منذ سبع سنوات تقريباً كنت في بدايات التعارف مع زوجي، كنا نتحدث عن الجنة، أخبرته وأنا أضحك أن فكرتي عن الجنة عندما كنت صغيرة هي مكان جميل يشبه الحديقة أجلس فيه وبجانبي كل أعداد رجل المستحيل!

حكيت له كيف كنت مغرمة تماماً بأدهم صبري، كان فتى أحلامي والحب الأول للدرجة التي كانت تجعلني كطفلة ساذجة على أعتاب المراهقة أغار من منى توفيق، حكيت له أني كنت مولعة أيضاً بنور وفريق المخابرات العلمية المصرية ولكن حبي الحقيقي كان أدهم صبري،رددت له المقدمة النارية التي كنت أقرؤها في بداية كل عدد، والتي ما زلت أحفظها: ن-1 حرف النون تعني أنه نادر، والرقم واحد تعني أنه الأول من نوعه، يجيد استخدام كل أنواع الأجهزة من المسدس وحتى قاذفة القنابل، يجيد كل الفنون القتالية من المصارعة وحتى التايكوندو، ثم انفجرت في الضحك بحنين شديد.

بعد هذه المحادثة بشهور قليلة جاء عيد ميلادي، فوجئت أن زوجي– الذي لم يكن زوجي وقتها بعد – أتى لي بهدية ثقيلة الوزن جداً في حقيبة كبيرة جداً، لم أفهم ماذا تحتوي حتى فتحتها ووجدت كل أعداد سلسلة رجل المستحيل، والأعداد الخاصة أيضاً!

وداعاً نبيل فاروق

عندما قرأت الخبر منشوراً على صفحات التواصل الاجتماعي «رحيل الكاتب المصري د. نبيل فاروق» شعرت بغصة، رغم أنني سرعان ما كبرت على المحتوى الذي يقدمه نبيل فاروق، خاصة بعد تعرفي على سلسلة ما وراء الطبيعة في بدايات المراهقة، ورغم أنني–وكل جيلي تقريباً– اختلفنا مع آرائه السياسية في السنوات الأخيرة، ورغم أنني تركت مرحلة الطفولة سريعاً منذ سنوات طويلة ومعها تركت سلاسل رجل المستحيل وملف المستقبل، فإنني–أعترف– أنني وكل جيلي أيضاً ندين للرجل أنه أول من جعلنا نمسك بكتاب ونكمله لآخره، أول من اجتذبنا بعد مرحلة ميكي جيب، أول من قدم لنا –تقريباً– محتوى عربياً مصرياً خالصاً جذاباً وقادراً على الاستيلاء على إجازات صيفنا تماماً دون أن نشعر بالملل، كان نبيل فاروق -رحمه الله- أول من أهدانا بطلاً نموذجياً يخصنا.

أذكر أنني طوال سنواتي في الجامعة لم أهتم أن أحضر أي ندوة أقيمت لأي شخص، إلا ندوة نبيل فاروق، اهتممت بحضورها وكأنني سأقابل بطل طفولتي أدهم صبري، بصراحة كنت في هذا الوقت –وما زلت وسأظل– مهووسة تماماً بدكتور أحمد خالد توفيق، فكان جزء كبير من حضوري الندوة انشغالاً بأن هذا الرجل الجالس على المنصة جاء من نفس عالم أحمد خالد توفيق، ولكنني أيضاً كنت متأثرة جداً بأن أرى جزءاً من أدهم صبري ونور الدين محمود الذين أدين لهم بأنهم كانوا مهربي الأول من العالم الشرير خارج الكتب، لذلك العالم الملهم المسلي والذي ينتصر فيه الخير دائماً داخل الكتب.

كان نبيل فاروق كاتباً متميزاً حقاً، ندين له بفضل حقيقي في اجتذابنا لهذه البقعة الساحرة من العالم، بقعة القراءة وتمضية الوقت مع كتاب مسل مليء بالهوامش والمعلومات والحديث عن نظريات علمية أو أحداث تاريخية وأشياء ما كنا لنتعرف عليها لولاه، «حقيقة علمية» أذكر هذه الجملة في كل هوامش أعداد رجل المستحيل وملف المستقبل، كانت أيام مباركة تلك التي اكتشفنا فيها أنفسنا للمرة الأولى، وقد ساعدنا نبيل فاروق في ذلك، لا نستطيع أن ننكر ذلك أبداً رغم كل شيء.

ملف المستقبل..سري جداً

علمني نبيل فاروق الكثير، بخاصة في سلسلة ملف المستقبل، تعلمت عن الزمن والأكوان الموازية والثقوب السوداء، تعلمت عن الفضاء والسفر عبر الزمن والتطور التكنولوجي المحتمل، كانت تلك المصطلحات معتادة بالنسبة لي حتى بعد أن تركت قراءة السلسلة بسنوات طويلة لدرجة أنني في أول مرة رأيت فيلم «إنترستلر» أشرت للبطل في أحد أهم مشاهد الفيلم وأخبرت زوجي أن هذا البطل لا بد أن اسمه محمود، وأن هذا البعد الذي يتحرك فيه يسمى نهر الزمن، وأنه «إذا كنت ميتاً لا محالة فلتمت في سبيل من تحب»، ثم أشرت للآلي الذي كان يساعدهم على السفينة الفضائية وهتفت بحماس أن هذا الروبوت لا بد أن اسمه سين-18، وأنه في الغالب هارب من حضارة أتلانتس، كان هذا بعد توقفي عن قراءة السلسلة بأكثر من عشرين عاماً، لهذه الدرجة كان تأثير نبيل فاروق على عقلي، قصصه الخيالية ظلت هناك، قابعة في ذاكرتي، تشهد بأنه أخبرني الكثير في زمن لم يكن هناك أي وسيلة أخرى لأقراني أن يعرفوا أي شيء عن أي شيء.

كانت سلسلة ملف المستقبل حافلة بالكثير من النظريات العلمية والأحلام التي تبدو خيالية جداً، كان خيال نبيل فاروق فيما يتعلق بالعوالم على الكواكب الأخرى والأكوان الموازية خصباً جداً، وسابقاً لعصره جداً جداً، الحركة في الزمن والأكوان المفقودة والعوالم الموازية كلها موضوعات رأيناها مجسدة في السينما العالمية بعد أن قدمتها لنا سلسلة ملف المستقبل بسنوات، الأسلحة الليزرية والمركبات الفضائية والواقع المعزز والأبعاد الافتراضية، أجزاء كثيرة من خيالات نبيل فاروق في التسعينيات أصبحت واقعاً اليوم، هذا الرجل قدمها لنا قبل عقود، كان هذا مجهود جبار في ذلك الزمن، وجميل حقيقي لا بد أن نظل مدينين له به للأبد إذا كنا منصفين.

أدهم صبري.. رجل المستحيل

لا بد أنك خمنت– عزيزي القارئ– أنني في منتصف الثلاثينيات تقريباً، وقد أخبرتك آنفاً أنني متزوجة، لكن هل أخبرتك بعد أنني أم؟ حسناً ها أنا أخبرك بذلك الآن، أنا أم، لدي ولد واحد، هذا الولد اسمه أدهم!

أدعي دوماً أن طفلي اسمه أدهم لأي سبب غير تعلقي الشديد في طفولتي وبدايات مراهقتي بأدهم صبري، ولكن الحقيقة أنه كان قابعاً هناك، في قاع الذاكرة عميقاً في القلب للدرجة التي جعلتني عندما كنت أنتقي مع زوجي الأسماء أثناء الحمل أخبره عرضاً أنني كنت أرغب دوماً في أن أسمي طفلي أدهم، وقد وافق لأسباب غامضة على الاسم دون نقاش رغم أنني كنت أخبره فقط ولا أقترح الاسم أصلاً، وهكذا أصبح طفلي أدهم، أضحك من قلبي عندما أخبر أحد ما عن اسمه ويعلق «أدهم صبري»، أشعر بالدفء في قلبي، وأن هناك تاريخاً ما يجمعني بهذا الغريب العابر الذي دق اسم طفلي في عقله جرس أدهم صبري.

كان أدهم صبري– رجل المستحيل– بطل طفولتنا، القوي الذكي العطوف الرومانسي الوطني المتدين، مثل أعلى يصلح للأولاد كي يقتدوا به ويحلموا أن يكونوا هو يوماً ما، وفارس أحلام يصلح للفتيات كي يحلموا بحبه، كان أدهم صبري مثالياً جداً، وكنا صغيرين لا نستطيع الحكم على الروايات أدبياً، ولكنه للحق قدم لنا ساعات من المتعة الصافية، وأصبح رجل المستحيل بطلنا الخاص.

كانت روايات أدهم صبري تسلية مناسبة جداً لجيلنا الذي كان محافظاً، قبل أن تفتح الدنيا مصراعيها، أرست داخلنا مبادئ وقيم تشربناها ورسخت في عقولنا دون أن ندري وبأسلوب مباشر تماماً ولكننا كنا صغار فابتلعناها، أحببنا الوطن الذي يستحق الموت من أجله، تعلمنا أن نكره إسرائيل وأن نعادي سونيا جراهام، واقتنعنا أننا أقوياء وأذكياء وأن وطننا لا يقهر، صحيح أن نبيل فاروق نفسه أسهم بعدها بسنوات طويلة بآرائه السياسية ومواقفه بعد الثورة في أن يقهرنا ولكن لنعتبره درساً آخر علمه لنا نبيل فاروق، لا تثق أكثر من اللازم فربنا يكون صديقك هو عدوك ولكنه بارع في التنكر، مثل أدهم صبري تماماً.