانًا، فبدأ يتصل بي بعض قيادات الجماعة المسلحة.

شعر السوري بأنه ملزم بمساعدة الجماعة الإسلامية المسلحة، وحين علم باتحاد الجيش الإسلامي للإنقاذ مع الجماعة المسلحة، وأن أكثر من 50 جماعة مسلحة صغيرة دخلت في الاتحاد، تحمس للذهاب إلى الجزائر، ورتب نفسه على الإقامة في الجزائر لمدة 6 أشهر يقف فيها أولًا على جلية الوضع – يبدو أنه لم يكن مرتاحًا للذهاب إلى الجزائر – وكذا ترتيبه مع قيادات الجماعة المسلحة، يقول السوري:

علمت بعد ذلك بمقتل القاري سعيد نفسه، ومقتل أبي عبد الله أحمد، ولكن قلت مع ذلك أذهب للجزائر، وحتى لما تولى أبو خليل محفوظ – رحمة الله عليه – تولى فترة ثلاثة أسابيع، مع ذلك تلقيت من مجموعة أبي خليل محفوظ طلبًا بالذهاب إليهم … واكتشفت أن المجموعة التي كنت سأرتب معهم النزول ضُرِبَت خطوطهم من أوروبا إلى الجزائر، فأُلغي المشروع أو بالأحرى أُجِّل … ولعلَّ الله سبحانه وتعالى من صدقنا لنية العزم صرف عنا هذا النزول حتى لا ندخل في هذه المصيبة التي حصلت فيما بعد في الجزائر.

وعلى الرغم من ذلك كان السوري يرغب في أن يذهب إلى الجزائر ولو لفترة قصيرة ليدرس الموقف بنفسه، وسأل صديقًا له من الجزائر مرتبطًا بالجماعة المسلحة، يدعى أبو فارس، فأخبره الأخير: «صراحة الإخوة الآن في عهد أبي عبد الرحمن أمين لا يريدون أن تنزل».

جهاديون تحت ضباب لندن: «نشرة الأنصار»

في خطوة مُفاجئة طلبت القيادة الجديدة للجماعة المسلحة من أبي مصعب البقاء في لندن، ومساعدة الإخوة فيها من خلال ممارسة دور توجيهي وإعلامي، حيث عمل السوري كاتبًا ومحررًا في نشرة الأنصار الناطقة باسم الجماعة الإسلامية المسلحة في الخارج، وأيضًا عمل في غيرها من نشرات الجماعات الجهادية الأخرى التي كانت تصدر من لندن خلال هذه الفترة، مثل نشرة الفجر التي أصدرتها الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة (LIFG)، ونشرة المجاهدين التي أصدرتها حركة الجهاد الإسلامي المصرية، وكانت هذه النشرات الثلاث لسان التيار الجهادي في العالم في ذلك الوقت، ويعقب السوري: «بالنسبة إليَّ اخترت الكتابة مع الأنصار، ونصيحتهم ما أمكن، وإرسال النصائح للداخل عن طريقهم».

ابتدأ أبو مصعب الكتابة في مجلة الأنصار الأسبوعية منذ العدد 88، وتوقف مبدئيًّا عند العدد 120، ولم يشارك في الكتابة بانتظام في كل عدد، وقد كتب تحت اسمين في نشرة الأنصار، الأول: «عمر عبد الحكيم»، والثاني: «أبو المجاهد السعيد»، وكان اختياره الكتابة تحت الاسم الثاني بسبب أن ظهرت له بوادر انحرافات لدى الجماعة في الجزائر، ولم يُرد أن يكتب أي شيء على مسئوليته، وفي نفس الوقت لا يتخلى عنهم حتى يتبين، فكتب 6 مقالات بين العدد 120 والعدد 137 باسم مستعار، وكانت هذه المقالات عبارة عن مقتطفات من ظلال القرآن ومواضيع عامة.

ثم بعد أن تبين السوري فساد منهج الجماعة المسلحة في الجزائر دخل في سجالات ونقاشات قاسية مع الكثيرين من أجل وقف دعمهم وتأييدهم للجماعة، وتسببت مداهمة أجهزة الأمن ببريطانيا لمكتب نشرة الأنصار، واعتقال المسئول الأول فيها أبي فارس، بسبب الاشتباه في تورطه في هجوم باريس؛ بنمو تيار الشيخ عمر محمود عثمان، المعروف بأبي قتادة، والذي أصبح رئيس التحرير والمشرف على المجلة، والمسئول الأول في المجموعة، مما زاد من تعقيد الموضوع، ويعقب السوري: «حاولت مع إدارة مجلة الأنصار أن أنصحهم حول هذا الخط الفكري الجديد الذي بدأ يدخل في الأنصار وأنا لستُ موافقًا عليه».

ندم السوري على استمراره في نشرة الأنصار أكثر من اللازم، ولو على سبيل الإصلاح، ثم توقف نهائيًّا عن الكتابة في العدد 137، بسبب ما اعتبره اختراقًا مخابراتيًّا وتوجهًا إجراميًّا منحرفًا للقيادة الجديدة للجماعة الإسلامية المسلحة، وأصدر بيانًا في شهر 1 من عام 1996، أعلن فيه براءته من هذه الجماعة، كما حاول التواصل مع بعض الشخصيات والجماعات الجهادية من أجل توحيد الموقف تجاه الجماعة المسلحة، ويقول:

كنت من أوائل من وقف ذلك الموقف، وندب الناس للبراءة من قيادة الجماعة الإسلامية المسلحة … وعندما قَتَلَت محمد السعيد – رحمة الله عليه – بلغ عندي ذلك نهاية الصدمة في أن هناك كارثة في الجزائر وانحرافًا فكريًّا، وأعلنت فورًا البراءة من هذا العمل، أما أبو قتادة والأخوة الذين أشرفوا على مجلة الأنصار تبنوا وسوغوا قضية مقتل محمد السعيد، واعتبروها صحيحة وأنها ضمن المنهج – الذي قبلوه – ثم تتابعت الانحرافات في مجلة الأنصار حتى بلغت حَدَّ الموبقات … وأصبحت أُتَّهَمُ بالبدعة مرةً، وبالردة نتيجة الدفاع ضد قتل محمد السعيد … وبالنسبة إليهم كان أسهل شيء لديهم أن يرموني بالجبن والتخاذل وفساد العقيدة وتنكب طريق السلفية.

بعد أن أعلن السوري براءته من الجماعة المسلحة، شعر بضيق شديد بسبب معاملة أبي قتادة وإدارة نشرة الأنصار له كغريب، فكانوا حتى لا يُسَلِّمون عليه، ويحكي أنه اضطر بنفسه إلى شراء نشرة الأنصار عند مدخل مصلى أبي قتادة، ودفع ثمنها لرجل كان يتبارك إذا سلم عليه(٣)، ويعقب:

وقد اشتريت النشرة مثلي مثل غيري … حيث إنهم قاطعوني ولم يعودوا يرسلونها لي إلى البيت بكل إجلال واحترام كما كان من قبل، وسبحان مقلب القلوب والأحوال … فهذا دائمًا نهج هذه الشراذم من أهل الهوى، عندما توافقها على الحق الذي عندها تمجدك، ثم لما تنكر عليها العوج الذي عندها تهوي بك إلى أسفل سافلين.
ص35

تابع أبو قتادة إدارة نشرة الأنصار كتابة وإخراجًا من العدد 120، وكان يكتب في كل عدد في أكثر من مجال، ولكن مقالاته الأساسية الدائمة كانت بعنوان «بين منهجين»، إلى أن انسحب من نشرة الأنصار في العدد 152، وأعلن براءته في يونيو 1996، ثم تعاقب على إدارة نشرة الأنصار أبو الوليد الفلسطيني [أحد أقرب مساعدي أبي قتادة] لكنه سرعان ما انسحب منها أيضًا، وتوقفت نشرة الأنصار لمدة ثمانية أشهر، إلى أن تسلم إدارتها في شباط فبراير 1997، مصطفى كامل مصطفى الملقب بأبي حمزة المصري(٤)، فتابع تأييده للجماعة المسلحة، وتبنى مجازر قتل النساء، حيث رأى أن هناك مبررات شرعية تبيح ذلك، ولما أصدر «الزوابري» كتابه «السيف البتار فيمن طعن بالمجاهدين الأخيار»(٥) أصدر أبو حمزة كتابًا يؤكد فكرهم، وسماه: «تلميع الأنصار للسيف البتار» – طبع ونشر في لندن – ثم حين أصدرت الجماعة بيانًا تكفر فيه الشعب الجزائري برمته(٦)، يبدو أنه وجد أن القضية لم تعد تحتمل، فتركهم وتبرأ منهم، ثم نعتهم بعد ذلك بالخوارج والتكفيريين، وانتهت نشرة الأنصار في أواخر سبتمبر/أيلول عام 1997 بعد أن أصدرت أكثر من 170 عددًا.

والجدير بالملاحظة أن نشرة الأنصار أحرزت تقدمًا كبيرًا في المجال الإعلامي الجهادي، إذا ما قارناه بالنشرات الجهادية الأخرى، كما كانت لها مكانة كبيرة في أوساط المجتمع الجهادي، وحتى «مجلة الجماعة» الناطقة الرسمية باسم الجيا كانت تنقل من الأنصار، إضافة إلى أن نشرة الأنصار كانت أيضًا محل اهتمام من وسائل الإعلام الغربية التي كانت تنقل منها كثيرًا من أحداث الجزائر.

بين مدرستين: الصراع مع أبي قتادة

أثناء عمل السوري مع المجموعة الإعلامية الداعمة للجهاد الجزائري في لندن، كان الفلسطيني الأردني عمر محمود عثمان الملقب بأبي قتادة الفلسطيني يعمل معهم من بدايات نشرة الأنصار، احتك السوري به كثيرًا، لدرجة أنه عاش معه في منزله قرابة شهر، ويعقب: «وجدته مضيافًا كريمًا اجتماعيًّا، كما رأيته حسن التربية والتعاهد لأهله وأولاده». 

كانت العلاقة بين الثنائي في بَادِئ الأمر جيدة، مع ملاحظة أنهما متقاربان جدًّا في العمر، وكان أبو قتادة يثني على السوري، كما أثنى بشكل خاص على كتابه الثورة الجهادية في سوريا، ودافع عنه وقت الهجمة عليه، مثلًا يقول أبو قتادة: «لماذا احمرت أنوفكم – غضبًا ظالمًا – ضد كتاب «التجربة السورية» لمؤلفه عمر عبد الحكيم». ويظهر بشكل واضح إعجاب أبي قتادة بالسوري، مثل قوله: «لو كان أبو مصعب من كوادر حزب علماني لعرفوا قدره ونصبوا له تمثالًا وقبلوا يده». وأيضًا في تقديم أبي قتادة للدراسة التي كتبها أبو مصعب في لندن عام 1995، والتي حملت عنوان: «المؤامرة الكبرى على الجهاد في الجزائر»، وفيها يصف أبو قتادة السوريَّ فيقول عنه:

الأخ عمر عبد الحكيم يبصر الشباب طريق الخلاص والنجاح … ولقد خبر التجربة وأدرك أبعادها كما هي من غير أن تغره نفسه أو تفسده شُبَه المتحالفين المخزية، هذه المعاينة عن قرب جعلته من أكثر الناس دعوة وتبليغًا في تنقية التصورات الإسلامية من أن تقترب أو تلامس أدعياء العمل الإسلامي … وعمر عبد الحكيم عندما يتكلم عن الجهاد فإنه لا يتكلم بعقله الثاقب فقط، بل هو يعبر عن مشاعره من مشكاة عقله … نشكر الله تعالى وحده الذي أقام لنا الجهاد ليشف لنا ضلال أهل البدع بأقلام أهل الحق، فنرجو الله جل في علاه أن يجعل أخانا عمر من هذه الأقلام.
أبو قتادة في مقدمة كتاب السوري، صـ 6

لم تستمر العلاقة الطيبة بين الرجلين، وبدأت الخصومات والخلافات بينهما تزداد تدريجيًّا حول القضية الجزائرية، والتي أدت إلى توتر علاقتهما. كان للفتاوى التي تصدر من وراء البحار صدًى وتسويغًا للأفعال التي ارتكبتها الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، وكان رأس هذه الفتاوى أبا قتادة الفلسطيني؛ رجل ظهر كعالم دين سلفي، ومرجع وزعيم روحي للمتعاطفين مع الجهاد، رغم أنه لم يكن له ماضٍ في الجهاد، يقول السوري:

لما كانت بضاعة الجهاد هي الرائجة في أوساط الصحوة آنذاك ولا سيما قضية الجزائر، اتخذ أبو قتادة منها مسألته المحورية … وببساطة وسهولة صار أبو قتادة الفلسطيني المرجع الديني لأولئك الشباب الجزائريين وغيرهم من الأفغان العرب ومن التحق بمدرستهم في لندن، ثم في غيرها من العواصم الأوروبية.
ص21

وفي حقيقة الأمر كان من الطبيعي جدًّا أن يظهر الصدام والهوة الأيديولوجية بين الرجلين، وإن كانا يعملان معًا في نفس القضية، فأبو قتادة توجهه سلفي أصولي صارم، ونشأ في جماعة التبليغ قبل أن يتحول منها إلى السلفية العلمية، ثم تحول منها إلى السلفية الجهادية، بينما السوري جهادي براغماتي، يميل إلى النهج العلمي والعقلاني، وذو توجه عسكري في المقام الأول، حيث إنه يراعي الخبرة التنظيمية والتدريب والاستراتيجية أولًا، ويحقق توازنًا بين الأيديولوجيا والعسكرية، بينما أبو قتادة يراعي الالتزام الكامل بالنقاء الأيديولوجي السلفي الذي كان يدعو له، والتطبيق الحرفي الصارم للأصول العقائدية السلفية، إضافة إلى أن مزاجه يميل كثيرًا إلى المنازعات، وله ولع بالخلافات، كما تتسع دائرة المحكوم عليهم بالمبتدعة عند أبي قتادة، أو ما يسميهم بأهل الضلال والأهواء، فحتى السلفية عند أبي قتادة حوت مذاهب بدعية منحرفة، يصف السوريُّ أبا قتادة، فيقول عنه

كان أبو قتادة يتمتع بحافظة قوية وملكة استنباط عالية، وكان على قدر كبير من العلم الشرعي والثقافة الواسعة(٧)، كما كان كثير القراءة والمطالعة، ولديه مكتبة ضخمة متنوعة، وكان طموحًا عالي الهمة، لكنه كان متعصبًا للسلفية ومذهب أهل الحديث وأفكار الدعوة الوهابية، معاديًا للأشاعرة والمدارس العقدية الأخرى ضمن الدائرة الواسعة لأهل السنة، محاربًا للمذهبية، شديدًا جدًّا على المخالفين، قويًّا في المناظرة، عدوانيًّا شرسًا في النقاش والمحاورة، سليط العبارة، جريئًا في الفتوى والأحكام، مفرط الثقة بنفسه، ضيق الصدر بالخلاف.
ص28 – 29

وبسبب أن أبا قتادة شخصية جذابة ويمتلك الصفات الخطابية الحشدية التقليدية المطلوبة بين أنصار الجهاد، وخصوصًا احتكاره لراية السلفية، إضافة إلى أن لديه مهارات وتكتيكات في تشويه الخصوم، وبالتالي كان في أغلب الأحيان قادرًا على أن يغطي بظله السوريَّ، وبالأخص كسب أبي قتادة لرفاق السوري الذين كانوا معه في أيام الجهاد إلى صفه، ويبدو أن هذه النقطة آلمت السوري، لذلك يقول:

كانت إدارة الأنصار ومعظم مؤيديهم في لندن أقرب إلى أبي قتادة مني، رغم تاريخنا الأفغاني المشترك، بسبب أنهم من السلفيين الذين يميلون للشدة مثله(٨)، وبسبب تعلق الشباب بالشيوخ وما يسدلونه عليهم من الهيلمان والقداسة.
ص29

علاوة على ذلك كان أبو قتادة يفتح منزله للجميع، ويناقش كل قضية مع الجميع بطريقة دافئة وعفوية، وبالتالي كان السوري على العكس من ذلك تمامًا، فلم يكن رجل دين سلفي قادرًا على محاججة أبي قتادة على نفس أسسه السلفية، كما كانت لديه يقظة أمنية مستمرة، لذلك يشتكي السوري من أن عمل أبي قتادة تميز بالفوضى، وانعدام الحس الأمني تمامًا، وأن مسجده تجمع فيه المتعصبون، وأيضًا صار ملجأ لتجسسات الأمن، وبالتالي لم يقدر أبو قتادة حدود الهامش الذي أتيح له في لندن.

لقد كان السوري ينصح أبا قتادة باتخاذ الاحتياطات الأمنية، وعندما داهمت الشرطة البريطانية مقر نشرة الأنصار عام 1995 دعا السوريُّ أبا قتادة وأتباعه إلى اعتبار ذلك دعوة للاستيقاظ، واقترح عليهم العمل على إصدار مجلة جديدة، وتغيير مكان إصدارها إلى إحدى الدول الإسكندنافية، وبدلًا من ذلك، استهزأ أبو قتادة به، وأطلق عليه لقب: «جيمس بوند»، بينما كان السوري يوحي له بأنه لم يقدم أوراق اعتماده في ميدان المعركة، ولطالما ذكره بأنه لم يذهب للجهاد إلا بعد انتهائه، وأنه يفتقد إلى الخبرة الأمنية والتنظيمية.

هذه النقطة توضح أيضًا أن الرجلين لم يعودا يشعران بالراحة معًا، يشير السوري إلى أن جماعة أبي قتادة بدلًا من أن تكون مصدرًا للحق والوعي، تحولت إلى مصدر للإعاقة والشلل، وبالتالي تورطت في صراعات وانقسامات بعيدة عن القضية الأساسية التي كان من المفترض أن تدافع عنها، حيث حوَّل أبو قتادة نشرة الأنصار إلى منبر لمعاركه السلفية، يقول السوري:

لم يسلم أحد من تلك الاشتباكات العقدية والسياسية الشرعية التي قام بها أبو قتادة، ولا حتى صلاح الدين الأيوبي الذي أخذ نصيبه من أبي قتادة من النقد والهجوم كأحد الذين أرسوا المذهب الأشعري! والذي فتح أبو قتادة معه معركة لا تقل أهمية عن معركتنا في الجزائر وغيرها! ولك أن تقيس على ذلك من المعارك الطاحنة التي حملتها صفحات الأنصار المخصصة للجهاد في الجزائر مع المعتزلة، وأبو علي الجبائي، والجويني، ومع المرجئة من المعاصرين والقدماء، ومع الجهمية، والحلولية، وحتى مع المذاهب التي بادت ولم نسمع بها إلا منه، كالكرامية وغيرها من الغرائب، وعبثًا حاولت وغيري من مؤيدي الجماعة ونشرة الأنصار أن نُفهمه ونفهم إدارة النشرة التي تتعامل معه تعامل المريد مع الشيخ، أن هذه المعارك لا فائدة منها الآن، وإن كان ولا بد فليس على صفحات نشرة من المفروض أن تحشد كل المسلمين على قضية دعم هذا الجهاد الجزائري.
ص30 – 31

غلاة التنظيريين

يعتبر أبو قتادة بحسب ما أعتقد أحد أبرز المنظرين لمدرسة غلاة السلفية الجهادية.
أبو مصعب السوري

ابتدأ أبو قتادة سياسة التبرير الشرعي لكل ما يصدر عن الجماعة المسلحة في الجزائر، ثم انتقل لمرحلة الفتوى والتأصيل الشرعي لأفعال هذه الجماعة، كما ارتفعت لهجة القتل والتكفير في خطابه، وتوسعت عنده دائرة المبتدعة، ويذهب السوري إلى أن أبا قتادة كان يُنفذ أجندة المخابرات من دون أن يشعر، وأنه قد تم استدراجه لأصدار فتاوى بشأن ما يطلبه منه المتطرفون في الجزائر وأتباعهم في لندن وأماكن أخرى في أوروبا.

ويشير السوري إلى أن خلافه مع أبي قتادة خلاف منهجي بالأساس(٩)، يختلف فيه حول الكيفية التي يفسر بها أبو قتادة النصوص، وعلى الرغم من ذلك فقد دخل السوري معه في نقاشات حادة بسبب العديد من القضايا، منها فتوى استحلال قتل النساء والأطفال من أسر الضباط، ردًّا على أن المخابرات والجيش تغتصب وتعتقل نساء المجاهدين – طبعت هذه الفتوى في أوراق منفردة – واعتبر السوري أن أبا قتادة تفرد بهذا الاستدلال.

كما أصدر أبو قتادة مجموعة فتاوى عن قتال المبتدعة، مستخدمًا في ذلك مفرداته السلفية لقتل الخصوم، وأصبح قتال المبتدعة عنده مقدمًا على قتال الفرنسيين والجيش، على حد تعبير السوري، لكن اللافت تسويغ أبي قتادة لرجل قتل أمه وأباه لأنهما همَّا أن يزوِّجا أخته رجلًا يعمل في المليشيا التابعة للحكومة(١٠)، حيث علق أبو قتادة على هذا الفعل بالثناء والإطراء، ووصفه بأنه من هدي الكتاب والسنة، وفعل الصحابة وإحياء لسيرة السلف! ثم ثناء أبي قتادة على كتاب أبي عبد الرحمن أمين «هداية رب العالمين إلى سبيل المهتدين» – منهج الجماعة الإسلامية المسلحة – والذي اعتبر السوري أن عنوانه كان ينبغي أن يكون «دليل الشياطين إلى ذبح المسلمين» لما حمل الكتاب حقيقة من فنون التطرف والتكفير، وقواعد لقتل الأبرياء! 

لقد حاول السوري ثني أبي قتادة عن تبني مواقف متشددة في القضايا العقائدية والفقهية، لأنها كما يرى ستأتي بنتائج كارثية على الجهاد الجزائري، فضلًا عن أنها ستحصر المسلمين في معارك جانبية، بعيدة عن المعركة الأساسية، ولم تسفر نقاشات السوري مع أبي قتادة وجماعته عن أي شيء، وكانوا دائمًا يتهمونه بأنه لم ينظف بعد من فيروس الإخوان المسلمين، وأنه لا يفهم بالأمور الشرعية، ويقولون له في النقاشات بحسب ما يروي السوري:

كانوا يقولون لي: هذا فكر السلف، وعقيدة السلف، ومنهج السلف، وروح السلف، وحبر السلف، وورق السلف، وأقلام السلف، حتى جعلوا الناس تهرب من هذا المسمى … وأبو قتادة عنده جموح عجيب لأن يكون الشيخ الأوحد الصامد الذي يقود هذه المسيرة، فاستزله هذا الوضع النفسي.

أيضًا أصدر أبو قتادة تسويغًا لقتل الجماعة الإسلامية المسلحة  لمحمد السعيد، وعلى أثر ذلك حدثت نقاشات قاسية، ويبدو أن هذا الأمر أثر كثيرًا على السوري، حيث يحكي بنبرة حزينة أنه ذهب لأبي قتادة في أحد المجالس يتناقش معه بخصوص قتل محمد السعيد، يقول السوري:

أبو قتادة في المجالس كان يقول أسوأ من مجلة الأنصار، والله العظيم في مجلس كنا أكثر من 10 من وجوه الإخوة، جلست أتناقش معه حول مقتل محمد السعيد، فقال لي وهو يشير بيده هكذا بعملية الذبح، يقول: جزاهم الله خيرًا، ذبحوه زنديقًا. يقصد محمد السعيد.

يعتبر السوري أن أبا قتادة وتلاميذه كان دورهم في تبرير أعمال القتل التي قامت بها الجيا، فبعد أن كانت هذه الجماعة ترتكب الموبقات، وتسفك الدماء وتنتهك الأعراض، كان أبو قتادة يُوجد شرعية ومسوغًا لفعلهم بعد ارتكابه، صحيح أن أبا قتادة لم يأمرهم في البداية بالفعل(١١)، ولكنه سوغه وجعل له أنصارًا في الخارج، والأهم أنه جعل لهذا الفكر قواعد فقهية، يقول السوري:

لا أعتقد أبدًا أن هؤلاء الجهلة – يقصد أبا قتادة ومجموعته – الذين سوغوا هذه الأعمال مخابرات كما يتهمهم البعض، ولا أعتقد أبدًا أنهم أمروا بهذه المجازر، كل ما هنالك أنهم سوغوها حتى يتلمعوا ويظهروا فيها، ومن باب أن الجاهل ليصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر(١٢).

كان من نتائج أحداث الجزائر على أبي مصعب أن قام بإنشاء «مكتب دراسات صراعات العالم الإسلامي» ليعيد التفكير في وضع التيار الجهادي، وأطلق موقع على شبكة الإنترنت لوسائل الإعلام بهدف الارتقاء به إلى مستوى الإعلام المعاصر، وإقامة جسر بين القضايا الجهادية وقضايا الصحوة الإسلامية وبين الرأي العام العالمي والإسلامي، ولم يقم السوري في هذه الفترة إلا بنشاط فكري وصحفي كان معروفًا لأجهزة الأمن، ورغم أن البعض طلب منه استشارة فنية في اختصاصه الرئيسي (خبير متفجرات) لدعم تفجيرات باريس(١٣)، إلا أنه اعتذر عن ذلك حفاظًا على عمله الإعلامي والدعوي الذي كان يقوم به، ويعقب السوري:

كنت أدرك أن عملي الدعوي والأدبي في لندن أهم من مشاركتي في تطوير فاعلية القنابل التي ضربت باريس، مع أني كنت غير راضٍ عن أدائهم البدائي الذي خلف خسائر طفيفة للعدو، وكان بإمكاني رفع مستواهم ولم أفعل(١٤).

الخلطة المضمونة: تكفير ومخابرات

أؤكد على أمر بالغ الأهمية، وهو أني تنبهت للانحراف في وقت مبكر بحكم الخبرة التنظيمية والتجارب الأمنية، وذلك فضل الله … وحَدَستُ مبكرًا بإمكانية دخول الاستخبارات الجزائرية على خط قيادة الجماعة.
أبو مصعب السوري

يعتبر السوري أن الجهاد في الجزائر توفرت له ظروف للنجاح لم تكن لتتوفر لأي حركة جهادية في العصر الحديث، وخاصةً أنه جاء بعد فشل محاولة ديمقراطية، وبالتالي كل جماهير الحل الإسلامي الديمقراطي والتي كانت بالملايين تحولت إلى داعم للحل العسكري، فكانت نقطة النجاح الأساسية هي التفاف الناس حول الجهاد، والثقة فيمن يرفع الشعار الإسلامي، إضافة إلى أن الجزائر بيئة مناسبة لممارسة حرب عصابات طويلة الأمد.

ومن الأشياء المهمة التي ذكرها السوري أن الجماعة المسلحة لم تكن لها في بدايتها هوية منهجية واضحة، غير أن تَصوُّرها للحكومة هو أنها حاربت الإسلام والمسلمين(١٥)، ويذهب السوري إلى أن أجهزة المخابرات الفرنسية والجزائرية عملت بشكل رئيسي على أن يخيب ظن الناس بالحل العسكري، وبالتالي عمدت إلى إفقاد الجهاد التعاطف بين قطاعات الجزائريين، وذلك من خلال تحويل الجهاد تدريجًا ضد عامة الشعب بدلًا من أن يكون ضد الجيش، ليتوقف دعم الشعب للمسار العسكري ويلجأ في النهاية إلى الجيش.

ويرى السوري أن هناك فجوات في المنهج الجهادي يمكن لأجهزة الاستخبارات من خلالها توظيفه وتحريفه عن مساره، وتصعيد المواجهة مع الشرائح المدنية والاجتماعية، من خلال جر بعض المجموعات التكفيرية إلى هذه المصادمات وجعلهم في مواجهة مع المدنيين، وإبراز فتاوى الشطط والغلو على أنها فتاوى التيار ككل وليس شخصًا بعينه، يقول السوري:

أحد وجوه من تصدى للفتوى أخرج ما يقارب 30 أو 40 فتوى كلها في جعبة التكفير لا محالة؛ في استباحة السبي في المسلمين على أساس أن أزواجهم من أنصار الطواغيت أو موظفين عند الدولة، وفي قتل النساء والأطفال، وفي بلاوي كثيرة، وكلها نُسبت للتيار الجهادي ولم تُنسب للشخص.

ثم يروي السوري أن «أبا عبد الرحمن أمين» طبق بالحرف ما أرادته المخابرات، من خلال توجيه مقاتليه إلى الهجوم على المدنيين في القرى بدعوى أنهم انخرطوا مع الحكومة، أو شاركوا في الانتخابات، فاستباح قتلهم لذلك، وسبى نساءهم على أنهم مرتدين، بل وصل الأمر إلى قتل المصلين في المناسبات الدينية، واستهداف دور العبادة والجنائز.

وبالتالي طبقًا للسوري، استغلت أجهزة الاستخبارات هذه الأجواء التي سعت لها وأوجدتها، لإبرازها على الشاشات، وإيجاد مادة دعائية منها للإعلام العالمي والصحافة، وإظهار المجاهدين على أنهم مجموعة من المجرمين وقطاع الطرق لا دين ولا رحمة لهم، لكن السوري يلفت النظر إلى أن الغرض من ذلك أيضًا كان خلط الصالح بالطالح، وجمع الجميع في سلة واحدة في أعين الناس مكتوب عليها: جهاديون، تكفيريون، خوارج، إرهابيون، يقول السوري:

مرت القضية الجهادية في الجزائر بمنعطفات متعددة؛ أدت في النهاية إلى أن تئول قيادة الجماعة الإسلامية المسلحة بعد استشهاد قياداتها المخلصة الواعية لبعض الجهلة والشاذين فكريًّا ممن اعتنقوا أفكارًا تتراوح بين التكفير والإجرام والجهل، ممزوجة ببعض الأفكار ذات الأصول الجهادية، وذلك بترتيب استخباراتي محكم، مما أودى بها إلى البوار والفشل والتحلل مع أوائل 1996م.

وفي لفتة مهمة، يشير السوري إلى أن الاختراق المخابراتي كان يستهدف في المقام الأول السيطرة على المرجعية، حيث يذهب إلى أن أجهزة الأمن من خلال استجوابها للمعتقلين الجهاديين، كانت تدرس الفكر الجهادي، وبالتالي أدركت جيدًا أبعاد فكر التكفير الذي ترى فيه الخيار الأساسي لضرب الجهاد، ولذلك بحسب ما يرى السوري سعت المخابرات إلى رعاية هذا الفكر وإفساح المجال له في الوقت المناسب، كما يعتقد أبو مصعب أن بصمات المخابرات المصرية كانت حاضرة في المشهد الجزائري، ويعقب:

كان اصطدامنا في الجزائر اصطدامًا بين الحركة الجهادية والنظام الدولي الذي درس تجاربنا في مصر وفي سوريا وفي تونس وفي غيرها، وطَبَّقَ خلاصة أعماله في الجزائر.

ويرى السوري أن السبب في فشل الجهاد الجزائري، ليس فقط تدخل الجهات الخارجية، بل أيضًا في اختطاف المتعصبين السلفيين لحركة الجهاد الشعبية، حيث عمل هؤلاء على استغلال تَشَنُّج كثير من الشباب الذين بدءُوا أولًا تحت اسم «السلفية» ثم أصبحوا سلفيين متشددين، ثم أصبحوا «تكفيريين»، وشيئًا فشيئًا جرف هذا التيار ليكون جهاده ضد الشعب الجزائري بَدَل أن يكون جهاده ضد الجيش، وبحسب أبي مصعب فإن المخابرات سهلت عمل السلفيين المتشددين للاستفادة منه، يقول السوري:

نحن مرت علينا ألاعيب المخابرات في الجهاد في سوريا وكنا نعرفها، ولكن أناسًا مثل هؤلاء كانوا في التبليغ وفي السلفية وعند الألباني ولا جاهدوا ولا دخلوا تنظيمات ولا عرفوا مؤامرات، فلا يفهمون مثل هذه الألاعيب.
لاحظ أن الجماعة تلاعبت بصيغة البيعة المتعارف عليها تاريخًا، وأدخلت عليها جملة: «أعاهد الله على الالتزام بالمنهج السلفي ظاهرًا وباطنًا، وأن لا أقوي شوكة المبتدعة»! وصارت كل تعليمات وبيانات الجماعة تصدر بعبارة: «توحيدية، سنية، سلفية».

ويشدد أبو مصعب على أن فكر التكفير هو أكثر ما أضر بالتيار الجهادي، ويذهب إلى أن الكثير من أدبيات الجهاديين خرجت عن أصل الموضوع، وشذت إلى أمور فرعية نتيجة الانحراف في الفهم والفكر الذي حول ميدان الصراع ناحية الشعوب المغلوبة على أمرها، لذلك يعتبر السوري أن التيار الجهادي يعاني من نقص في التفكير الاستراتيجي وفقه الواقع، وأصبح هذا الأمر واضحًا في المواجهة التي حدثت في الجزائر، يقول السوري:

بفضل الله سبحانه وتعالى، معظم التحليلات والدراسات السياسية التي كتبتها حول الفكر الجهادي كان فيها نوع من التنبؤ واستقراء المستقبل … وللأسف جرت الأحداث حرفًا حرفًا كما توقعت، ولم يكن هذا إلهامًا، وإنما قياس على ما جرى من تجربة سابقة في بلاد الشام، لأن أطرافها شبيهة.

هوامش:

(١) كتب العديد من الشخصيات الجهادية البارزة حول التجربة الجزائرية، أهمهم: «عطية الله الليبي» الذي عايش التجربة من الداخل وذهب بنفسه لتقييم الوضع، وقد أسرته الجماعة المسلحة، لكنه استطاع الهرب بِأُعجوبة، وأيضًا «عاصم أبو حيان» وهو كذلك عايش كل أجزاء التجربة بنفسه، ومن خلال ما كتبه أبو مصعب والجهاديون الآخرون، يظهر التعارض بينهما، حيث يرى هؤلاء أن المشكلة كانت بسبب الغلو فقط، في حين يرى السوري أن المشكلة لم تكن بُعدًا واحدًا، وقد رد عطية الله على أبو مصعب، فكان مما قاله: «ومما لاحظته على أبي مصعب أنه خلطَ بين المراحل، ولم يحرر جيدًا تطورها واختلافها وتدرجها وانبناء بعضها على بعض، وأيضًا هو ركز على مشاكل الخارج – أي الخلافات والنقاشات التي كانت تقوم في لندن – فهو ممن تابع التجربة من خارجها لا من داخلها». أجوبة الحسبة، صـ 191.

(٢) القاري سعيد: شيخ جزائري، تخرج من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وهو من قدامى المجاهدين العرب الذين جاءوا لأفغانستان، أيضًا هو عمليًّا يعد المؤسس الأول للجماعة الإسلامية المسلحة، وقد بذل جهدًا في توحيد الفصائل المقاتلة تحت قيادة واحدة، قُتل في قسنطينة (شرق الجزائر) في نوفمبر/تشرين الثاني 1994.

(٣) أشار السوري في بعض محاضراته إلى أنه طُرد كثيرًا من بعض مساجد لندن، ومنع من الصلاة فيها أو استعارة أي كتاب من مكتبة المسجد؛ بسبب مناصرته للجهاد في الجزائر، وقد ذكر تحديدًا المساجد التي طُرد منها، مثل مسجد الشيخ سرور، ومساجد الإخوان، ومساجد السلفيين.

(٤) ابن ضابط في الجيش المصري، وقد شارك في الجهاد ضد السوفييت، وفقد يده اليسرى وإحدى عينيه بانفجار في باكستان في 1993، والمثير أنه كان يدعو لقتل الغربيين وهو موجود في لندن! اعتقلته أجهزة الأمن البريطانية في العام 2006، واتهمته الولايات المتحدة بإنشاء معسكر تدريب على الأراضي الأمريكية، وبعد العديد من الاستئنافات أمام المحكمة الأوروبية، تم تسليمه إلى الحكومة الأمريكية، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة.

(٥) يقسم الكتاب الدين إلى سنة وبدعة فقط، ويشدد على أن أهل البدع شر بكثير من أهل الكفر، وأن قتال أهل البدع أولى من قتال الكافر أو المرتد، وطبقًا للكتاب فكل من ليس على المنهج السلفي يدخل في قائمة المبتدعة، كما يبرر الكتاب تصفية الخصوم الذين قتلتهم الجماعة.

(٦) أورد الزوابري في بيانه «صد اللئام عن حوزة الإسلام»: إن كفر هذا الشعب المنافق الذي أعرض عن نصرة المجاهدين وموالاتهم، وردته لن تثني عزمنا ولن تضرنا شيئًا بإذن الله … وإن ما نقوم به من قتل وتقتيل وذبح وتشريد وحرق وسبي، هي قربات عند الله! 

(٧) درس أبو قتادة الشريعة الإسلامية، وحصل على درجة الماجستير في الفقه، وقد حقق العديد من الكتب، من أهمها: معارج القبول للحافظ الحكمي، وكتاب طريق الهجرتين لابن القيم، كما قام بشرح الكثير من الكتب، منها مثلًا: كتاب الدراري المضية للشوكاني، وشرح في مصطلح الحديث كتاب الموقظة والباعث الحثيث عدة مرات، وشرح أيضًا تحرير القواعد لابن رجب، وجماع العلم للشافعي، والموافقات للشاطبي، وكانت له قناة على اليوتيوب قبل أن تغلق، وقد خصصها لشرح ألف كتاب قبل الممات، لكنه متوقف الآن عند الكتاب 120، ويناقش أبو قتادة كتب فكرية لمدارس واتجاهات غير إسلامية.

(٨) كثيرون لا يعلمون أن أول من استخدم مصطلح: «إدارة التوحش» هو أبو قتادة، وقد أصَّل له من الناحية الفقهية، ولذلك أكثر مصادر واقتباسات أبي بكر ناجي في كتابه «إدارة التوحش» هي من مقالات بين منهجين.

(٩) يبدو أن الانقسام الذي حدث بين أبي مصعب وأبي قتادة ما زال موجودًا اليوم في الحركة الجهادية. وقد فند السوري بعض فتاوى أبي قتادة حين كان في أفغانستان، ورد عليها من الناحية الشرعية والواقعية، وأبو مصعب في بعض دوراته لا يذكر أبا قتادة بالاسم، ولكن يشير إليه باسم: «فقيه لندن الهمام».

(١٠) يشك السوري في أن هذه الواقعة حدثت.

(١١) يذكر أبو قتادة أنه أُرسلت إليه رسائل كثيرة من أجل أن يرد على ما اتهمه به أبو مصعب، ولكنه ذكر بأنه لن يرد بسبب أنه استثقل أن يتكلم عن السوري وهو مسجون، فيقول أبو قتادة: «أنا لن أتكلم في حق الأستاذ أبي مصعب السوري أي كلمة، ولو أني أجبتُ لقلتُ كلامًا كان يجب عليَّ أن أقوله، يعني عندما يأتي بأخبار وبقضايا؛ فماذا سأقول فيها وأنا أعلم أنها على الضد من الصدق؟ وهذا يستدعي أن يكون هناك شهود … موقفي أني لن أقول في حق أبي مصعب ما قاله فيَّ، سواء قاله بالباطل أم بالحق … وأما أن الانحراف في داخل الجزائر حُمِّلته، فماذا أقول يعني؟ هذه قضية تاريخية ولو فتحتها الآن لكانت هناك الفوائد العظمى لأعدائنا أكثر من الفوائد لنا، ولن يكون من فوائد إلا فقط وكأنني أنتقم لنفسي وأنا لا أريد هذا، أنا راضٍ أن أذهب إلى ربي على هذه الحالة، وأنا متيقن أني ذاهب إلى ربي وأنا مظلوم في هذا الأمر». حوارات ولقاءات الشيخ عمر بن محمود أبي عمر، صـ 131.

(١٢) لم يصدر عن أبي قتادة إلى الآن ما يفيد بأنه تراجع عن فتاواه «الخطيرة والعظيمة الشأن» – مثلما أطلق عليها – في تأييد الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر.

(١٣) بعد هجمات الجماعة الإسلامية المسلحة على مترو باريس ألقت الشرطة البريطانية القبض على أبي مصعب للتحقيق معه في صلاته بمرتكبي الهجوم في العاصمة الفرنسية، لكن أُطلق سراحه لعدم وجود أدلة مقنعة ضده.

(١٤) في أواخر أيام السوري في لندن كان يعيش في ضائقة مالية كبيرة، ولم يستطع السفر إلى أفغانستان بسبب تراكم الديون عليه، وكان الصحفي جمال خاشقجي قد كتب عن أبي مصعب العديد من المعلومات والاتهامات الخاطئة في جريدة الحياة، فرفع السوري عليه وعلى الجريدة قضية أمام القضاء البريطاني، وكسب القضية، وألزمت المحكمة الجريدة بدفع تعويض مالي كبير لأبي مصعب جراء تشويه السمعة، إضافة لنشر الجريدة نص اعتذار لأبي مصعب، ويعقب: «وتمكنت من سداد ديوني التي تراكمت، وتبقى معي ما أعانني الله به على الهجرة إلى أفغانستان بعد وقت وجيز ولله الحمد».

(١٥) كانت الجماعة الإسلامية في الجزائر تعتمد في مناهجها على تدريس كتابين؛ كتاب «في ظلال القرآن» لسيد قطب، وكتاب «التجربة السورية» لأبي مصعب، ولكنهم بعد ذلك اعتبروا السوري وسيد قطب مبتدعين، فلما تولى أبو عبد الرحمن أمين كان أول شيء فعله أن سَحَبَ كتاب «الظلال» وكتاب «التجربة السورية». وحين وصل الخبر بذلك إلى السوري رد: «الحمد لله، أعتبر أن هذه تزكية أن هؤلاء الناس يشتمون كتابي، دليل على أن منهجي ليس منهج هؤلاء».

(١٦) يحكي السوري أن أحدًا من فضلاء المجاهدين الذين كانوا معه أفغانستان، ذهب إلى الجزائر، وأراد السوري مع بعض رفاقه في لندن أن يطمئنوا على أحواله، فاتصلوا بأحد المسئولين في الجماعة الإسلامية المسلحة، وسألوه عنه، فقال لهم: «صاحبكم هذا مبتدع قاع» (باللهجة الجزائرية أي مبتدع جدًّا)، قالوا له: ماذا فعل؟ قال: «يُجيز الصلاة من دون عمامة» و«يُجيز الصلاة بالسروال»، يعقب السوري: طبعًا كلمة مبتدع تعني عند الجماعة المسلحة أنه يُقتَل، فإذا كانت القضية بدءًا من العمامة والسروال يبدأ القتل، فلك أن تتصور إذا دخلنا في قضايا المناهج.