منذ أربعينيات القرن الماضي بدا البحث عن الهوية من المواضيع المهمة والشائكة التي يروق للكثير من الكتاب العرب الحديث عنها وتناولها بشيءٍ من التفصيل، بل وعقد المقارنات المستمرة بين الشرق والغرب. وجدنا ذلك بدايةً عند توفيق الحكيم في روايته الشهيرة «عصفور من الشرق»، وتغيّر الأمر وتطور مع «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، تواكب ذلك مع تصاعد المد القومي عربيًا، والسعي المستمر للدفاع عن قيم وعادات المجتمع العربي في مواجهة طوفان السيطرة الغربية على مقاليد الأمور، وربما زاد من ذلك الشعور وأهميته ما حدث من حروب وصراعات بين العرب وإسرائيل من جهة، وبين العرب أنفسهم من جهة أخرى بعد ذلك.

ولا شك أن تلك الأفكار تتغيّر وتتباين بعد قيام ثورات كبرى وصفت بأنها غيّرت الكثير في سياسات الشعوب والمجتمعات العربية بوجهٍ خاص، بل وأثّرت ولا تزال تؤثر في طريقة تعامل الناس وتفكيرهم وعلاقتهم بالمفاهيم الكبرى في الحياة كالوطن والحرية والحياة الكريمة وغيرها من المفاهيم. ولا تزال المقارنة معقودة بين هنا وهناك، بين الشرق وما يرزخ فيه من تخلف وما يسوده من ظلم وقمع وديكتاتورية، والغرب وما ينعم فيه الناس به من حرية ورخاء وعدل.

ما إن يطالع القارئ عنوان رواية «الحي العربي» حتى يتداعى إلى ذاكرته ولا شك واحدة من الروايات الكلاسيكية الشهيرة التي كتبت في الخمسينيات، ومثّلت لفترة طويلة شاهدًا على عصر وأفكار ومرحلة هامة في الوطن العربي، وهي رواية سهيل إدريس «الحي اللاتيني» التي اعتبرها البعض سيرة ذاتية له من جهة، وكانت من أوائل الروايات التي عكست ذلك الصراع والحوار الدائم بين الشرق والغرب روائيًا، وهي الرواية والتجربة التي تم استلهام روحها في عدد من التجارب الروائية فيما بعد، لا سيما تلك التي تتحدث عن العرب المغتربين في بلاد أوروبا وما يحملونه من قيمٍ وعادات وما يعودون به من تغيرات جذرية في الأفكار والرؤى.

اقرأ أيضًا:رواية الوشم الأبيض .. تحت نفس الشمس فوق نفس التراب

ولكن ما الذي يحدث لو نقلنا الوطن العربي أو لنقل جزءًا منه إلى هناك؟ هل تنتقل الأوطان فعلاً؟ هل بإمكاننا بعد كل هذه الثورات والحركات والتغيرات العالمية والدولية أن نتخيّل أو نحلم بإقامةٍ وطنٍ بديل على أرضٍ مغايرة؟ هل من الممكن بالفعل أن يكون هناك وطن للعرب داخل حدود الغرب قائم وفق أعرافهم وتقاليدهم، وينعم بمجرد وجوده هناك بالكثير من المميزات الخاصة التي لم يرها الناس ولم يسمعوا عنها إلى هناك؟

من هذا السؤال الكبير، ومن هذا الافتراض الخيالي الجامح ينطلق أسامة علام في روايته الجديدة «الحي العربي» الذي يفترض فيه أن العرب استطاعوا بالفعل أن يسيطروا بشكلٍ مفاجئ على أحد أحياء كندا، وبموافقةٍ من الحكومة هناك تم بالفعل إقامة دولة صغيرة هي الحي العربي، وانتقل لها بالتبعية كل هموم ومشكلات وأزمات ومصائب الوطن العربي ولكن في بيئة مختلفة تمامًا تؤمن بالعدل والحرية والمساواة، ويسعى فيها المواطنون العرب لأول مرة في حياتهم لكي يحصلوا على حقوقهم البسيطة.

الحياة أقسى من وحشٍ أليفٍ يا وديع، الحياة ذئبٌ مخادع. ثعلبٌ ماكرٌ قذر. صفها كما تشاء بصفات القسوة. لكني لم أفهمها قط. صدقني ليس هناك أصعب من أن تكون طفلاً بلا وطن. ولدت في مونتريال ولم أعرف لطفولتي مدينة أخرى، لكني دومًا كنت المختلفة ذات الاسم الغريب بين أقراني، أحب وطنًا بعيدًا أدعي أنه وطني، لا أعرف تحديدًا مكانه على خريطة العالم. ملأت أمي رأسي بحكايات وطنها البعيد. كنت أحفظ شوارع وألعاب طفولتها كأنها أماكني وألعابي الخاصة. أعيش في بيتنا وكأنه يقع في حارة صغيرة من الوطن العربي، لكن في كل صباحٍ أكتشف وطنًا آخر وهويةً أخرى.

رغم أن التجربة والخيال المحلّق يمكنهما أن يتحولا بالرواية إلى حلمٍ جميل، قد لايمكن رسمه ولا تحقيقه إلا من خلال الخيال، إلا أن شخصيات أسامة علام التي حرص منذ اللحظة الأولى أن يسمها بسماتها الواقعية جعلت من هذا الحلم والخيال الروائي أمرًا واقعيًا يعرفه كل عربيٍ في بلاده، إذ يبدو أن سعي الناس إلى الحرية وتحقيق الأحلام والتغيير لا يزال محكومًا بالاستحالة وبعيد المنال، ومع ذلك كله استطاع أسامة علام أن يعكس بشفافية وصدق أحوال ومشكلات الكثير من المهاجرين العرب، وأن يضع القارئ في ذلك الحلم صعب التحقق وأن يجعله متشبثًا معه بإمكانية إنجاح ذلك النموذج حتى لو كان محض ورقاتٍ في رواية.

أجاد أسامة علام في رسم شخصياته وتقسيم فصول السرد عليهم، ليعرض نفسياتهم وأحلامهم وأطماعهم ورغباتهم في الوقت نفسه، حتى لتبدو كل شخصيةٍ من شخصيات الرواية معبّرة أو عاكسة لشريحة من المجتمع العربي. فلدينا الفنان، ولدينا المستسلم اللامبالي بما يحدث، كما لدينا الرومانسي الحالم. كل هذه الشخصيات يأتي الحديث عنها بشكلٍ مفصّل حتى يكاد القارئ يعرف كل شيءٍ عنهم، ويتوقع ردود أفعالهم، ربما يكون الاستثناء الوحيد من بينهم شخصية الابن ياسين الذي يحدث له تحول مفاجئ في نهاية الرواية ربما لم يكن له ما يبرره.

لا شك أن الفكرة التي قامت عليها الرواية تبدو أكثر رحابةً واتساعًا وثراءً ربما مما جاءت به الرواية، لا سيما في بعض التفاصيل الخاصة بتولي زعبوط رئاسة الدولة/الحي الوليد، وعلاقته الملتبسة بأبنائه الذين سعى أسامة علام إلى أن يعكس عليها بعض الصفات السائدة لدى الكثير من عرب المهجر، خاصة فيما يتعلق بمحاولات الانغماس داخل المجتمع الجديد المختلف وما يتمتع به من حرية، ويبقى أن الفكرة قابلة لإعادة التداول مرة أخرى وطرح وجهات نظر مختلفة.

في النهاية استطاع أسامة علام من خلال روايته التي بناها على فرضية متخيلة تمامًا أن يعكس عالم المهاجرين العرب اليوم بجلاء، وأن يضع في الوقت نفسه تصوراته الخاصة لما يمكن أن يكون عليه وضع العرب لو أتيحت لهم فرصة الحصول على الحرية على هذا النحو. ولا شك أن أثر الثورات العربية وما حملته لنا من أحلام وطموحات تجاوزت كل معقول كان لها عامل أساسي في فكرة هذه الرواية من جهة، بالإضافة إلى معايشته اليومية للمهاجرين في كندا وما يراه من حكاياتهم وقصصهم التي تعد معينًا لا ينضب لأي كاتب يحمل همًا ورسالة في كتابته .

أسامة علام روائي وطبيب مصري مقيم في مونتريال بكندا، وينتسب لمجموعة عربية من الكتّاب المقيمين هناك تحت اسم «أقلام عربية في مونتريال». صدرت له عدد من الروايات منها «الاختفاء العجيب للرجل المدهش»، و«تولوز»، و«الوشم الأبيض». يبدو من خلالها مشغولاً طوال الوقت بقضية الاغتراب والبحث عن الهوية. كما صدر له مجموعة قصصية بعنوان «قهوة صباحية في مقهى باريسي». رواية «الحي العربي» هي روايته الخامسة صادرة، مؤخرًا، عن دار الشروق.